أجود مجبل
للشاعر العربي منذُ البدايات الأولى، صلةٌ حميمةٌ مع الغناء، انعقدت عبر اشتراك كلا الفنين: الشعر والغناء، بما يكمل أحداهما الآخر، فلا من شعر إلا ويجد سبيله للغِناء، وقد كفانا الأصبهاني في موسوعته الأثيرة «الأغاني» مؤونة الاستدلال على ما نذهب إليه، ناهيكَ مما ورد في شُذيراتٍ متناثرة هنا أو هناك في شعر السابقين واللاحقين، بما للغناء من صلةٍ مشيمية بالشعر، والعكس صحيحٌ أيضا، فمن السابقين، ما قاله حسان بن ثابت:
تغن في كل شعرٍ أنت قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ومن المُحدثين ما ذكره الشيخ الوائلي مُعرِبا عن أثر الشعر في النفوس، وذلك في قوله:
إنْ تَطْرِبِ الأَرواحَ فَهُوَ غِنَاؤُها
وإذا شَجاهَا الحُزْنُ فَهْوَ الأَدْمُعُ
والشواهد التي تنسجم وسياق ما نحن بصدده، كثيرةٌ لا حصر لها، ولا حاجة لأن نسيحَ في ما أطنب النقاد القُدامى والمُحدثون في بيان ما للشعر والغناء من مشتركات فنية، فهنالك من نهض إلى هذه المهمة، أما ما يستوقف الباحث أن شاعرا عراقيا مثل أجود مجبل له تجربته الشعرية المُميزة يقف متأملا تارة، ومستلهِما تارة أخرى في سيرة أحد كبار قامات الغناء العربي الحديث وما تركه من منجزٍ في الغناء والموسيقى، ألا وهو المُطرب الراحل عبد الحليم حافظ، فهذا ما يدعو لأنْ نقفَ على ما وراء هذه القصائد من دلالات، ففي ثلاث قصائد للشاعر، كان له أنْ يجوب في سماء عبد الحليم المغني والإنسان، وأنْ يستعيد ذكرياته التي ارتبطت بتلك الأغاني، التي حملت آمال جيلٍ من الشباب وآلامهم في خمسينيات القرن العشرين وما بعدها، تلك المدة التي سطع فيها نجم الراحل عبد الحليم، ففي قصيدته (نجمة) التي بدأها بقوله:
حينَ غنى (موعود) عبدُ الحليمِ
سَقطَت نجمةٌ بِكأسِ النديمِ
نجد الشاعر يتخطى الوقوف على عتبة الأغنية، إلى ما يتصيده بإحساسه من دلالاتها، فيتحدث لنا عن مشاهدات تلك النجمة وجعلها تروي «للساهرين السُكارى» ما مرت به من أحداثٍ جِسام منذ «الانفجار العظيم» وصولا إلى خلاصةٍ تعبرُ عما يريد الشاعر قوله:
أنا شاهدتُ كيف ماتَ المُغَني
وتَفَقهْتُ في الخَرابِ العَميمِ
ورأيتُ البِلادَ تَخنُقُ فِتيانا
تَمَنوا في العُمْرِ بعضَ النسيمِ
ليس ينجو مِن قَبضةِ الحُزنِ إلا
مَن أتى حُزنَهُ بِقلْبٍ سَليمِ
ولعل المتلقي اللبيب، يُدرك مغزى «وجهة النظر» التي طرحها الشاعر عبر شخصيته المتخيلة (النجمة) التي يُحيلها عبر آلية التأويل للرمز في النص الشعري، إلى أن الشاعر انطلق من رمزية الشخصية التي بصدد استذكاره، وهو المطرب (النجم) الذي سطع في سماء عالم الموسيقى العربية، فكان له أنْ يخطف بنوره الأضواء، بما تركه من أغانٍ حملت من المعاني ما تترك السعادة في القلب، وترفد المشاعر الإنسانية بالعواطف، وكأن الشاعر يستلهم من مضامين الأغنية ما يدفعه لصياغة ذلك الخطاب الذي توجه حصرا «للساهرين السُكارى» كونهم الأقرب لهمسات تلك النجمة، والأكثر تعلقا بأحلامهم البعيدة عن إرهاصات الواقع، والخُلاصة أعلاه، تنم عن رغبة دفينة في نفس الشاعر، أنْ يسود الجمال مقابل «الخراب العميم» ويعلو صوت الغناء المعبر عن الذات المنعتقة من إسار الحزن، نعم هذا ما أزعم أن الشاعر أراد التعبير عنه.
وفي قصيدةٍ أخرى بعنوان (هدايا حَليم) يستحضر الشاعر باقة من أغاني حليم في توظيفٍ ذكي يعبر عن احتفائه بتلك الأغاني، وما تركته في مشاعره وذكرياته من أثرٍ طيب يُشيع البهجةَ والسعادة، وذلك في قوله منها:
(بأمرِ الحُب) صارَ لنا يُغَني
(حَليمُ) فينزِلُ المطرُ المُفاجِئْ
كما (زَي الهَوى) حَفَرت عميقا
بِقلبِ فَتى يَشيبُ بِلا مَساوِئْ
بِها تَشتاقُ (أحضانُ الحبايبْ)
إلى جِيلٍ على الألحانِ ناشِئْ
يقولُ لهُمْ (أعز الناسِ) أنتمْ
لِذا (دُقوا الشماسي) في المَرافِئْ
ومن شأن هذا التوظيف اللغوي، أن يشكل (بنية تصويرية تستلهمُ داخل الشاعر لتكون ذات نهجٍ، يُشيرُ إلى اندماج عالمه، بعالم الحس الذي حوله إلى حركةٍ متناميةٍ مُتصاعدة) [تجليات الرماد، تغريد مجيد] فضلا عما يوفرهُ ذلك التوظيف من استحضارٍ للذكريات المُصاحبة لزمنٍ عاشه في ريعان الشباب، حين تلقف تلك الأغاني بتأججٍ عاطفي يستحضره الآن في حنينٍ إلى تلك الذكريات، وإذا ما أردنا الوقوف على ما يدفع الشاعر لاستذكاره (هدايا حليم) في هذا الزمن تحديدا؛ وذلك لما يجده في عالمه الذي يعيشه الآن من قُبحٍ تعإلى على كثيرٍ من مفاصل الحياة، كأن الشاعر يجد في تلك الأغاني رافدا للحب والسعادة والسلام، وهذا ما يمكن للمتلقي أنْ يتأمله في قوله:
غدا نحتاجُ هذا الحُب حَتما
كما يحتاجُ غرقى للشواطِئْ
سيُزهِرُ في نوافذِنا ربيعا
إذا ما اغتالَ زَهرَ العُمْرِ واطِئْ
هذه «الحاجة» التي ينشدها الشاعر، ما هي إلا صرخة يُطلقها في وجه أولئك «الورائيين» الذين قرصهم على لسان «قاضي البلاج» بلسعاتٍ ناقدة، وهو قوله:
تعالَوا نُوقِظِ الفرحَ المُسَجى
بلَحنٍ بالورائيينَ هازِئْ
سنَهتِفُ (أي دمعةْ حُزنِ لا) في الـ
قبورِ وفي السجونِ وفي المَلاجِئْ
لِنرقُصْ للحياةِ وحارسيها
فإن غدا لنا والبحرُ هادئْ
وهذه الرغبة/ الحاجة تمثل بنية النص المحورية لا في هذه القصيدة وحسب، بل تكاد تكون متلازمة في جميع ما للشاعر من قصائد، مؤكدا وقوفه على البُعد الإنساني في كل ما يلتقطه من ظواهر وموضوعات، وفي المقابل، تجده – الشاعر- حربا على أدعياء الدين والمعتقدات والسرديات الكُبرى، وأدعياء الالتزام الديني ممن يتمسك بالقشور، ولا يُبالي باللباب، والهدف السامي من وراء الرسالات السماوية، فجعل مضامين تلك الأغاني التي استحضرها سياجا يصد عنه ما ينبعث من أولئك «الورائيين» من رسائل لا تخرج عن إطار الكراهية والعنف والتعصب، وإقصاء الآخر ونبذ الموسيقى بوصفها «الحرام الكبير!» الذي يسعون لترسيخه في عقول الناس. ونؤكد أن انشغال الشاعر في استذكار عبد الحليم؛ لأجل ما يجده فيه من انطباقٍ تام بين الإنسان المحب للحياة والفنان المُخلِص في أداء أغانيه بمصداقيةٍ عالية، ولعل وقفة عجلى على قصيدةٍ أخرى للشاعر، حملت عنوان (خَيمةُ الشك) ترسخ الرسالة الإنسانية التي التزمها الشاعر، وذلك في رسمه مشهدا لأحدهم ـ يظهر في النص مجهولا ولعله الشاعر أراد أن يكون صوتا لأولئك الذين همشتهم السلطة بكل رساميلها الرمزية الضاغطة – وقد أُلقِيَ القبضُ عليه من قِبل (حُراس الفضيلة) هؤلاء الذين استهدفهم الشاعر بالاستنكار لما يصدر عنهم من سلوكيات قمعية في إطار من التقوى والطهرانية، وذلك في قوله:
ألقى عليهِ القبضَ حُراسُ الفضيلةِ
وهو يَسمعُ (أي دمعةْ حزنِ لا)
قالوا لهُ: لا بُد أنْ تَتَجَرعَ الـ
حُزنَ الطقوسِي البَليدَ وتُقتَلا
لِتَصيرَ في بلدِ العَبيدِ مُواطِنا
حَلَمَت بهِ خُضْرُ السنابِلِ مِنجَلا
وهنا يجهر ذلك (المقبوض عليه) والمُراد له أنْ يكون فردا داخل القطيع – قطيع التبعية لطقوس الحزن وللرموز المُصطنعة تلك التي لا تُعنى باختلاف الآراء ونسبية الحقائق – بتمردهِ على ذلك النسق، الذي لا يُحسن سوى صناعة العبيد للذوات والمؤسسات، وذلك في قوله:
فأجابَهُم: إني هُنا قَبلَ اختراعِ الـ
وقتِ عَلمَني أبي أن أَسألا
كَمْ قالَ لي: احذَرْ يقينَكَ واتخِذْ
مِن خَيمةِ الشك المُبارَكِ مَنزِلا
لا أنبياءَ بهذهِ الأرجاءِ غَيــ
ــر الموتِ يمشي قاتلا مُتجولا
يأتي ضحاياهُ بهيئةِ نائبٍ
أو واعظٍ يَغتالُهُمْ مُتَأولا
لا أنبياءَ هنا لِتَتبَعَهُمْ وتَنجوَ
فَلْتَكُنْ أنتَ النبِي المُرسَلا
ويتضح جليا أن إجابة هذا الفتى – المجهول- مكتنزة بخطاب الرفض لأولئك «الأدعياء» متكئا على حكمةٍ توارثها من أبيه، تُلزمه باتخاذ الشك وسيلة لنيل الحقائق، وطريقا للخلاص من براثن الكذبة والدجالين، في وسطٍ موبوءٍ بالادعاءات الفارغة، من «نائبٍ» يُتاجر بالحقائق، و«الواعظ» الذي شاء لنفسه أنْ يكون مركبا سهلا لما يريده النائب/ السياسي؛ عبر تخديره وعي الجماهير ممن ينطلي عليها ذلك الخطاب المسموم بالشعارات الزائفة، وهنا نجد الشاعر قد تمكن من فرض خطابه الرافض، متسلحا برؤيةٍ نقديةٍ للواقع، موظفا في الوقت نفسه انطلاقته من تلك الأغنية (أي دمعة حزن لا) التي تحمل جينات التمرد على الحزن، وعلى كل ما يبتعد بالإنسان عن سجيته في الميل إلى الفرح والتفاؤل بالحياة، وهذا لعمري واجب الشاعر، الذي عبر عنه الشاعر العراقي الراحل فوزي كريم بقوله: «إن علينا نحن الشعراء والكُتاب، أمام بانوراما المعارك الدامية العمياء والحمقاء، أنْ نذكرَ الناسَ في مناجاتنا للنجوم والقمر بأن الدنيا ما زالت بخير، وأن صوت داخل حسن وزهور حسين أوفى لجراحنا من أناشيد كُتاب وشعراء المعارك الوطنية». وهذا الواجب الإنساني النبيل، لا يقوم به سوى الشعراء الأفذاذ في مسيرتهم الشعرية، وأجود أحد هؤلاء الأفذاذ في اختياره (عبد الحليم حافظ) ثيمة تداعى من خلالها كل ما يريد قوله من رسائل صريحةٍ أو مُضمرة..
كاتب
جزيل الشكر والامتنان لكم على نشركم..
ممتن لكم كثيرا
وسام حسين العبيدي
مقال جميل
لكن للتذكير ، الراحل عبد الحليم حافظ ، مثلما ناجى النجوم و القمر ، أنشد لمعارك المصير أيضاً
لم يكن مهزوماً!
بالتأكيد اخي العزيز.. لا أنكر ما ذكرتَه، ولكنه على أي حال لا يُحسب على هذه الجهة، فما أنجزه من اغانٍ رومانسية تفوق نسبةً وتناسبًا ما أنجزه من اغانٍ وطنية، إذا ما فرضنا أنها كانت بدافع خارجي يقتضيه الظرف السياسي الذي يفرض ثقله على الجميع دون استثناء..
تحياتي لكم 🌹