عبد اللطيف الهدار‎… كما عرفته!

(إِلَيْكَ هَذِهِ الْكُؤُوسُ الَّتِي تَقَاسَمْنَاهَا)

كَأْسُ الْمَعْرِفَةِ

عرفتك منذ التسعينيات إنسانا يمشي الهوينى بين زقاق القبيلة المنسية/ أبزو القلعة النابضة سكينة، متأملا، غارقا في ظلك، تناوش أشجار الظهيرة بخطواتك الضاربة في تيه الفراغ. تبحث عن خيمة تؤوي هواجسك، قلقك، ترحالك الممتد في مساء ينغص عليك تعب الوظيفة، فتلوذ إلى أقرب كشك، تبتاع سجائرك التي تعشق أنفاسك الساطعة حرقة والتياعا، وقليلا من الرذاذ اليومي. مثقلا بغضب المتوسط الثائر وهدير موجه الناطح عنان أفق بعيد، وزرقة طنجة العالية. وتحت إبطك «الخبز الحافي» و»زمن الأخطاء» للشحرور الأبيض محمد شكري. فتدخل محرابك الوحيد الذي ينتظرك حيث الورق برحابة سطور. وتأخذك القصيدة إلى هناك حيث الآلهة في حالة يقظة ترعاك وتقود القلب، حيث الذاكرة مشحونة بطاقة تاريخ عامر بالذكريات والحروب الصغيرة، التي تخوضها انتصارا للجمال والحب والصداقة. لقد كنت صديق عزلاتك البهية، خليل غروب نادر في مكان يستحق الحياة، نجيبا في اختبارات الحياة، مرة غاضبا، وأخرى هادئا، والكثير من اللحظات صموتا لا يوقظك غير فم يصدح بأناشيد الرعاة القادمين من أقصى البهاء، وهم مدججون بغبار الفجاج، إلى حياة الهباء. فتستيقظ فيك حمم الداخل التي تحولها إلى قنابل مسيلة للدهشة والإرباك، فنسقط قتلى وشهداء حبك ونبل مشاعرك، فكنا معا نتبادل كؤوس المعرفة والصحو. نغني للكون نزيف الأرض ونشيد السماء، راقصين متبتلين في ملكوت المجازات والاستعارات، التي ما زلنا نحيا بها، رغم صفاقة العالم وحماقاته. آنذاك نقذف العالم بالخيال ونطلق الحقيقة لزبانية الوطن وسارقي الأحلام من قلوب الأمهات وعيون صبايا ينتظرن قدوم الربيع الذي تم اغتياله في المهد. وكنت أنت من يقود الكتيبة إلى ساحة الوغى ممتطيا صهوة المتنبي تارة، وأخرى بصيرة المعري، وثالثة بكأس باخوس التي تضيء الجوانح والجوارح حتى منتصف الحلم. كنا نتراشق كؤوس المعرفة والحياة بمحبة الأصفياء. نقاوم بالكلمة خرس الوجود ومحنة البشرية من حروب وهمية، وصراعات مجانية لم يجئ منها غير الويلات. ونضمد كلوم العالم برقصة ركادة، رفقة البهي عبد الخالق البقالي الوجدي الهوى والانتماء، أو حماقات محمد شهير الأمازيغي الجميلة، وهو يركل الدنيا ويلعن سدنتها الغارقين في سرقة البلاد، نكاية في شكسبير. وسخرية الشاعر والباحث المصطفى فرحات، التي تلعن قيامة الجحيم. سارتر والآخرون هم الجحيم. والضراوي الذي يريد التهام تفاحة العالم دفعة واحدة. والحاج شكري، وهو يفتي فتاوى في حق الأرض والمحبة. كانت الشلة شلة الأصفياء الخلان الذين يتعاركون في الصحو، ويعانقون مودة في صبيحة الحياة.

كَأْسُ الصَّدَاقَة
ِ
كانت صلة بعضنا ببعض تتجسر مع مرور اللقاءات الثقافية في هذه القرية، المطوقة بمتاريس الإحباط وهول الموت الذي يستشري في جغرافيتها؛ الجغرافية التي احتضنت شعراء وساسة عبروها ذات استضافة حاتمية من لدن القاضي أحمد بنمنصور، كالمختار السوسي والبونعماني وغيرهما. ومع ذلك بقينا بها متعلقين ومتشبثين بخلاءاتها البهية، فازدادت العلاقة متانة، واخترنا معا صف الخارجين عن سرب الموتى المقيمين فيها دون نأمة ولا حركة. كنا نتقاسم خبز الحياة بأريحية الغرباء وقد عثروا على أنفسهم يشبهون أهل الكهف. مع ذلك ظل الإصرار على تقاسم الكأس أمرا حتميا، فكرعنا من ماء المحبة والصفاء، الصحو والصفو، الكثير من الكؤوس. وفي هذا المسار تعلق بعضنا ببعض، دون منّ ولا نرجسية، أو ادعاء، أو تطاول على ما لا نعرف أصوله وقواعده. فكنت صديقا حاتميا في لطفك وصمتك، وصادحا سماء الخلاءات التي جمعتنا بأناشيد الخوافي والأعماق، إضافة إلى كونك لم تدّع يوما التعالم والتباهي، وإنما التواضع كان سجية من سجاياك، وحسنة من حسناتك. وتلك لعمري قمة روحك المترعة بإنسانية قلّ شبيهها اليوم.
صديقي، وأنت تحمل محفظتك على كتفك بتؤدة، وتضرب الأرض بخطوك الشريد، كنت أراك كقديس ضل طريقه إلى هذا المقام. وجهك يبزغ حيرة وتوترا، قلقا وغربة واغترابا، مثقلا برسائل عديدة حمّلتك الآلهة إياها لتوصلها إلى الناس، غير أن الناس لا يبالون ويضعون أصابعهم في آذانهم، مخافة أن تكنس من عقولهم غبار الأسلاف الذين بصموهم بخاتم الركون إلى الصمت، والتحلي بحسن السيرة. لكن، يبدو أنك أقمت هنا في عزلتك حالما ومتأملا، حائرا وحكيما، تقرأ كتاب الحياة في عيون شابها اليأس والخوف، واعتراها يبس العمر. عيون تعادي العقل وتُعلي من شأن البطن، وتلك سيرة الأمم المتقدمة جهلا وغباوة، الأمم التي تحب الإقامة في الليل، وتأبى الخروج إلى الشمس.
كأسك كأسي
وما بيننا طريق عريق في المتاهات
يسطع في المدى غيم يؤلف وصايا الأرض
فكنت صفيّي
وكنت دليلي
وعكاز اليقين التائه في جغرافيا العزلات…

كَأْسُ اَلْمَجْهُولِ

تلك كأس نتداولها فيما بيننا أيها الشاعر، والمقصود بها الاختيار الرؤياوي للذات في علاقتها بالعالم، فكل واحد منا يجترح لنفسه أفقا في الكتابة والحياة، لكننا نلتقي في التعبير عن هذا الجمال والقبح المحيطين بنا. قد نجلل الجمال ونعظمه، نبتغيه ونقتنص اللحظات الوجودية من أجله. كما نروم إلى تحويل القبيح المذموم إلى صورة بهية وذات حظوة أسلوبية، وهذه مهمة المبدع الأصيل المالك لناصية القول والمنطق من خلفيات شعرية ومعرفية تشحن هذا المعطى بنفَس جديد وحياة متجددة. فالكتابة باعتبارها موقفا، ونسجا للجمالة بوساطة اللغة، هذه الأخيرة لا بد لها من وازع تركيبي ودلالي لا يمنع من ارتياد كل ما تصبو إليه اللغة لتقول ما يستحيل ويكون في حكم المحال، ويسيرة الفهم والإفهام بلغة الجاحظ، وذات مذاق يلهب الرغبة في القبض على المنفلت والمنسي. كما أن الكتابة بحث أبدي عن هذا المجهول الذي يبقى غامضا وملتبسا، غير أنه يحفز على المغامرة والمغايرة، على اعتبار أن الإبداع، في محتده، كشف عن هذا المجهول وسعي صوب المناطق البكر التي لم يتم اكتشافها في الذات والعالم.
أيها الشاعر: أظن أن الحياة كتاب مفتوح على هذا المجهول، كتاب يستعصي على قراءة واحدة، وإنما مشرع على قراءات ممتدة في الاختلاف، وقائمة على التأويل. وهنا مكمن سر من أسرار الحياة، فالشعراء الأسلاف وهم يعلنون الولادة، فتحوا كتاب الحياة وتركوه للشعراء القادمين ليضيفوا إليه إضافات تغني العقل والخيال، وتُثوِّرُ المعرفة. ومع ذلك سيجد القادمون أن هذا الكتاب يدخلهم إلى هذا المجهول، وبالتالي فعظمة الإبداع لا تكمن في التعبير عن السطحي، بل في القدرة على ارتياد تخوم الكتابة، وعلى تلبية نداء الذات لاكتشاف جغرافيات بهية وجليلة من السرائر والوجود.
هكذا تكون الكتابة الدواء الذي يسعفنا على مواصلة المشي في حقول الألغام مطمئنين، مؤمنين بقيمة الحياة رغم قتامتها، ورغم ما تشهده من عودة إلى الغابوية وانتشار للخراب، والسعي إلى تكريس استبداد جديد بصيغ مختلفة، وعن طريق التقنية الماكرة، المخاتلة والتي تقود الإنسان إلى الفناء. فبالكتابة، أيها الشاعر، نرمم أعطاب الوجود وجنون الإنسانية، ونشيّد ممالك خيالية مسيّجة بمحبة اللغة وعوالم مفتوحة على الشمس، وحارسة للقمر، وسادنة لقيم الجمال والجلال، وتفتح أذرعها للغرباء أمثالنا للإقامة في بيت الحياة، مدججين بيقين الشعر.
أيها الشاعر سي عبد اللطيف الهدار
تمهّل قليلا في خطوك
ثمّة عصافير تنقح العالَم من جلبة الرصاص
تنشر الأغاني على جبال الله
تنفخ في ناي المدى ضوء الآتي
وتراود المجهول…!

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية