في رحاب قصر الحمراء في غرناطة، تُوّج الكاتب المغربي عبد القادر الشاوي بجائزة «ابن رشد للوئام»، التي تكافئ المؤسسات أو الأفراد، مغاربة وأسبانيين، العاملين في مجال تعزيز التعايش والحوار بين الثقافات، وهو التتويج الذي قال عنه الروائي والناقد والدبلوماسي المغربي إنه جائزة رمزية، يكمُن معناها الحقيقي في العمل الذي يمكن القيام به، في سبيل الحوار المتواصل والتفاهم الممكن بين الشعبين أو الدولتين.
وأبرز صاحب روايات «كان وأخواتها» و»باب تازة» و»دليل العنفوان» و»من قال أنا/ تخييل ذاتي» و»الساحة الشرفية» و»مرابع السلوان» و»بستان السيدة» و»مربع الغرباء»، في حوار مع «القدس العربي»، أنه مدين لمرحلة الاعتقال التي استمرت 15 سنة، بإيجابياتها وسلبياتها لما هو عليه اليوم، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على خروجه من السجن. وأكد الروائي المغربي، أن رواية «كان وأخواتها»، رغم ظروف كتابتها ونشرها، لم تكن موجهة ضد التجربة السياسية المباشرة التي كان منتميا إليها بالاسم المعروف بـ(اليسار الجديد) أو (الحركة الماركسية اللينينية). فيما عرَّج على روايته الأخيرة «مربع الغرباء» 1981، التي عاد فيها إلى الأحداث المؤلمة التي عرفتها مدينة الدار البيضاء صيف سنة 1981.
*كيف تلقّيت تتويجك بجائزة «ابن رشد للوئام»، التي تكافئ العاملين في مجال تعزيز التعايش والحوار بين الثقافات؟ وما الذي تعنيه هذه الجائزة بالنسبة لك؟
ـ جائزة رمزية ربما كان معناها الحقيقي كامنا في العمل الذي يمكن القيام به، في سبيل الحوار المتواصل، والتفاهم الممكن بين الشعبين، أو الدولتين في الضفتين معا (المغرب وإسبانيا)، وبجميع الوسائل الممكنة، والأخرى المتاحة على أيدي نساء ورجال الفكر والثقافة والإبداع. وهي مهمة أراها أكثر إلحاحا في الظروف الحالية المطبوعة بالود والعمل المشترك والتنسيق الوارد في مختلف المخططات التي تهم التطور العام في البلدين.
ورمزية هذه الجائزة يمكن أن يفهم منها أيضا، ولو بصورة نسبية، أنها موجهة ضد مختلف التصورات العنصرية الحاطّة من الكرامة الشخصية، ولغيرها من التصورات القائمة على التفوق والاستكبار، وما في المنظورات المركزية المنغلقة على الذات من صفات تحقيرية، وأحكام مطبوعة بالدونية وسواها. والرمزية في هذا المستوى هي لفائدة عمل من نوع آخر يمكن القيام به من أجل التوافق والوئام وما يرتبط بهما من تصورات ومبادئ، تدعو كلها إلى بناء مصير مشترك يوفر السلم ويعطي معنى جديدا للإخاء، بصرف النظر عن التصورات العقدية والأيديولوجية، بحكم ارتباطها المطلق وما في معناه، التي كثيرا ما تفسد الأعمال الطموحة المبنية على التعايش الآمن في ظل الظروف الديمقراطية السائدة هنا وهناك. وعموما، فقد ألقيت من خلال هذا التصور كلمة ركزت على المعاني المشار إليها، وكانت الكلمات الأخرى، التي ألقيت بالمناسبة في رحاب قصر الحمراء في غرناطة، بالمعاني والدلالات نفسها التي للوئام والتوافق، المفروض أن يكونا برنامجَ عَمَلِ كل الإدارات الثقافية وغير الثقافية الساعية إلى بنائهما وتوفيرهما في المجالين الحيويين للضفتين، المغربية والإسبانية، معا.
*أنت غزير الإنتاج الأدبي خاصة في مجال الرواية، ولعل من أشهر رواياتك وأكثرها إثارة للجدل، رواية «كان وأخواتها»، حدثنا عن هذه المرحلة من سيرتك؟
ـ إن رواية «كان وأخواتها»، وهي عمل غير مسبوق في مجاله، وقد كتبته ونشرته وأنا بَعدُ في السجن، تعبير أدبي عن أمور متداخلة أتت في سياق الإجهاز على تجربتنا السياسية المختلفة في مغرب كان مطبوعا، على مستوى السلطة، بالاستبداد والتحكم، مثلما كانت تجربتنا السياسية والأيديولوجية مطبوعة بالشبابية والحلم الأقصى في القضاء على السلطة القائمة، وبناء الجمهورية الشعبية المحلوم بها. وعموما كان التعبير الروائي ذاتيا، لأنه انطلق من شعوري الخاص بضرورة الكتابة، ولكنه أحاط أيضا بالاعتقال وظروفه وآلامه وتجاربه، وبالأوضاع التي ظهر لي أنها تشمل مجموعتنا الرفاقية. فقد كنا جميعا ضحايا قمع، وأصحاب أحلام وردية في التغيير، وما سلط علينا داخل السجون، التي مررنا بها لم يكن يستثني أيّ واحد منا.
ركزتُ في الكتابة على ذاتي وعلى أفكاري، وكذا على الخلاصات والتقييمات التي كنتُ قد توصلتُ إليها، ولعلها أصبحت قناعات فكرية ثابتة، بعد قرابة عشر سنوات متواصلة من السجن. أريد القول بهذا إنني شرعت في الكتابة في أوائل الثمانينيات (ربما في1981)، ولم ينشر العمل إلا بعد مُضِيّ خمس سنوات على ذلك. ومن مفارقات النشر أنَّ الكتاب طُبع في الدار المعروفة (دار النشر المغربية)، بمساعدة صديقتي الوفية المرحومة المحامية آسية الوديع الآسفي، بالإضافة إلى الدعم المشهود للصديقين البارعيْن أحمد حبشي ويوسف فاضل، وسُلِّم للتوزيع الرسمي في حوالي خمسة آلاف نسخة، ولم يُمنع إلا بعد أسبوع من صدوره بالعنوان المُلغز، أو المثير، أو الملتبس «كان وأخواتها» بعد أن بيعت منه أكثر من ألف نسخة في مدى أسبوع واحد فقط.
*تناولت الرواية التجربة اليسارية في البلاد خلال سنوات شائكة ومتوترة، ما الغاية من وراء هذا الانتقاد؟ وكيف كانت ردود أفعال الأوساط الطلابية والمناضلين على ما جاء فيها؟
ـ «كان وأخواتها»، رغم ظروف كتابتها ونشرها، لم تكن موجهة ضد التجربة السياسية المباشرة التي كنت منتميا إليها بالاسم المعروف بـ(اليسار الجديد)، أو (الحركة الماركسية اللينينية) مطلقا. ولا يمكن لأي قارئ أن يجد فيه ما يمكن اعتباره نقدا مباشرا لذلك. الرواية عرفت إقبالا كبيرا، فبيع منها، في مدة قياسية، ألف نسخة، ثم صار نَسْخُهَا أسلوبا متداولا زاد من انتشارها ومعرفة القراء بالعوالم التي تتكلم عنها. كما قوبِلت الرواية باستقبال خاص من قِبَلِ رفاقي في المجموعة داخل السجن، وكانت ردود الفعل متفاوتة، بحيث اعتبرها البعض خير تعبير عن الحرمان والقمع بطريقة حيوية في غاية الفضح للأساليب القمعية الممارسة في السجون.
بينما اعتبرها البعض الآخر، وهم أقلية كما أذكر، مسيئة للتجربة لأنها بالغت في الاهتمام الذاتي للكاتب الذي كتبها. وقد تقبلتُ مختلف أشكال الاستقبال التي استقبلت بها، بما في ذلك المكتوبة في بعض المجلات والملاحق الثقافية المغربية، لاعتقادي الجازم أنَّ لكل قول تأويلا، وفي ذلك فليختلف المؤولون، لا حرج عليهم في ما يقولونه عن كل قراءة تناسب أو لا تناسب منطق استقبالهم لها.
*كيف أثرت مرحلة الاعتقال التي استمرت 15 سنة في كتابات عبد القادر الشاوي؟ وهل كانت شرارة لانفجار مَلَكة الكتابة لدى الشاوي؟
ـ بصورة سلبية، لأنها كانت سلبا للحرية الشخصية، بناء على اتهامات باطلة نابعة من طبيعة الحكم المستبد، الذي استبد بالمجال السياسي الذي خرجنا للنضال فيه من أجل التغيير بصفة عامة. أما الوجه الإيجابي، وهو بالغ الدلالة على قدرة الفرد، ولو كانت محدودة، على الصمود والاستمرار وتجاوز الظروف القهرية بِهِمَّةٍ وتصميم. فقد تمثل هذا الوجه الإيجابي، بعد فترة وجيزة من الحيرة، في إعادة بناء الذات على أساس ما أسميه عادة بـ»التَكَيُّف» الذي يُمكِّن الفرد من فهم آليات القمع والحرمان والتحطيم إلخ.. فيمنحه قدرة إضافية، وفي بعض الحالات استثنائية للتغلب على الإحباط والهزيمة المعنوية، للخروج من السجن وهُو فيه بأقل الخسائر الممكنة، بل وبإصرار كبير على الاستمرار بفعالية في المجابهة.
ومن هنا، انصرفتُ، بُعَيْدَ مرور سنوات حرجة إلى الكتابة، ومما جَرَّبْتُه في تلك المرحلة هو كتابة الرواية، التي لم يسبق لي أن طرقت بابها من قبل، فكان نص «كان وأخواتها»، ثم انصرفتُ إلى مبحث جديد، لم يكن به اهتمام في الجامعة المغربية، ألا وهو السيرة الذاتية كجنس أدبي قائم الذات، وفيه نصوص كثيرة مبنية على التعبير بضمير المتكلم عن تاريخ الأنا تستحق الاكتشاف والقراءة والبحث لما يمكن اكتشافه وقراءته وبحثه منها. وأنا مدين لهذه المرحلة الإيجابية، وجزئيا للسلبية، بما أنا عليه اليوم، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على خروجي من السجن، ومرور أربعة عقود، في الواقع، على العناصر التي حرضتني وألهبت حماسي لها.
*روايتك «مربع الغرباء 1981»، الصادرة حديثا عن دار الفنك في الدار البيضاء، تعود من خلالها إلى سنوات الإنصاف والمصالحة في المغرب. لماذا هذا الموضوع في روايتك؟ وفي أي إطار تندرج تحديدا؟
ـ هي رواية ذاكرة أيضا، حاولتُ فيها العودة المستهامة إلى الأحداث المؤلمة التي عرفتها مدينة الدار البيضاء في صيف سنة 1981، بسبب الزيادات غير المتوقعة في أسعار المواد الأساسية، في ظل الاختيارات الرأسمالية المنتهجة وإملاءات المؤسسات الدولية المانحة للقروض.
وقد نتج عن تلك الأحداث تدمير بالغ القوة، وقتلى تجاوز عددهم كل توقع، لأن المجابهة، بعد إنزال الجيش إلى الشوارع، كانت عنيفة، لم تراع شيئا يمكن أن يقلل من الخسائر أو يحد من القمع. على أنني في الرواية لم أقم بالتأريخ لتلك الأحداث، ولا كان من الوارد أن استخلص من وقائعها أي درس محتمل قد يفيد في شيء، وأضيف إلى ذلك أنني لم أضع وقائع روايتي في السنة نفسها المعروفة لحدوثها. وهذا ما نتج عنه أنني اخترتُ لعملي بنية روائية محدودة لإظهار ما يتعلق حصرا بالذاكرة في علاقة بتلك الأحداث.
ثم هيأت لذلك بعض الشخوص الذين يقومون باستنطاق الوقائع والتطورات، المرتبطة بتلك الأحداث، على مستوى الوعي بها، وبالتعقيدات التي صاحبت فترة (الإنصاف والمصالحة) في الكشف عنه. ثم رتبت مسارا لبعض الأحداث قادني إلى الحديث، وهي البؤرة التي اشتغلتُ عليها أكثر، عن المقبرة الجماعية التي نتجت عن الأحداث، وظلت نَسْياً مَنْسِيا غير معروفة أكثر من ثلاثين سنة، لم يتمكن إلا المهتم الحقوقي من الحديث عنها، ولما أقبلتْ مرحلة (الإنصاف والمصالحة) أصبحت عنوان جريمة تاريخية مرتكبة ضد العُزّل البيضاويين، وعنوانا عريضا، بسبب ضخامته وعدد قتلاه، على أعنف فصل من فصول سنوات الرصاص في المغرب.
* صدر لك العديد من العناوين في مجال الرواية، وإلى جانب رواية «كان وأخواتها»، نجد روايات «باب تازة»، «دليل العنفوان»، «من قال أنا/ تخييل ذاتي»، «الساحة الشرفية»، «مرابع السلوان» و»بستان السيدة»، «مربع الغرباء»، وغيرها من الروايات، ما العامل المشترك بين هذه العناوين؟
ـ فضلا عن الموضوعات المختلفة المتعلق بعضها بمفهوم الخراب في علاقة بالماضي، وبالذات في علاقة بالزمن، وبالتاريخ في علاقة بالتطور، فإن الموضوع المشترك، في ظني، يتعلق أساسا بالذاكرة. هذا مع اعتقادي بأن مفهوم الذاكرة فارغ واتفاقيٌّ، أو اعتباطي، للتدليل على وجود معنوي، أو مادي، في مكان ما مِن دماغنا والوقائع التي مرت بنا، وأنَّ الكتابة عن ذلك فِعْلٌ يرمي إلى استجلاب مختلف الوقائع المفترضة من خلال الاستذكار، أو استجلاب الصور من خلال التعبير اللغوي عنها، أو التأكد من أنّ النسيان لم يَنَل من القدرة الخاصة، وهي معافاة غير مريضة بأيِّ داء، ومن الاعتقاد الراسخ أحيانا بأنَّ ذاكرتنا حاضرة فاعلة مؤثرة، حسب الدواعي والمجال وبأكثر أدوات التأثير قدرة، على تأكيد (والتَّحَقُّق) من بعض مفارقات تجاربنا، أو أحداث ماضينا، أو طبائع العلاقات العامة التي كانت لنا مع الأفراد والأمكنة والرؤية في الزمان والمكان.
اتذكر و انا في طريقي البرازيل أن قابلت الكاتب و الدبلوماسي في مطار محمد الخامس و ما شد انتباهي عندما هممت بتحيته من بعيد هو بساطه الرجل و بعده كل البعد عن الأضواء و قد لاحظت أنه تعمد الخروج من باب جانبي تفاديا للفت الانتباه. تحيه تقدير لهذا الرجل المبدع و الإنسان الخلوق.