عامٌ من الألم

حجم الخط
20

فوجئت أنني قابع في سريري في المستشفى منذ سنة كاملة.
حياة من الألم الذي لا يتوقف إلا أمام ألم جديد، كأن الإنسان مصنوع من مواد متقاطعة ألمها يعيد صوغ حياته.
ما كان لي أن أشكو، وأنا لا أشكو. لكن كمية الألم تفتت الصخر وتجعل الحياة تفتقد المعاني.
في حياتنا اليومية العادية، علينا أن نبحث عن المعنى. أما في حياة الألم، فعلينا أن نصنع المعنى.
من يصنع المعنى سوى من اكتوى بكمية من الألم لا تنتهي؟
وعندما أنهض من النوم لأكتب مقالي الأسبوعي ينفجر فيّ ألمٌ مضاعف كأنني ارتكبت كل الخطايا وكل الجرائم منذ فجر التاريخ.
لا أستطيع أن أصف الألم فهو شعور يضربك كمفاجأة، ثم حين يتخلى عنك للحظات يتركك كأشلاء عاجزة عن الحياة.
لا أحد وصف الألم أو كتبه، فنحن في ما لا يكتب.
في عالم من الأسى، نأمل أن ننتهي منه سريعاً لنعود إلى الحياة التي افتقدنا طعمها ولذتها، ولكننا لم ننسها ولن ننساها.
أتخيل أمامي بحراً من الألم، بحراً يهوج بي ويضربني في كل أنحائي وأنا أصرخ.
أنا الآن في انتظار الوقت، والوقت بطيء ثقيل سمجٌ لا يأتي.
لكنه في النهاية سيأتي مرغماً، سنأتي به مكبلاً كي يشهد أن حقنا في الحياة هو حق مقدس.
لن أعود بكم إلى آلام السيد المسيح أو إلى أوجاع مريم المجدلية، لكنني سأقول لكم إنها تجربة كبرى وأنا أعيش في وسطها.
هل تعرفون أحداً كتب الألم؟ دلوني عليه كي أستأنس به في رحلة العذاب التي أخوضها وحيداً. أرسلوه لي كي أقرأ له حكايتي وأستمع لحكايته.
لكنني عندما أجد رجلاً كهذا، أكتشف أنه يفر مني ويخاف من مواجهة ألمي وألمه، كأن الآلام لا تتقاطع.
هل الرأس مفصول عن الجسد؟
هل أستطيع أن أفكر برأسي بينما جسدي يتمزق؟
هذه هي لعبة الألم معي. أبدأ بالكتابة فأشعر بسكينة الروح تتنزل عليّ من رأسي إلى جسدي، لكن بعد لحظات تمتزج هذه السكينة بالألم الوحشي الذي يجتاحني، وأضطر إلى التوقف كي أستعيد صفائي من جديد.
هذه اللعبة أرهقتني ولا أعرف كيف ألعبها، كل ما في الأمر أنني ألجأ إليها مستغيثاً كي أجد مكاناً آمناً في نفسي.
هل هناك مكان آمن حين يضربك الألم؟
لا أدري. كلنا لا يدري، لكننا نحاول كي نحافظ على الحد الأدنى من علاقة الرأس بالجسد.
أذكر يوم 12 تموز 2023 حين كنت أقف في طوارئ مستشفى «أوتيل ديو»، وفجأة ضربني ألم لا قدرة للإنسان على تحمله، فصرت أطلب المورفين من الممرض ثم طلبت الموت كي يتوقف هذا الألم، ثم غبت عن الوعي، لأجد نفسي بعد يومين في غرفة العناية الفائقة.
كان الألم وجعاً لا سابق له، ولم أكن أتخيل وجوده بهذه الوحشية، لكنه كان هناك يتربص بي.
كان ذلك ليلة عيد ميلادي، وكانت ابنتي قد أعدت عدة العيد، وفجأة تحول العيد إلى عكسه، وصار عرس الألم هو البديل.
هل تذكرون؟ أنا لم يعد لي طاقة على التذكر، أنا الآن في السرير أروي لكم ما أحسست به في ذلك اليوم والأيام التي تلته، وأريدكم أن لا تنسوا أن الألم قد يأتي من حيث لا ندري ويستوطن أجسادنا وأرواحنا ويقيم بيننا.
ورغم كل ذلك، فأنا لم أفقد الأمل ولا الشجاعة.
كيف يفقد الأمل من هو محاط بأصدقاء ومحبين ومن يعيش تجربة حب لا مثيل لها ومعي مجموعة من الأطباء نذروا وقتهم لإنقاذي؟
كيف يفقد الشجاعة من امتزجت تجربته بالتراب منذ بداية المقاومة الفلسطينية؟
غزة وفلسطين تُضربان بشكل وحشي منذ ما يقارب العام أيضاً، وهما صامدتان لا تتزحزحان. إنهما النموذج الذي أتعلم منه كل يوم حب الحياة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    ألف سلامتك أخي الياس وتمنياتنا لك باالشفاء والصحة والعافية وطول العمر. تذكرت مقولة الصحة تاج على رؤس الأصحاء لايراه إلا المرضى. ولك خالص محبتي.

  2. يقول عبود:

    يقول سقراط بعد الألم تأتي اللذة بالنسبة لسقراط لا لذة بدون ألم ولا ألم بدون لذة ..الألم واللذة أضداد

  3. يقول مواطنة لبنانية-فرنسية:

    الياس خوري سلامتك ألف سلامة من الوجع، يا رب …🙏🙏🙏
    وخاصة حسب وصفك له…😰
    أكيد كان أفضل أطباء حواليك عم يهتموا فيك ويخففوا عنك هالوجع .

    Chez nous , là où je travaille dans une clinique privée, il y a un protocole pour les douleurs pour chaque médecin et en règle générale, c’est l’anesthésiste qui met en route ce protocole, allant du plus simple antalgique jusqu’à la morphine injectable ou
    bien Sevrédol.
    en comprimés toutes les heures jusqu’à ce que la douleur tombe à moins de 3/10 sur une échelle de 10/10
    Il y a également le Skenan 2 fois par jour
    .car il a une action sur 12h .
    Il existe en 10 mg ou 30 mg.

    بالمختصر ، وأكيد عندك فكرة عن الناس التي لا تشعر بالألم ابداً مهما كان حجم هذا الوجع ، بهيك ظروف يا ريت كنت واحد منهم.
    خفف عنك ، بيقولوا في طريقة الشهيق والزفير وتساعد كتير ع تخفيف الوجع لانها بتزيد كمية الأوكسجين بالجسم , ببترخي الواحد وحتى بيساعده للنوم.
    الله يكون معك ويخفف عنك ، يا رب…🙏
    إنشالله اخبارك بتكون أفضل الأسبوع القادم.
    غير هيك ، حابي قلك السلام على أسمه ربنا ، وينه، أنت وغزة وجنوب لبنان ، وين ما كان قايمة القيامة ، حتى فرنسا كمان شوي بتقول في حرب أهلية ومش قادرين يتفقوا بعد على تعيين رئيس الوزراء بعد غابريل أتال.

    كن بألف ألف خير لأننا منحبك كتير كتير كتير الياس خوري…💝🌺☘️

  4. يقول أليصابات خوري - كندا:

    تحية للأخ إلياس خوري ونتمنى له الشفاء العاجل ودوام الصحة والعافية
    تحية خاصة أيضا لكل من الأخ الناقد الثقافي والأخت المؤمنة بالله على الكَلِمِ الألمعي الهادف
    وتحية كذلك إلى المواطنة اللبنانية – الفرنسية على مشاعرها النبيلة والمبثوثة من أعماق الفؤاد
    تنويه إلى أحدهم –
    غير صحيح أن الصوفي يجد في الألم لذة ومتعة وإلا كان مريضا مازوخيا بالمعنى السريري للكلمة

  5. يقول محمود حداد/ لبنان:

    سلامتك الياس أفندي. أرجو لك ولنا التعافي الكامل والسريع.

  6. يقول Ahmed:

    سلامتك انشاء الله…وبالرغم من كل الالم مازلت لم تتخل عن صناعة الكلمات.

  7. يقول سمير:

    اتفق مع السيد عبد الله العقبة بأن التفاعل
    الصوفي مع حالة الالم تخفف كثيرا من الالم..
    فقد جربت ذلك عمليا فكانت النتيجة مذهلة.

  8. يقول عربي عراقي:

    مساكين بالفعل من يصرون على الغلط
    ذاك من أعراض الأنا المتورّمة
    تحية ود للكاتب

    1. يقول عربي عراقي:

      وتحية خاصة للأخ الناقد وللأخوات أليصابات والمؤمنة والمواطنة
      *

  9. يقول نجمة:

    سلامتك الف سلامة الاخ الياس المحترم الله يعافيك يا رب و لا يحرمنا من مقالك الاسبوعي الشيق بلسم القلب و الروح الذي ننتظره بشغف

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية