بمرافعة طويلة، كمنام طويل، أمام القذائف الخرساء. أمام اليأس والرعب، يصرخ عبدالوهاب العزاوي، ليفكّك الحصار. حصار دير الزور الثاني الذي بدأ في النصف الثاني من حزيران 2013م. بعد الحصار الأول في آب 2011م. وفيما يشبه التوثيق الحسّي للحدث بدأ بكتابة مذكراته للتخفيف من هول كتلة الخوف. أو هكذا بدأ مشروع كتابه «موزاييك الحصار» الصادر ضمن سلسلة شهادات سورية عن بيت المواطن للنشر والتوزيع. ليخطب بصوت لا يصطدم بأي أحد. لأنه يؤدي مرافعته أمام مقاعد فارغة. وجمهور متخيل، ومجهول الهوية.
إنه يكتب لمقاومة اليأس والجنون والاستسلام. وهذا هو منزعه التعبيري. أي أن كتابته تنبع من حاجة ملّحة للتعبير وليس كحالة ترف. ولأنها تنبع من داخله كجرح، لم تتجنّس. فكتابه لا هو بالنص الشعري ولا هو بالحكاية المعلّبة في رواية. مع حرصه الشديد على ألاّ يسقط خطابه في الرثائية، والفضح الممجوج لوحشية الديكتاتورية ضد البشر. ومع الأخذ بالاعتبار أن الحصار شرط حياتي معقد يصعب الإلمام بتداعياته أو إعادة تدوينه كتابياً بشكل كلي. حيث تفادى توثيق بعض المقاطع التي تعريه وتشي بضعفه وعجزه.
في تلك الظروف الاستثنائية تغيرت قيمة الأشياء، فربطة الخبز اليابسة، الذي بدأ بالتعفن، صار حدثاً جللاً في وقت الجوع. حتى لغته لم تعد تسعفه أو تكفيه. والتغيير المحلوم به تأمُّلياً بالأمس أصبح الآن محسوساً ومعاشاً. أما المعارف فالأفضل أن يكونوا قلة. لأن التقشف في الأصدقاء والأحبة يقلل من الأوجاع. إذ يجعل الشهداء مجرد شهداء، أو أرقام، أو مجرد تفاصيل يومية صغيرة قابلة للنسيان. كما يختصرونهم في تلك العبارة المهينة ( وقود الثورة ). فأن تعرف الشهيد بشكل شخصي يجعل من النسيان أمراً صعباً ويخلف وراءه مرارة دائمة.
وبشيء من الحسرة يتأمل المطبّلين للنظام الذين تحولوا فجأة إلى ثوار. ويقف مبهوتاً أمام كم المنشقين الذين كانوا عصب النظام. فيما تفتح المعارضة صدرها بغباء لذلك الطابور من الإنتهازيين بحجة تشجيع الإنشقاق. مفضّلاً أن يبقى معارضاً بدل أن ينصّب جلاديه كزعماء ثوريين. وهنا يستدعي قولة سعد الله ونوس متسائلاً: هل نحن فعلاً محكومون بالأمل؟ ليقرر، باعتباره من حزب الأمل، أن السوري محكوم بالمعارضة في المقام الأول، ثم بالأمل. فالمعركة أطول مما تصوّر ذات غفلة رومانسية.
أما أسوأ ما تلقي به تلك الانتفاضة المتوجة بالحصار فهي الحوارات الداخلية العقيمة بين الناس العاجزين عن فعل أي شيء. حيث يشبّه حوارات الخواء تلك بالجروح العميقة تحت الجلد. كما يشبّه القذائف بصفقة الباب الصاخبة التي تصفع الجميع في آن واحد. وهو حدث يتكرر طوال اليوم ولا ينتهي. حيث تحول إطلاق النار إلى حدث دائم ليرفع من منسوب إحساسه الفراغي. فهو يتوقع قذيفة تخترق الجدار، أو يتمنى رصاصة تعبر الشباك ناحيته فتخلصه من ذلك الكابوس.
تحت الحصار تغدو الأيام متشابهة، أو بشكل أدق كلها أيام عطل، كما يقول. ولكنها متوترة. حيث يبقى السؤال عن الأيام وتتاليها روتينياً. وفي ظل انقطاع الاتصالات اضطر لاختراع وسائل جديدة لقياس الوقت، كفرض تقليم الأظفار الذي اعتاد على تأديته كل ثلاثة أو أربعة أيام، كمقياس للزمن المقلم. وهكذا صار ينظر إلى تعقيدات فكرة الصبر. حتى مفردة الكوابيس، الذي باتت ترافقه، تبدو في هذا الصدد مخيفة وإنشائية وموضوعية بقدر تورطه الشخصي في الكابوس، أو قدرته على التفريق ما بين الواقع اليومي الطبيعي وإلحاح الكابوسي.
المشاهد العبثية أثناء الإنتفاضة والحصار أكثر من أن تحصى. حيث دخلت قاموس الحياة اليومية متوالية من الكلمات المثقلة بالعنف كالإعدام والقتل والذبح والتصفية. وهي كلمات ممرضة يتم تداولها عن أشخاص سيئين وليسوا بالضرورة من القتلة. وللتحرّر من كل تلك الآفات صار يبحث عن مزايا يمكن أن يهبها الحصار لطبيب لم يكن متفرغاً بما يكفي لعائلته. وعليه، عاد إلى أحضانها. واستكمل بعض مشاريعه الكتابية والفنية، وانهمك بممارسة الرياضة ومشاهدة الأفلام المميزة للخروج من ذلك الطقس المعتم.
وما أن يشتد إطلاق النار حتى يجتمع الجميع في غرفة والديه باعتبارها أكثر غرفة محمية. فيما اقترح أحد أفراد العائلة أن يتفرقوا على الغرف حتى لا يقضوا جميعاً بقذيفة واحدة. ليستمر الجدل، فيما تنهمر القذائف في الوقت الذي يفترض أن يكونوا فيه يغطون في سبات عميق. حيث تتداخل أزمنة الرصاص في المدينة التي تستقبل نصيبها في المساء والفجر بايقاعات مختلفة. وأخطرها وقت الإفطار في رمضان وما يقابلها في الفجر.
وبعد أن يطول الحصار تغدو الأحاديث مملة ومنفّرة، نظراً لانقطاع المحاصرين عن العالم الخارجي. واجترارهم البليد لمآسيهم وخيباتهم. ولذلك صار يدرّب نفسه على الصمت ويلجأ إلى الشرود كوسيلة للدفاع والفرح. ولكي يتفادى سماع الأخبار من التلفاز، الذي يشكل مصدرها الوحيد. ويقدم صور المجازر بنظرة سياحية. في ظل غياب كل وسائل التواصل مع العالم.
الغالبية في دير الزور من المعارضين للنظام، حسب رأيه. ولذلك يصاب الناس هناك بالحيرة والانفصام إزاء أي فرد يقرر الانشقاق فيُقتل قبل تحقيق حلمه. فالتداخل البشري يدفع الجميع لتحميل النظام مسؤولية القتل العام. أو من يوصف بالعدو المطلق. إذ يعلن الناس فرحهم بنجاة أي فرد وتمكنه من الوصول إلى منطقة الصديق المطلق. وأحياناً يفرحون لمقتل جندي وهم لا يعلمون أنه كان يراود نفسه بالانشقاق، أو في طريقه إلى ذلك.
لقد اكتشف أن المثقفين في سوريا بكل تحزباتهم وانتماءاتهم وطوائفهم لا يعرفون الشعب. فكل ما يصدر عنهم مجرد تعميمات اختزالية مريضة. لأن علمانيتهم ليست أصيلة، وطائفيتهم مغلّفة بقشرة رهيفة من الخداع والأكاذيب. حيث توالت تنظيراتهم القاصرة فيما كان الناس يُدفنون في الحدائق. وتزدحم أمام الأنظار مشاهد الصدور المثقّبة والرؤوس المقطوعة. فيما كان هو يتأمل الجنازات وموجات العنف والتديُّن الصاعدة. ويستبشر بوجود طلاب متمردين وواعين.
عند خروجهم من الحصار الأول كانت الطيور والكلاب تحتل الشوارع. فهو لا يتحدث بمجازات لغوية بل بواقع قيامي. محكوم بما يمليه منطق الحصار من حيل التموين والهروب وتأمين المال والحاجيات والظهور بمظهر صلب مقابل الإهانات والإحساس الدونكيشوتي بالإمتلاء والكبرياء وفي وجه آلة القتل. حيث يكثّف كل مشاهداته ومشاعره في جوهر حسّي، مستدعياً خزينه القرائي ليقارن بين ما عاشه واقعاً وما قرأه كمرويات، وفاحصاً طبقات الموت أو الفروق اللغوية بين الميت والمقتول والقتيل.
عبدالوهاب العزاوي ليس ممن يمجدون مدنهم. إذ يعلن بصراحة أنه يتعامل مع دير الزور ببرود شديد وبدون هجائية. مؤكداً على انتمائه إلى دمشق، بما هي حاضنة لأحلامه ولأطوار نموه الحسّي والأيديولوجي. إلا أن الإنتفاضة غيرت نظرته لمدينته. ووجد في الحصار فرصة للبدء معها من جديد. فهي الآن تفتح باب الحديث الرومانسي الجميل عن الثورة. حيث الحلم والحنين إلى الثورة الجميلة التي لم تأت بتدخل خارجي. تلك الفكرة الطوباوية التي تحاشى الحديث عنها رغم إلحاحها عليه، ليبدد بسرده الشفاف طقس البارود الذي خيم على المكان وبدّد الرائحة الغامضة للورود الصغيرة.
٭ كاتب وناقد سعودي
[email protected]
محمد العباس