عبد الله السمطي: راصد الجمال في التراكيب المولّدة

حجم الخط
0

فسيفساء التنوّع

يبقى النقد في جوهره معياراً للقياس والتمحيص والتحليل في الأدب وصيانة له من الناحية النظرية كمولّد لقضايا التأويل، فنحن نرى أنَّ إسقاط هذا المنطق من مضمونه المولّد للدلالات، فلم يكن يعني من منظورنا سوى ديكورٍ جوهره فضفاضٌ ومضمونه هش، يُخفي السمات في عملية (التوليد الدلالي) والتنقيب في البنى الأركيولوجية، إذا جاز التعبير، وبهذا المعنى الدلالي لم تكن فكرة التجديد وامتداداته الدلالية حركة جامدة لا تولّد المعاني، ونلاحظ أنَّ أيّ إعادة لهذه المحاولة الجادّة لم تأتِ اعتباطاً، بل نشأت في أتون فلسفة فريدة من نوعها، انطلاقاً من نظرة جمالية متأمّلة تفصح عن ابتكار نهج نقدي استشرافي تجاوز نمطية الأدب في سياق يقوم على خلخلة المفهوم المعجمي المتداول في إطاره المنظور، لنقل القراءة الدلالية من سمات خاملة ونسقية، إلى سمات مطّردة ومعبّرة تبدعُ مفهوماً جديداً داخل ميكانزم التوليد لتقويم محتواه لضمان المبادئ الجمالية والقدرة اللغوية في مقابل التراكم الفوضوي وإعمام التصوّرات الشاذّة.
ورغم تدنّي النقد وخفوت ضوئه وتهالك آلياته ونضوب ينابيعه اللغوية وبناه اللسانية عند النسقيين، مقايسة بسياق التطوّرات الثقافية المولّدة أو المثبطة أو كليهما فإنّنا نلاحظ من جهة تحوّلاً دلالياً يبرز سمات حركة جدلية ساهمت في كيفية مطّردة في تطوّر البنية اللغوية النقدية على أيدي كتّاب أفذاذ يندرج السمطي من ضمنهم كناقد أثير، وربما كان الرائد من بين معاصريه ابتكاراً في صوغ منهج نقدي قائم على الرغبة في تحقيق التغيير والتجدّد والبحث الدؤوب في سياق نكاد نلمسه في تفجير الوعي الثقافي وقضايا التأويل لتعميق بنائه اللغوي والجمالي والرؤيوي.
ولكي يصون الناقدُ الجوهريُّ مبادئه ويؤسّس منهجاً نقدياً استثنائياً، فإنّه يتحتّم عليه في ذلك المنظور انتشال خطابه الثقافي من وهدة النرجسية والبهرجة الزائفة التي تنطوي عليها أمراض الأنا المتضخّمة، ليتسنّى له في نطاق الشعرية تفجير ينابيع الحداثة لاجتراح ثورة تضاهي القيم الجديدة وكينوناتها لتحقيق الرغبة في الانفصال عن السائد المبتذل الذي يحتلّ المركز ويضع الهامش في الصدارة، ولو تفحّصنا منهج السبطي الأبستمولوجي، في مختلف مستوياته ووعيه اللغوي لاكتشفنا تطوّراً عضوياً يخضع لمنطق معرفي يستولي على أسلوبه لإجرائيته في التجريب في حالة خلق بنية رؤيوية شاملة تضطرّه إلى التأمّل الواعي وتمكّنه من توليد جمالية انتقائية، تضمُّ كلَّ السمات، وتمثّل فسيفساء التنوّع الفنيّ، بفضل لغته وقدرته على الابتكار ونضج أدواته وتوسّعها التعبيري، ونهجه المطّرد في الاستقصاء والاستشراف الدلاليين ونظراً إلى طبيعة النقد في تركيبته كعلم مخصّص للقراءة الدلالية وكفلسفة تُستوحى منها كينونات معرفية مولّدة، فإنّه من الطبيعي أن يغدو كلَّ هدف كياناً دلالياً أخلاقياً معرفياً على هذا الأساس، وفي الدرجة نفسها من التصوّرات كما يجتهد السمطي، هذه إشارة واعدة ترجع إلى نظرته الجمالية التي تطابق وعيه المعرفي الذي يستدلّ عليه من منطقه ويعزّز رؤيته، هذا لأنَّ تأصيل النقد كأساس لمشروع نهضوي يقوّي دور الناقد في إثراء موضوعه ويساهم في تكوينه النفسي والعلمي والجمالي، ولذلك تتّسع دائرة معرفته وتزداد عمقاً لتعزّز جذور ثقافته ما يمكّنه عموماً من صوغ عناصر التغيير والتنبؤ والتوسّع، ليحمل شعلته المتوهّجة مستمداً وميضها الضوئي من رؤية شمولية كاشفة تنطلق من جدلية يراها من منظوره ضرورةً ملحّة لسلامة الذوق وصون الذات في غياب الوعي النقدي العربي جوهراً ودلالة وعمقاً.

نبوءة اللغة

لا نشكّ في أنَّ الكثير من النقد قد تجاوزه الزمن وتخطّى ركامه التاريخ في جدله لنمطيته وجموده الفكري وتقريريته المباشرة في ضوء التطوّرات المتنامية في قضايا التأويل، وربما لم نكد نلحظ هذه التطوّرات في أعطاف النقد الانفعالي لتذبذه، لأنّه بإيجاز اكتفى من هذا كلّه بانطباع لا يدلُّ على معيار خالص ليحتفظ مثلاً بخاصية جوهريّة، أو بسمةٍ أدبية تلمس جوهر الأشياء وكينوناتها، إذاك ستتنكّر لشعريتها المتعلقة بالعلم، وهي لذلك لا تجسّد حينئذ القيمة الفنيّة الكامنة في نبوءة اللغة وتحوّلاتها الحتميّة.
لا تمثّل في الحقيقة خوارزميات المعالجات النقدية بمفهوماتها السالفة رؤيةً كليّةً تحقّق كلّ ما يكفي من التأويل والتنبؤ بمولّدات الشعر من منظور علمي يتقصّى الدلالات وتوالداتها وتطوّراتها العضوية سوى تمجيد التأويلات المواربة التي ينقصها التوسّع في خوارزمية البحث العلمي، والتخيّل الإبداعي الخصب فضلاً عن جهل سابق في معرفة المناهج النقدية الحديثة وحركتها الجدلية.
وعلى الرغم من قتامة الصورة عموماً والإجحاف بحق كاتبين مخضرمين ممن تداولوا جوانب جمالية في تجارب محوريّة نستشفّ بوعي مرهف تلك الأفضية الانطولوجية التي منحت الشعر سمات مميّزة بين القراءات الدلالية والدراسات الرؤيوية، ولذلك نحن نرى أن من تلا النقاد البنيويين فلم يكن يسقط عن نفسه بنىً معجمية لها امتدادات محدودة في (التمثيل الدلالي) إذا جاز الإقرار بذلك المنظور، إذ لا نكاد نلحظ في منظومات النقد الانفعالي الشائع إلا كيانات لكليشيهات جاهزة استجابة لوحدات في كينونات سابقة مماثلة، ونغزو ذلك الاعتقاد إلى قصور في المعلومات النظرية، أو ضعف اللغة في توليد الدلالات والوعي الإدراكي لامتلاك رؤية عميقة توازي الخطاب المعرفي في التأويل واكتشاف العمق اللغوي في صميمه لاستنطاقه.
وربما اللافت في منتج السمطي ورؤيته وجدله إنّما اتّساع وحداته الدلالية وشموليتها وتمرّدها على الأنساق المعيارية التي تغدو أحياناً محاور للتأويل والجدل الثقافي الفضفاض، فلا غرو إذن أن يفكّ الناقد الجوهري ارتباطه بالمفهوم المعجمي ويخرق قيوده وينفصل عنه، فكراً ونقداً وتمثيلاً لئلا يسلّم قياده لنظرة مجافية للحداثة الشعرية، وطبيعي جدّاً أن يستدعي ذلك المنظور وعياً مغايراً وموقفاً قويّاً يُمكّنه من الإحالة على ضخّ الدم بما يخدم مشروعه النقدي لتغذيته بمستويات فكرية دلالية توازي الحداثة المتنامية في الشعرية العربية مقابل ظاهرة البلادة والتنميط.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية