عباءة الإمام وطربوش الخليفة ولحية الحاكم بأمر الله!

بين عباءة الإمام وطربوش الخليفة ولحية الحاكم بأمر الله، يبحث الشرق الأوسط عن هويته الضائعة في الخرابات التي خلفتها ظاهرة «مصادرة السياسة»، التي أنبتتها ورعتها أنظمة أمنية استبدادية، ارتدت ثوب القومية العربية؛ فارتدّت بمجتمعاتها إلى حالة الجاهلية الأولى، حيث لا يكون الخلاص منها إلا بإشهار سيف «الإسلام السياسي»، الذي فر بنفسه من الاستبداد ومصادرة السياسة إلى المساجد، أو كهوف الجبال. وقد أدت «مصادرة السياسة» إلى حرمان الطبقة المتوسطة من الفضاء العام، الذي يتحقق فيه وجودها المعنوي، وتتجسد من خلاله هويتها.. كما فقدت بسببها الأقليات القومية والدينية والمذهبية إمكانية التعبير عن نفسها، والخلاص من الحرمان أو التهميش.

الخلاص من الاستبداد بداية طريق الهداية للهوية المفقودة، والتغيير لا تحصل عليه الشعوب هدية على طبق من ذهب، وإنما يحدث عبر رحلة شاقة مليئة بالآلام والأحلام والأمل والعمل

هكذا انتهت أنظمة الحكم القومية وسقطت بلا أسف عليها، بل إن سقوط كل منها جاء مصحوبا باحتفال عارم في الظاهر وفي القلوب، يجمع بين تطلعات الطبقة الوسطى إلى فضاء عام مفتوح تحقق فيها ذاتها، وفرحة المحرومين والمهمشين بقرب تحقيق أحلامهم في الكرامة، التي تحفظ لهم إنسانيتهم. كما جاء هذا الاحتفال مصحوبا بالاعتقاد، عن حق، بأن الخلاص من الاستبداد هو بداية طريق الهداية إلى الهوية المفقودة، مع أنه طريق يختلط فيه الشك باليقين، والكابوس بالحلم، لكن التغيير لا تحصل عليه الشعوب هدية على طبق من ذهب، وإنما التغيير يحدث عبر رحلة شاقة مليئة بالآلام والأحلام والأمل والعمل.

الطريق من إدلب إلى دمشق

المثير للدهشة في الحالة السورية، التي تحولت إلى حديث العالم، هو أن الطرف الذي مهد الطريق لفراغ السلطة السياسية، لم يكن يخطر بباله أن الأمور ستسفر عن السقوط السريع لنظام «البعث العربي الاشتراكي»، الذي تحول إلى نظام فردي وراثي استبدادي، استمر لأكثر من نصف قرن. وجاء التغيير من الداخل، وليس من الخارج، على العكس مما حدث لنظام «البعث العربي الاشتراكي» في العراق عام 2003. وكأن سقوط نظام الأسد قد جاء كعرض جانبي غير متوقع. لقد كانت إسرائيل تريد «نظام الأسد» أن يبقى في دمشق ضعيفا محاصرا في احتياج دائم لها، لأن أحد أهداف سياستها الخارجية هو أن تتحقق قوتها وتتعاظم بوجود أنظمة ضعيفة غير مستقرة تحيط بها. ضعف الأنظمة العربية المحيطة بإسرائيل يمثل واحدا من مقومات قوتها، إلى جانب المقومات أو المحركات الأخرى مثل احتكار السلاح النووي والتفوق العسكري النوعي الساحق على كل جيرانها. لقد قطعت إسرائيل طريق طهران إلى دمشق وبيروت، فخلف ذلك فراغا سياسيا وعسكريا، كان لا بد لقوة أخرى أن تتقدم كي تملأه. صحيح أن تركيا كانت غاضبة على «الأسد»، الذي رفض مصافحة اليد الممدودة له للتعاون بدلا من المشاحنة. وصحيح أن قواتها ربما كانت من ضمن القوات التي اقتحمت بوابات دمشق في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024. لكنها، وقد كانت الراعي الأكبر للولاية الإسلامية الصغيرة في إدلب لمدة 7 سنوات، لم تبادر إلى المشاركة في إسقاط الأسد، إلا بعد أن أنهت إسرائيل مهمتها في إصابة حزب الله في لبنان بالشلل، وضرب مراكز القيادات العسكرية الإيرانية في سورية في الرأس، وتجريد النظام السوري نفسه من أي قدرة على الرد. عندما حدث كل ذلك فإن نفوذ عباءة الإمام ذهب مع الريح، وأصبح الطريق من إدلب إلى دمشق مفتوحا بلا بوابات مغلقة.

الطريق من دمشق إلى الرياض

اعتقدت إسرائيل أنها أقرب إلى التطبيع مع السعودية بعد إخلاء سوريا من النفوذ الإيراني، وأنها أثبتت جدارتها لتكون الزعيم المفدى لمحور من الدول العربية السنية ضد إيران، وأنها أصبحت أقرب من أي وقت مضى للحصول على «شرعية» عربية لمبدأ «سلام القوة» الذي استعرضته في غزة، لكن يبدو أن وصول النفوذ التركي إلى دمشق قد نسف أحلام إسرائيل الثلاثة (التطبيع مع السعودية وزعامة الدول العربية السنية وتحقيق مشروعية سلام القوة)، وحوّلها إلى كابوس، يقلق يومها في اليقظة ويقض مضجعها في المنام. ما حدث في سوريا أسقط، ولو مؤقتا، ما كانت تطلق عليه إسرائيل «محور الشر الإيراني»، لكن الفراغ الناتج عن هذا السقوط لا تستطيع هي أن تملأه. وقد سارعت تركيا إلى ذلك بالتعاون أولا مع قطر، ثم باستخدام نفوذها في دمشق للوصول بقوة ويقين إلى الرياض، التي استجابت بترحاب وعزم على مساعدة السلطة الجديدة في دمشق في مرحلة الانتقال وتقديم المساعدة والعون الإنساني للشعب السوري. ونحن الآن نرى ملامح محور إقليمي سني جديد يتشكل على التوازي مع التغيير السياسي في سوريا، يمتد من أنقرة ومعها الدوحة إلى دمشق والرياض وقد يشمل في القريب دولا أخرى ما تزال مترددة مثل مصر والإمارات. هذا المحور ليس فيه مكان لإسرائيل، وقد كانت أبوظبي ومعها مصر من أقوى محركات الدعوة لعودة الدولة السورية التي كان يمثلها بشار الأسد إلى جامعة الدول العربية، لكن الواقع الجديد في سوريا سيبرر وجود ديناميات جديدة لإعادة تشكيل العلاقات الإقليمية. التحدي الذي يواجه المحور، الذي ما يزال قيد التشكل، هو ضبط التنافس السعودي – التركي على قيادة العالم الإسلامي داخل صيغة موجبة (win – win) وليس صيغة سالبة تتسبب في خسارة واحد منهما أو كليهما، وإنهاء تردد كل من مصر والإمارات تجاه النظام الجديد الذي يتشكل في سوريا.
إذا نجح تشكيل محور أنقرة – الدوحة – دمشق- الرياض، سيكون له شأن كبير في إفشال المخطط الإسرائيلي في الشرق الأوسط.. محور هذه العواصم الأربع إذا انضمت إليه أبوظبي والقاهرة، سيترك بصمة كبيرة على مستقبل تسوية القضية الفلسطينية، ويعيد إلى الواجهة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره سياسيا، ويقطع الطريق مؤقتا على التطبيع بين إسرائيل والسعودية، كما إنه سيقلل الحاجة إلى وجود المنتدى الاقتصادي العربي – الإسرائيلي (منتدى النقب)، ويوقف محاولات الدمج العسكري بين بعض أسلحة دول المنطقة وقوات القيادة المركزية الأمريكية، التي تعمل الآن في تنسيق مع قيادة الجيش الإسرائيلي أكثر من تنسيقها مع هيئة الأركان المشتركة الأمريكية. قبل سوريا كان يتصارع على النفوذ في الشرق الأوسط مشروعان: الشرق الأوسط الإسلامي بقيادة إيران، والشرق الأوسط الإسرائيلي الذي يقوم على تحالف سني عربي مع إسرائيل ضد إيران. لكن بعد سقوط الأسد، والتقارب السعودي – التركي، فقد انفتح الباب لإقامة محور أو تحالف جديد في المنطقة تحت قيادة السعودية وتركيا. وإذا كان لدى الدبلوماسية الإيرانية الحصافة والحكمة الكافية للتقارب مع السعودية وتركيا، فإنها بذلك تستطيع قطع الطريق على إسرائيل للصيد في الماء العكر؛ فالوضع في سوريا لم يستقر بعد، وما يزال محاطا بالكثير من عوامل التهديد.

لا مكان لحاكم بأمر الله

شاعت في الآونة الأخيرة، في أنحاء مختلفة من العالم، مقولة إن الله اختار حكاما بعينهم لإنقاذ بلادهم، وإن هؤلاء المختارين مسؤولون أمام الله، لأنه اختارهم وعليه حسابهم. غير أن أحدا منهم لم يطلع شعبه على منشور أصدره الله باختياره، أو تفويضه. الغريب أن ما يشيع في هذا الشأن ينتشر في بلدان تدعي الديمقراطية مثل حالة الرئيس المنتخب دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وفي بلدان مصابة بلوثة سياسية دينية متطرفة، مثل حالة نتنياهو في إسرائيل! ومن ثم فإن ادعاء بعض الحكام في بلاد المسلمين بأن الله اختارهم ليس استثناء فيه غرابة. المشكلة التي يجب أن تنتبه إليها شعوب المنطقة التي ننتمي لها، ويجب أن ينتبه إليها حكامها، خصوصا جيل الشباب، هي أن موجة التغيير التي بدأت في بعض الدول العربية منذ مطلع القرن الحالي كان محركها الأساسي هو، مصادرة السياسة، وتضمنت المحركات الأخرى انغلاق الفضاء العام، وزيادة معاناة الطبقة المتوسطة والمحرومين، كل بقدره في النوع والكم من المعاناة. وكما عبر كثير من السوريين، فإن الوضع بعد سقوط الأسد مهما يكن هو أفضل مما كان، فلن تشهد سوريا أسوأ مما شهدته. لكن بعد أن تنتهي «سكرة» الفرحة بزوال رمز الظلم والاستبداد، تحل بسرعة لحظة «الفكرة» في ما يجب أن يكون عليه الحال. وفي لحظة الفكرة يستيقظ الوعي ويصحو الضمير، ويراود الحلم حقائق الواقع، من أجل خلق فضاء حر فسيح، يتسع للمساواة في التنوع والتعددية ومعايير العدالة والحق. في هذا الفضاء الحر لا يوجد مكان للحاكم بأمر الله. ولن تقبل الشعوب المظلومة بأن تنتقل مغمضة الأعين، لتهتف باسم فتوة جديد وتصفق له، بينما هو يرفع عصاه عليهم، بعد أن أقصى فتوة سابق عن مقعده.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    نموذج إقتصاد دول مجلس التعاون أساسه ثلاث أركان:
    – Business Entertainment.
    – Entertainment Business.
    – AI Business.

    يجب الإنتباه إلى أن الفرق بين (تصورات أحلام) أهل (الفلسفة) عن (خلاصة خبرة) أهل (الحكمة)، هو كالفرق بين أي نظرية، وبين واقع ما ستحتاجه عند التطبيق العملي لها على أرض الواقع،

    تعليقاً على إشكالية عنوان (عباءة الإمام وطربوش الخليفة ولحية الحاكم بأمر الله!) https://www.alquds.co.uk/?p=3441845

    لأن لغة قانون وثقافة تعامل في نظام آلة بيروقراطية (دولة الحداثة) في نظام الأمم المتحدة ما بعد عام 1945 شيء مختلف تماماً، أي كل كيان من كيانات سايكس وبيكو بغض النظر كان النظام ملكي أو جمهوري، رأسمالي أو اشتراكي أو (إقتصاد كيبوتسات الشيوعية) في الكيان الصهيوني،

    عن أسلوب إدارة وحوكمة الدولة العثمانية في مفهوم (إقتصاد الوقف) بشكل عام، كما ورد في (الأرشيف العثماني)،

    ولذلك السؤال، لماذا (تركيا) تختلف عن (إيران) بالنسبة إلى حجم ميزانية الحرب المطلوبة في الكيان الصهيوني؟!

    تعليقاً على طلب زيادة 4 مليار أخرى إلى الميزانية، كما ورد تحت عنوان (لجنة إسرائيلية توصي بالاستعداد لمواجهة عسكرية محتملة مع تركيا) https://www.alquds.co.uk/?p=3441996

  2. يقول حبيب الصفا:

    (إذا نجح تشكيل محور أنقرة – الدوحة – دمشق- الرياض، سيكون له شأن كبير في إفشال المخطط الإسرائيلي في الشرق الأوسط،،،،،،)

  3. يقول عمر علي:

    مقال تحليلي جيد وشكراً للكاتب.
    هناك تنافس بين الامارات المتحدة و السعودية كلاهما يريد قيادة العالم العربي وكلاهما لا يريدان اي دور تركي في المنطقة بل ان الامارات تفضل وجوداً اسراءيلياً عنه تركيا ً.
    المهم صمود الشعب الفلسطيني في غزة وتوقف السلطة الفلسطينية عن ملاحقة معارضيها في الضفة الغربية.
    ادعو الكتاب والإعلام والمثقفين إلى دعم موقف قطر
    وبالرغم من المصالحة التركية المصرية لا اعتقد ان النظام المصري يريد السير في هذا الطريق. اي تكوين اجماع عربي اسلامي يمارس الضغط من اجل انسحاب اسراءيل من الاراضي العربية الاسرائيلية سيحاول النظام المصري ايجاد العلل لعدم مسايرة الظروف الجديده في سوريا وفلسطين لانه وكما الحال مع غالبية الدول العربية انها تخشى اسراءيل لان الاخيرة مدعومة من دول الشمال القطبي تم

اشترك في قائمتنا البريدية