عبد الحليم خدام: شاهـد شـاف كـل حاجـة
د. عصام نعمانعبد الحليم خدام: شاهـد شـاف كـل حاجـة تقلّد عبد الحليم خدام وظائف عدّة في حياته السياسية المديدة. لكن ثمة وظيفة دائمة لم يعيّنه فيها أحد بل عيّن نفسه فيها ومارسها بشغف طيلة 35 عاما، وما استطاع احد أن يقيله منها. إنها وظيفة الشاهد. فقد شاهد خدام رؤساءه أكثر من ثلث قرن يمارسون السلطة عليه وعلي الناس. وشاهد نفسه يمارسها معهم علي مرؤوسيه وعلي الناس. وهاهو الآن يشهد علي هؤلاء جميعا، لكنّه لا يشهد علي نفسه.انه، بحق، شاهد ملك. قيل ان ديتليف ميليس أطلق عليه هذا اللقب. ربما. لكنّه لا يحتاج إلي ميليس ليغدق عليه لقباً إستحقه بنفسه طيلة 35 عاماً. كان يشاهد الجميع بدقة، ولا يشهد علي أحد بفطنة، إلي ان أقيل من وظائفه كلها او إستقال منها ليحتفظ بوظيفته الأثيرة، وظيفة الشاهد الذي يشهد علي الآخرين جميعاً ولا يشهد علي نفسه.في شهادته الأخيـرة، عشية رأس السنة الميلادية الجديدة، أراد خدام ان يشهد، مداورةً، لمصلحة المغفور له رفيق الحريري. لكن شهادته لم تأتِ لمصلحة صديقه المغدور ظلماً بقدر ما جاءت في غير مصلحة رفاقه القدامي والجدد في النظام السوري، ومهينة لشركائه من رجالات الطبقة السياسية الزحفطونية في لبنان.الزحفطون تعبير منحوت للأديب اللبناني الساخر سعيد تقي الدين، وهو حصيلة دمج رائع لكلمتي زحف و بطن . إذاً هو الزاحف إلي السلطة علي بطنه، ويبقي كالزواحف لصيق الأرض، نفسياً وأخلاقياً، حتي لو علت به الرتب.إن المرء ليعجب كيف أن أفرادا مرموقين من تلك الطبقة مارسوا الزحف علي بطونهم إلي دمشق، ملتمسين بأي ثمن وبلا كلل جاهاً أو وظيفة أو دوراً تحت وابل من أوصاف مهينة وشتائم وتهديدات أطلقها أهل السلطة، كباراً وصغاراً، في بلاد الشام علي اقرانهم من طلاب السلطة، كباراً وصغاراً، في بلاد الأرز ؟! غير أن العجب يزول بعدما يعرف المرء ان حال الطبقة السياسية في سورية، علي صعيد الزحفطونية، هي كما حالها في لبنان. فقد جمعتهما دائما وحدة المسار والمصير.خدام، الشاهد الملك حسب تعبير ميليس، هو شاهد شافَ كل حاجـة حسب رأي اللبنانيين هذه الأيام، بل ربما أيضاً حسب رأي السوريين والمصريين والسعوديين والعرب أجمعين. فقد شاف كل حاجة طيلة 35 عاما من ممارسته السياسية المديدة، لكنه اختار أن يكون أعمي أو متعاميا عن معظم ما رأي، فما شاف إلاّ ما ظنّ انه ينال، بالدرجة الأولي، من ممارسات رفاقه من أهل النظام في ما يخصّ جريمة إغتيال الحريري. صحيح أن ما قاله أو نسبه إلي الرئيس السوري بشار الأسد ووزير خارجيته فاروق الشرع وغيرهما من ضباط ومدنيين سوريين ولبنانيين قد لخّصه ميليس في تقريره الإجرائي الأول المرفوع إلي مجلس الأمن. غير أن الجديـد والمهـم في الموضوع أن شاهدا برتبة نائب رئيس جمهورية سابق يتبرع الآن علنا وعلي نحو غير مسبوق بأن يكون شاهداً أمام الرأي العام ليحاول بشهادته تعزيز عمل لجنة التحقيق الدولية. ومع ذلك فإن الرأي العام في لبنان، بحسب ما دلت إليه استقصاءات أولية أعقبت مقابلة خدام مع فضائية العربية ، لم يتأثر كثيراً بإنتقادات نائب الرئيس السوري السابق لرفاقه القدامي والجدد إذ إستفزّ الناس لطرح أسئلة ذكية وساخرة : ماذا كان خدام يفعل خلال الـ 35 سنة الماضية؟ ولماذا إختار الآن أن يكسر صمته؟ وما سرّ هذا التوقيت المريب؟نعم، لماذا شهد شاهد من أهله اليوم، كما وصفه أنصار الحريري، وهل لشهادته أغراض لبنانية وسورية أم أن الأمر أبعد من ذلك ؟يبدو ان لقنبلة خدام الصوتية ثلاثة أغراض بارزة:الغرض الأول تعويم التحقيق الدولي بعد سقوطه المريع إثر إفتضاح شهادتي الشاهد الموقوف في باريس محمد زهير الصديق والشاهد المقنّع الطليق في دمشق هسام طاهر هسام. أجل، كان التحقيق الدولي قد سقط سقوطا مريعا حمل ميليس علي إنقاذ سمعته المهنية، وقيل أمنه أيضا، بالعزوف عن تجديد عقده مع الأمم المتحدة. لكن مع شهادة خدام إستردت لجنة التحقيق الدولية بعض صدقيتها، أو هكذا يبدو، واستعاضت عن الشاهدين المستهلَكين بشاهد ملك يقول انه سمع تهديداتٍ بأذنيه ورأي مطلقيها وضحيتها بعينيه.الغرض الثاني النيلُ من اركان النظام السوري وإبقاؤه، تاليا، تحت الضغط لحين تسوية الأوضاع في العراق ولبنان وفلسطين علي نحوٍ يؤّمن مصالح الولايات المتحدة. فها هي السيدة نصرت حسن، الناطقة بإسم لجنة التحقيق الدولية والمنفذة تعليمات ميليس الذي لم تنتهِ ولايته بعد، تعلن عن رغبة اللجنة في الإستماع إلي إفادة كل من الرئيس السوري ووزير خارجيته بالإضافة إلي عدد من المسؤولين السوريين الأدني رتبةً. أياً ما سيكون موقف الأسد من هذه الدعوة المريبة، فلا شك في أنها وضعت النظام السوري، مرة أخري، في خط الدفاع عن النفس والتحسب لمزيد من الضغوط.الغرض الثالث إحياء الشكوك، التي لم تهدأ أصلاً، بان وراء الأكمة ما وراءها، وأن قنبلة خدام الصوتية ربما كانت حلقة، أو ان واشنطن ستستغلها لتكون حلقة، في سلسلة مخططها الأكبر الرامي إلي إعادة تشكيل دول المنطقة، سياسيا وثقافيا. بإختصار، النظام السوري ما زال في مرمي المدفعية الأمريكية التي تكتفي الآن بإطلاق قذائف سياسية وإعلامية عليه، وقد يأتي يوم يُستعاض عنها بقذائف حربية أو يجري تكليف إسرائيل، في إطار مخطط يرمي إلي تدمير منشآت إيران النووية، القيام بهذه المهمة الإستراتيجية لمصلحة أمريكا وإسرائيل معا.مهما يكن من أمر، فإن ردة فعل النظام السوري علي القنبلة الصوتية الخدامية جاءت تقليدية وباهتة ولا تنم البتة عن ان نخبته القيادية تنبّهت إلي المخاطر التي تواجه سورية في هذه المرحلة وتستوجب إعادة نظر جذرية في سياسة النظام نهجا ومضمونا. فالوعود الإصلاحية ظلّت حبراً علي ورق، والموقف من المعارضة الوطنية ظلّ متشككاً ومتحفظاً، واللغة الإعلامية المستخدمة ما زالت ستالينية النبرة بإمتياز. كم كان الأمر يختلف لو أن النخبة القيادية توصلت إلي قرار تاريخي بمراجعة تجربـة النظام الشائخ ونقدها وبالإنفتاح علي المعارضة الديمقراطية، الوطنية والقومية، لتجسير الفجوة بين الطرفين وتوحيدهما في قضيةٍ ومسار وطنيين جامعين، ولكسب كفاءات قيادية جديدة من أجل الإسهام في مواجهة هجمة التدويل الامريكية؟ أما كانت المعارضـة الديمقراطية، لو جري الإعتراف بها وبدورها وفعاليتها في مرحلة الإصلاح السياسي والنهوض الوطني، أحري بأن تتولي هي مهمة الردّ علي خدام مذكّرةً إياه بدوره الفاعل في قمعها وإسكاتها طيلة ثلاثة عقود وتحويل ربيع دمشق أخيراً خريفاً أصفر؟ لقد سارع أهل النظام إلي إتهام خدام بلغة شبه ستالينية بأنه خائن للوطن والحزب، فهل كان كذلك طيلة الـ 35 عاما الماضية أم انه أضحي خائناً بمجرد إطلاق قنبلته الصوتية تلك؟ يُروي أن فياشلاف مولوتوف، وزير خارجية الإتحاد السوفياتي في عهد ستالين، زار كليمنت أتلي زعيم حزب العمال البريطاني مهنئاً بعد فوزه المدوّي، غداة الحرب العالمية الثانية، في الإنتخابات علي زعيـم حزب المحافظين ونستون تشرشل، فمازحه رئيس الحكومة العمالية الجديدة قائلاً:ـ كيف تريدنا ان نصدّق انك شيوعي وأنت تنتمي أصلا إلي أسرة رومانوف الملكية المخلوعة؟ أنا الاشتراكي أصلا وفصلا ولست أنت، لأنني ابن عامل منجم فقير وكادح.إبتسم مولوتوف وقال له:ـ صحيح. إن كلاّ منّا خائن لطبقته !ہ سياسي وكاتب لبناني9