بيروت: «القدس العربي»: بشوق التعرّف إلى «عش الدبابير» الذي نتابعه يومياً في نشرات الأخبار كانت زيارة أولى، واستدعت الثانية لمزيد من التأمل، بمعرض صور «جنين» في دار النمر في بيروت. الوقوف على تفاصيل المخيم، والتأمل في عيون الشباب المقاومين الملثمين المنتشرين في الطرقات، أو المغروسين شهداء في مقابر ثلاث، يستدعي وقتاً على مدخل معرض جنين الذي أنجزته الزميلة شذا حنايشة.
ثمّة صورة تُظهر المدينة وكأنها جبل ممتد متراص الأبنية، يبدأ من أسفل ويتدرّج صعوداً، في مشهد متداخل عمرانياً. تعريف بالمدينة وبشذا ابنة قباطية جاور الصورة الكبيرة. شهدت شذا الموت والحياة على مدخل المخيم، حين كانت تقف بجوار الشهيدة شيرين أبو عاقلة، لحظة اغتيالها.
القلب هو محرّك الجولة في المعرض، وكأنه يأخذنا إلى لقاء مع أهل المكان الذي يؤرق العدو. ومع توالي الصور يكتشف الناظر أوقات الناس وحياتهم، وكيف يتعايشون مع الاقتحامات اليومية؟ والاستشهاد الذي تضاعف في الأشهر الماضية، وبات زرافات وليس وحداناً.
تعددت صور زيارات أضرحة الشهداء. الجدران تحضن صورهم… أضرحة زنّرتها حجارة مميزة من الصخور المشهورة في جنين … وسطها تحوّل إلى حديقة تزهو فيها الأزهار والورود والخضرة، ففي جنين أضرحة الشهداء ليست احتكاراً للأمهات… هنّ تأتين عصراً لمجالسة الحبيب الشهيد ومسح الغبار عن صورته. وأيضا زيارات أصدقاء المقاومة والنضال،وذكريات الطفولة والشباب في كافة الأوقات. فأحدهم وضع هاتفه على ضريح صديقه يسمعه الأغنية الوطنية التي كان يعشقها، والمفارقة أن اليافعين هم جزء ملحوظ من زوّار الأضرحة، إما لأخ الشهيد، أو لجار، أو القريب، فهم يافعون يفيضون حزناً.
كاميرا شذا حنايشة أمسكت بيد المتصفح لعشرات الصور الآتية من مخيم جنين، ومعه مخيمي طولكرم وعين شمس، في زيارة استطلاعية حافزها الوقوف على حياة هؤلاء الناس الذين يعيشون المقاومة منذ الولادة. ليس هذا وحسب، بل حياة الصحافيين المهددة بمواجهة الصهاينة في الشارع، فهم يتعاملون معهم «كمشتبه بهم»، فيما تخضع طواقم الإسعاف لتفتيش دقيق، بحسب الصور.
وبرزت صورة «أم الشهيد» تحمل نعشه مع والده وتسير في المقدمة، وعلى يدها أنبوب المصل(الدوائي)، فنعرف أنها بعد مواراة فلذة كبدها ستعود إلى سرير المستشفى.
كما برزت صورة شاب وحيد لدى والديه يهتف في تشييع شهيد «يا أم الشهيد نيالك يا ريت أمي بدالك». وآخر يحمل قبعة ليحمي وجه صديقه الشهيد من أشعة الشمس والنعش في طريقه إلى مثواه الأخير.
أما “جبل المحامل» فهو أبو أنطون الزبيدي، تراه جالسا على كنبة محاطاً بصور شهداء العائلة من فوقه، وإلى يمينه ويساره. وبالمناسبة هو عم أحد ابطال نفق جلبوع زكريا الزبيدي… إلى رجل عجوز يلبس الكفية والعقال ويحمل العلم الفلسطيني في مواجهة الجنود الصهاينة أينما وجدهم.
في المقابل كان للمخيم أن يتنفّس بين اقتحام وآخر ويخرج متحدياً قساوة الواقع في ظل الاحتلال. أطفال يلعبون ويمرحون، بائع كعك يتجول متفادياً الصرف الصحي بعد تجريف الصهاينة للبني التحتية. وشاب من ذوي الاحتياجات الخاصة يقفز على عكازيه ضاحكاً وهو يتحدى الصرف الصحي المتسلسل عبر الطريق. وامرأة تجلس على عتبة منزلها الذي يعلوه إعلان بأنها صمّاء بالعربية والعبرية. ورجل يشكو من تدمير الاحتلال لجدار الصالون في منزله، وآخر يخفف عنه «مبروك صار عندك شبّاك ولم تعد بحاجة للمروحة».
لم تغب شذا حنايشة عن الجرائم الجديدة للاحتلال في المخيم. جميعنا يذكر تنكر جنوده بملابس الأطباء ودخولهم أحد المشافي واغتيالهم لثلاثة مقاومين مرضى. وأحدهم وُضع المسدّس في فهمه فاخترقت الرصاص الوسادة التي صوّرتها حنايشة كشاهد على الوحشية المطلقة.
هذا بعض من الزيارة إلى مخيم جنين. لقاء مباشر مع أجياله التي تفتخر بعيشها في «عش الدبابير» الذي يُقلق المحتل. فلسطينيون يبتكرون الحياة من الموت، والبسمة من الألم… إنهم متفائلون بأن النصر لم يعد بعيداً.