عبد الحليم حافظ وكيف نجا..

لن أكتب عن تاريخ عبد الحليم فهو سهل الوصول إليه، ولا عن قصص حبه، ولا صراعاته مع غيره، التي أثارها وأفتى فيها الكثير من الصحافيين القريبين منه، أو البعيدين، لكن سأتحدث عن شكل الحياة والغناء الذي جلس عبد الحليم على قمته.
بدأ في الإذاعة المصرية عام 1951 وبعدها بأغان عذبة لم تشتهر كثيرا، لكنها بنت الفضاء المريح الباعث على التأمل، مثل قصيدة «لقاء» لصلاح عبد الصبور و»أقبل الصباح» و»فرحتنا ياهنانا» و»الليل أنوار وسمر» و»هلّ الربيع» و»ربما» و»القرنفل» و»فات الربيع» ولم تتفاعل معها الجماهير لتقليدية الإيقاع والطرب، رغم شعرية وجمال الكلمات.
ثم كانت «صافيني مرة» عام 1952 من كلمات سمير محجوب ولحن محمد الموجي، التي رفضتها الجماهير أيضا، رغم اختلافها عن ذي قبل، في حفل في الإسكندرية، لكنه في العام التالي في حفل إعلان الجمهورية أعادها فحققت نجاحا كبيرا، وبعدها كانت أغنية «على قد الشوق» وفيلم «لحن الوفاء» فبدأ طريق النجاح الكبير.
كلما تذكرت عبد الحليم حافظ أقول في نفسي ضاحكا منك لله يا حليم جعلتنا نحب في الهواء، لا نعرف أن هناك احتمالا للفشل. كانت الأغاني الرومانسية موجودة من قبل عند كبار المطربين مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، لكن كان هناك حاجز بينهما وبين الشباب صغير السن. إنه حاجز طبيعي ليس لنقص في قيمة الأغاني، لكن صغار السن يريدون الحركة في الكلمات والموسيقى، وليس تأمل المعاني والمشاعر فقط. كان ظهور عبد الحليم مناسبا جدا للأعمار الصغيرة، ومشي معهم وهم يتقدمون في العمر، فصاروا يعودون معه إلى أعمارهم الصغيرة.
حين بدأ عبد الحليم ينتشر كنت طفلا، وطبيعي جدا أن لا أتوقف عند أغاني أم كلثوم أو عبد الوهاب في ذلك العمر. توقفت عند أغاني عبد الحليم، خاصة أني كنت مغرما بالسينما إلى حد الجنون، فكنت أدخلها كل يوم تقريبا، ورأيت في عام واحد هو عام 1955 أربعة أفلام لعبد الحليم حافظ هي «ليالي الحب» و»أيام وليالي» و»لحن الوفاء» و»أيامنا الحلوة» ولم أكن وصلت لسن العاشرة بعد. الأفلام التي لم أكن أفهم فيها غير أنها حكاية ولا علاقة لي بفهم التصوير والإخراج والمونتاج وغير ذلك، جعلت الأغاني تتسرب إلى روحي وتمسك بها، خاصة أغنيات مثل «أنا لك على طول» التي كلما سمعتها حتى الآن أراه يسقط بعدها في النيل وتضحك إيمان وتملأ الشاشة ضحكتها ونونتاها على خديها. كذلك أغنية «كفاية نورك عليّ» التي غناها لآمال فريد في حفل أطفئت فيه الأنوار في فيلم «ليالي الحب» وغيرها كثير جدا جدا. كل الأفلام ساهمت في سكن الأغاني في روحي، لم أكن وحدي الحقيقة، كان كل أبناء جيلي، وحتى لو قال بعضهم إنه لا يحب عبد الحليم لم أكن أصدقه. الأمر طبعا أوسع وأكثر عمقا عند الفتيات، وهذا طبيعي فكيف لا تكون المرأة أكثر رقة من الرجل.

مات عبد الحيلم في الثلاثين من مارس عام 1977 ولم يبلغ الخمسين بعد قبل هذه العشوائية واتساعها، ورغم مرضه فقد كانت في موته نجاة.

في عام 1961 حصلت على الإعدادية وعرفت أن فيلم «حكاية حب» في سينما ركس في الإسكندرية فذهبت لأراه. كانت هناك حفلة في الساعة الواحدة ظهرا للنساء فقط ولم يكن هذا يتكرر كثيرا، لكنني دون قصد، ذهبت مبكرا وقررت أن أدخلها. بائع التذاكر وراء الشباك أخبرني أنها حفلة نسائية، وقبل أن أستدير وأذهب إلى مقهى أجلس فيها حتى الساعة الثالثة قال لي «لكنك صغير وسأسمح لك بالدخول». دخلت فوجدت الصالة كلها ممتلئة بالنساء من كل الأعمار. صرت خجلا بينهن، لكني وجدت مقعدا خاليا وجلست. سينما ركس كانت درجة ثانية، ولا يتم حجز مقاعد بعينها. جلست بين النساء أكاد أدخل في بعضي خجلا وبدأ الفيلم. حدث المشهد الذي لا أنساه حين غني أغنية «نار يا حبيبي نار» وانتهت بسقوطه على الأرض ليكتشفوا في ما بعد مرضه بالقلب. حين سقط على الأرض انفجرت نساء وفتيات كثيرات يبكين، وبعضهن أُغمي عليهن، وتعالت الصرخات فلم يكن أمام السينما إلا طلب عربات الإسعاف، وتم حمل النساء إلى الخارج، وتكرر الأمر مع أغنية «في يوم في شهر في سنة» وسمعت البكاء حولي. كان معبودا للجميع من الجنسين، لوأن أغانيه العاطفية، رومانسية للغاية، بالإضافة إلى صوته الشجي يوسعان الدنيا حولنا أيام الشباب. كانت تجارب حبنا كلها تتلبس أغانيه، فالفتاة التي يعرفها أحدنا يراها كما يحس ويسمع أغاني عبد الحليم. تنتهي قصص الحب سعيدة، أو بالفشل فتصبح أغانيه هي الملاذ، بل تنتهي اللقاءات فيصبح لأغانيه التي تطل منها وجوه الأحباء هواء يرفرف في الفضاء «كان يوم حبك أجمل صدفة» أو بالعتاب حين تنتهي اللقاءات على غير الأمل «صافيني مرة» و»في يوم من الأيام» و»تخونوه» وغيرها طبعا عشرات الأغنيات المبشرة أو المنذرة، وكانت الأغنيات هي أكثر ما يشغل خطابات الغرام.
كانت الأغاني تؤثر حتى في السلوك العادي، وتحول الإحساس بها إلى سلوك في الحياة. ساعد على ذلك أو ساعدت عليه الحياة نفسها فكانت متسعة والحدائق كثيرة والأشجار في الطرقات والشوارع شبه خالية مع المساء. حتى الميادين الشعبية الكبري مثل ميدان الحسين، أو السيدة زينب كانت كافية لزوارها، ولم تكن تعرف الحشود الموجودة الآن. كان تعداد القاهرة والجيزة معا مليوني شخص، وليس عشرين مليونا كما هما الآن، وكان تعداد الإسكندرية نصف مليون، وليس ستة ملايين كما هي الآن. لم تكن قد ظهرت العشوائيات التي جعلت المدن جحيما. الأغاني والمكان معا كانا يتسعان للقلب والروح، وهو ما جرى تدميره منذ السبعينيات، فملأت العشوائيات الأحياء، وارتفعت المباني في شوارع لا يزيد عرضها عن ستة أمتار، وكثير من الحدائق فقدت بهجتها وملأت السيارات الشوارع والميكروباصات والأوتوبيسات مع الزيادة الرهيبة للسكان. هذا التطور العشوائي الضاغط على السلوك الإنساني، جعله أيضا عشوائيا، فظهرت أغاني مناسبة له وتزيد من العشوائية، وكلها تقريبا سخرية من المحبين وشجار بينهم. أغاني من نوع «قوم أقف وأنت بتكلمني» وأسماء مثل حسن الأسمر وعبد الباسط حمودة وسعد الصغير وحمو بيكا وحسن شاكوش وأوكا، الذين صار أحمد عدوية الذي سبقهم جميعا قياسا عليهم أملا وبهجة. ليس الإقبال على هذه الأغاني تذوقا فنيا، لكنه ابن الزحام والعشوائيات ووطن لم يعد يفترق فيه الليل عن النهار. ليس حولك ولو حتى كنت في بيتك، إلا الضجيج من الجار، أو ممن أمامك، حتى لو كانوا يتحدثون بهدوء فانت تسمع ولا تفصلك عنهم مسافة تخفي الضجيج. تحول المصريون من التأمل والشجن إلى العنف اللفظي، الذي صار حتى في المعاملات، حتى العتاب الذي كان في أغاني عبد الحليم رقيقا صار شجارا. كانت الحدائق وشوارع بعينها مفتوحة للأحباء، وفي يوم وجدنا من وضع على مقاعدها البراز حتى لا يجلس عليها أحد ثم أزيلت المقاعد، وصار الشاب في الحدائق لو وضع ذراعه على كتفي حبيبته يمكن أن يتعرض لقضية فعل فاضح في الطريق العام. انتهت جلسات الأسر في الشرفات، بل انتهت كثير من الشرفات في المباني الجديدة. تغيرات كثيرة في شكل الحياة المادية انعكست تصرفات جامحة في السلوك، أنتجت الأغاني الجديدة فساعدت عليها بدورها. لقد مات عبد الحليم في مارس/آذار عام 1977 قبل أن ينتشر هذا كله ويستحكم بالبلاد. لم تكن الرومانسية ابنة المؤلفين والملحنين، لكنها كانت ابنة الاتساع في روح المكان. ضاق المكان بأهله فضاقت أرواح العباد.
مات عبد الحيلم في الثلاثين من مارس عام 1977 ولم يبلغ الخمسين بعد قبل هذه العشوائية واتساعها، ورغم مرضه فقد كانت في موته نجاة.

روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامر الطيب:

    شكرا لك على ما كتبت
    حالة عشتها بفلسطين تماما كما تصفها انت
    الى درجة ان عبد الحليم وبليغ حمدي اصبح وجداننا
    عبحليم!

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية