عالم ما بعد التخمة المعلوماتية!

قدم العديد من مخرجي أفلام الخيال العلمي وقصصه على مدى أعوام طويلة أفلاما ومسلسلات متخيلة تتحدث عن خروج الآلات و”الروبوتات” عن سيطرة صانعيها ومبرمجيها، ورسمت لنا هوليوود صورة سينمائية عن ثورات وتمردات للآلة الذكية على أسيادها البشر، والسيطرة على مصائرهم وحياتهم.

هيمنة العالم الافتراضي

اليوم وفي ظل تدفق المعلومات والبيانات الهائل في الفضاء الرقمي وهيمنة العالم الافتراضي على تفاصيل حياتنا، ظهرت العديد من التحديات الجديدة المرتبطة بسيطرة هذا العالم على حياة الإنسان في ظل اكتسابه قوة عالمية من خلال قدرة الثورة المعلوماتية والاتصالية الطاغية على جذب كافة شرائح المجتمعات وتقديمها لبدائل تواصلية مجانية وفعّالة.
إن نظرة متفحصة اليوم الى التأثير المتعاظم لهذا العالم على حياة وواقع البشر يؤشر بوضوح إلى عمق السيطرة المتحققة لهذه الأجهزة الذكية وما تحمله من تطبيقات مبهرة ومتنوعة، على حياة الإنسان بشكل يوم، لننظر إلى هذا العالم بلغة الأرقام، نجد أكثر من 4.9 مليار مستخدم فعّال للشبكة العنكبوتية وحوالي 4.3 مليار يدخلون إلى 198 مليون موقع فعّال للإنترنت عن طريق هواتفهم الذكية، وما يزيد عن 7 ملايين مقال يتم نشره يوميا وأكثر من 500 ساعة من الفيديوهات يجري تحميلها على اليوتيوب كل دقيقة، حتى بات المستخدم يقضي ما يزيد عن ست ساعات يوميا على الإنترنت.

ثورة جديدة

لقد أحدث هذا العالم ثورة جديدة ستغير شكل الحياة البشرية تقودها التقنيات فائقة التقدم، فهي ثورة رقمية شاملة على مختلف المستويات، الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وذلك لأن التطبيقات الذكية تتعدد وتتزايد بصورة يصعب حصره، ثورة هائلة في كل مفصل من مفاصل حياتنا المهنية والعملية والعلمية والصحية والترفيهية والخدمية، وها نحن نشعر بتأثيراتها  في ثقافتنا وسلوكنا ونمط غذائنا وعلاقاتنا وخصوصيتنا التي باتت مكشوفة لا بل مسلوبة، حيث يستطيع أحدنا وهو في مكتبه أو غرفة نومه أو سيارته من إنهاء معاملاته مكان عمله أو في البنك والمؤسسة والسوق، وأن يضارب في الأسهم والسندات وشراء ما يلزمه والتواصل مع أي شخص في هذا العالم بكبسة زر.
هل يستطيع أحدنا أن يستغني عن هاتفه الذكي الذي يحمله في جيبه ويتضمن عشرات التطبيقات والوسائل وكما هائلا من المعلومات والبيانات التي باتت ترشدنا إلى وجهتنا وتصحح لنا أخطاءنا وتعلّمنا ما نجهله وتحيطنا بأحداث العالم السياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها؟
اليوم، وبعد اختراق الشبكة هواءنا لم تعد افتراضية بالمطلق، والشاهد على ذلك الكثير من الدلائل أو الحقائق، تمر بالقرب من شخص لا تكاد تعرفه، وفي هاتفك الخلوي تطبيق للفيسبوك وكذلك الشخص الغريب، وما هي إلا دقائق حتى يقترح عليك الفيسبوك أن تكوّن صداقة معه. ثمة ما هو أخطر، فالكثير منا سمع بإمكانية تجسس هواتفنا علينا، لكن ما يدعو إلى القلق أن عمليات التجسس لا تقوم بها الدول فقط، فاليوم باتت الشركات تفعل ذلك، ربما يقال إنها لغايات التسويق والإعلان، لكنها تبقى الفكرة الأعمق، لم نعد وحدنا في منازلنا. والشعور الذي تمنحك إياه الحواس الخمس أنك في منزلك وحيد، وآمن هو شعور زائف. اخضع نفسك لهذه التجربة، قلْ شيئاً أمام هاتفك عن رغبتك بالسياحة في أحد البلدان وما هي إلا لحظات حتى يقترح عليك تطبيق الفيسبوك مرة أخرى أن بإمكانك زيارة المكان الفلاني في البلد الفلاني.
لم يتفق العالم بعد على مصطلح للوجود الإنساني بعد القول إنه صار قرية صغيرة. ربما سيتوصل فلاسفة العصر إلى مصطلح آخر لكن بعد استيعاب حجم المتغيرات المذهلة التي فرضتها الشبكة العنكبوتية للانسجام بين العالمين، ولا أدري إن كان يمكن وصف العالم الإنساني اليوم بدلا من “قرية صغيرة” بوصفه “شريحة صغيرة”؟ ربما لن يبتعد الفلاسفة عن هذا المعنى مستقبلا.

الذكاء الاصطناعي

إنّ الثورة الرقمية الجامحة التي نعيشها اليوم هي أحد إرهاصات الثورة الصناعية الرابعة، بما تحمله إلينا من تغيرات معرفية وتكنولوجية مذهلة تقوم على الذكاء الاصطناعي بمختلف تطبيقاته وأطيافه في كل جوانب الحياة الإنسانية، حتى أن التحولات الرئيسية التي ستحدث في “مُجتمع ما بعد المعلومات” ستؤدي بصورة كبيرة إلى إعادة صياغة كثير من المفاهيم القائمة على أساس “التخمة” المعلوماتية والاتصالاتية الضخمة وإنترنت الأشياء والقدرة الهائلة على معالجة البيانات وربط العالم بعضه ببعض، بما يدلل على أن البشرية في مرحلة انتقالية، وأن المقبل سيكون أكثر غرابة وربما جنونا، في ظل تقلص مساحة الحضور الإنساني في كثير من القطاعات لمصلحة الحضور الآلي الذي يعكسه التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء.
هذه العوالم التي طورها الإنسان لينهزم أمامها ربما ذات يوم أو يفقد السيطرة عليها، والأخطر من ذلك أن تحل التكنولوجيا محل الإنسان في موجات الأتمتة، بما قد يؤدي إلى صبغ البشر بالصبغة الروبوتية وهذا قد يحرمهم من المشاعر الإنسانية والروحية. ويبقى السؤال المعلّق هل ستتحقق النبوءة التي تتحدث عن تمر الآلات الذكية والرجال الآليين والحواسيب الذكية على صانعيها وأسيادها البشر وتسيطر على مصائر الناس والحياة؟ ربما.

كاتب وباحث فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آصال أبسال:

    (والأخطر من ذلك أن تحل التكنولوجيا محل الإنسان في موجات الأتمتة، بما قد يؤدي إلى صبغ البشر بالصبغة الروبوتية وهذا قد يحرمهم من المشاعر الإنسانية والروحية) اه
    أخ خالد وليد محمود ، عملية صبغ البشر بالصبغة “الروبوتية” التي تجرِّدهم وتُفرغُهم من المشاعر الإنسانية والروحية لَمَوْجُودَةٌ بأشكال متعدِّدة ومتنوِّعة في تاريخ البشرية برمته منذ أقدم العصور، وحتى أقدم بكثير من بيان وتبيان أيما إرهاص مباشر أو لامباشر يوحي بإحلال التكنولوجيا محل الإنسان – والأمثلة التاريخية الملموسة والدامغة على هذين التجريد والإفراغ البشريَّيْن من المحتوى الإنساني والروحي لا تُعدُّ ولا تُحصى.. !!

اشترك في قائمتنا البريدية