عروض أمريكا المسرحية

ربما لا يكون من داع لانتظار انتهاء إجراءات محاكمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الكونغرس بمجلسيه، وهي عملية قد تستغرق شهورا، والنتيجة معروفة سلفا، فلن يتقرر عزل الرئيس.
مجلس النواب بأغلبيته الديمقراطية وافق على قرار الاتهام، وبقية إجراءات المحاكمة، انتقلت إلى مجلس الشيوخ، حيث يتمتع الجمهوريون ـ حزب الرئيس ـ بأغلبية 53 صوتا من أصل مئة عضو، وهؤلاء بدورهم، سيردون الصفعة لخصومهم الديمقراطيين، ويقررون براءة الرئيس، الذي تحتاج إدانته إلى موافقة ثلثي الأعضاء، وهو شرط يستحيل توافره في ظل الاستقطاب الحزبي الحاد، فكل الأطراف تضع عينها على الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
ودعك من بهرجة الإجراءات والصور، كأن يترأس رئيس المحكمة العليا جلسات المحاكمة البرلمانية، وأن يتحول أعضاء مجلس الشيوخ إلى محلفين، وأن تكون المناقشات حامية بما يكفي، وأن يدعي الكل الولاء للدستور لا للنزعات الحزبية، فكل ذلك من لزوم ما لا يلزم، ولم يسبق لمحاولة عزل رئيس في الكونغرس الأمريكي أن نجحت، فقد فشلت محاولة عزل الرئيس أندرو جونسون عام 1868، وفشلت محاولة عزل الرئيس بيل كلينتون أواخر القرن العشرين، بينما توقى الرئيس نيكسون إجراءات العزل قبل أن تبدأ، واستقال من منصبه أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وقطع الطريق على خصومه، بعد الكشف عن فضيحة «ووترغيت»، وكانت فضيحة تنصت على اتصالات المقر الانتخابي لخصومه الديمقراطيين.
والجرائم المنسوبة للرئيس ترامب أوضح من أن تخفى، فقد أجرى اتصالات هاتفية مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، طالبه فيها بفتح التحقيق من جديد في فساد شركة «باريزما» الأوكرانية، التي كان هنتر نجل جوزيف بايدن عضوا في مجلس إدارتها، والهدف ظاهر، فترامب يريد إحراج الأب جو بايدن نائب الرئيس السابق أوباما، وهو منافس ترامب الرئيسي المحتمل في انتخابات 2020، وتحقيق مكاسب سياسية وشخصية انتخابية الطابع، خصوصا أن ترامب أقدم على تجميد مساعدات مالية كبيرة لأوكرانيا، على سبيل تكثيف الضغوط، إضافة لعرقلته عمل الكونغرس، كما يقول الديمقراطيون، وهي اتهامات رفضها ترامب، ورفضها الجمهوريون من بعده، على الرغم من الثبوت القطعي للوقائع، لكنها تفسر بحسب الهوى والمقاس السياسي، فحيوية المصالح أقوى من نزاهة المحاكمات ونصوص الدستور. وهكذا تتحول القصة كلها إلى مجرد عرض مسرحي، تنقله الشاشات التلفزيونية إلى أربع جهات الدنيا، ويتحول غالبا إلى عرض كوميدي، ربما ينافس كوميدية الرئيس الأوكراني، وهو في الأصل ممثل كوميدي يهودي الديانة، قفز بهلوانيا إلى كرسي الرئاسة في «كييف»، وربما يضحك في سره من بهلوانية ترامب، الذي سخر من قرا ر الديمقراطيين في مجلس النواب، وتعهد بإسقاط نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب في الانتخابات المقبلة، ووصف قصة الشروع في عزله، بأنها «مطاردة ساحرات»، على طريقة سلوك العوام الغربيين في العصور الوسطى، الذين كانوا يحرقون نساء مختارات في احتفالات دينية جماعية همجية، بدعوى كون النساء ساحرات، يمارسن فنون السحر الأسود لتدمير حياة الآخرين.

رغم ثبوت الوقائع ضد ترامب ، لكنها تفسر بحسب الهوى والمقاس السياسي، فحيوية المصالح أقوى من نزاهة المحاكمات ونصوص الدستور

ثم زادت الجرعة المثيرة للسخرية في قصة العزل كلها، حين لجأ نائب جمهوري إلى تصعيد ترامب إلى مرتبة السيد المسيح شخصيا، وقال إن محاكمة المسيح كانت أكثر عدالة من محاكمة ترامب، وهو ما استهوى ترامب على ما يبدو، وجعله يجزم بأن معارضيه لن يذهبوا إلى الجنة بعد الممات، إلى حد زعمه أن جون دينجل، وهو نائب ديمقراطي أسود توفي قبل شهور، لم يدخل الجنة في آخرته بحسب تأكيدات ترامب. وبعيدا عن التفاصيل المسلية، فقد انتهي النظام الديمقراطي الأمريكي إلى فساد دعواه، وثبت أن رجل أعمال كترامب، يستطيع أن يشتري ويبيع أمريكا على هواه، ومن دون اكتراث بدستور ولا بقيم الآباء المؤسسين، ولا بالتزامات العدالة والنزاهة وكرامة منصب الرئيس، ولا باحترام العقل والرأي العام، ولم يعد للكونغرس سلطة إحداث التوازن مع البيت الأبيض، الذي لم يترك ساكنه مخالفة إلا ارتكبها، ولم تفد في مواجهته انتقادات الميديا الحرة والمتنوعة إلى أبعد مدى، ولا نصائح المستشارين والموظفين الكبار، الذين أقالهم تباعا، ومن دون أن تتأثر شعبيته في الشارع على نحو مؤثر، بل ربما زادت، وبصورة حولت محاكمة عزله إلى جولة دعاية إضافية، في حملته لكسب دورة رئاسية ثانية، أغلب الظن أنه قد يفوز بها في نوفمبر المقبل، استنادا إلى عنصرية نامية عند الأمريكيين، تستعيد أسطورة تفوق الرجل الأبيض، وتنسب إلى السكان والمهاجرين اللاتينيين والزنوج والمسلمين والآسيويين جرائم التدهور، وتراجع مكانة وتأثير أمريكا العالمي.
ورغم حرص ترامب على اتهام سلفه الديمقراطي باراك أوباما بكل الموبقات، في إشارة مبطنة غالبا إلى كون أوباما من الملونين، ورغم الفارق الظاهر بين الاثنين، فأوباما كان محاميا مثقفا، ويتمتع ببلاغة لغوية آسرة، بينما يبدو ترامب غليظا فظا وجاهلا في أغلب الأحيان، ورغم الفوارق الشخصية، فإن ما يجمع بينهما شيء آخر، هو حالة أمريكا الراهنة في الأساس، فلم يعد لأمريكا من سنوات ذلك البريق القديم، الذي تمتزج فيه الهيمنة بالجاذبية، فقد بدت أمريكا طويلا كأرض أحلام للبشر، وجرى تجاهل البدايات الأولى لدولتها الفيدرالية الكبرى، وقد بنيت أساساتها على حروب إبادة وإفناء جماعي للسكان الأصليين، وبدعاوى توراتية وإنجيلية كاذبة، وبنداء لسكان العالم أن يأتوا إليها، كسبا لحرية يمثلها تمثال موحٍ لامرأة المشاعل على شاطئ نيويورك، اجتذب خيرة خبرات البشر من كل مكان، وبنوا دولة هائلة التفوق في كل المجالات، وحين خرجت أمريكا بقوتها المهولة إلى العالم الفسيح بعد الحرب العالمية الثانية، كانت هي الأولى في كل شيء، وكان اقتصادها وحده يمثل نصف اقتصاد العالم كله، وآلت إليها قيادة الغرب المتقدم، الذي كان قد ساد العالم طوال خمسة قرون، وبعد سبعين سنة، حققت فيها أمريكا ما بدا كأنه الانتصار النهائي، وأزالت من طريقها تحدي الاتحاد السوفييتي وكتلته الشيوعية السابقة، وعلى نحو درامي عاصف، بدت معه أمريكا كأنها الكائن المرهوب المرغوب عند كل البشر، وبدت واشنطن كأنها قطب وحيد في قيادة الكون البشري، ثم تبدد ذلك كله سريعا، وذهب سحر أمريكا، مع تبدد غبار حرب واشنطن لغزو العراق، وتكشف التوازنات الحقيقية الكبرى لعالم جديد، تخلق في الأربعين سنة الأخيرة بالذات، وتوزعت فيه أقطاب السلاح والاقتصاد، على نحو مختلف كيفيا، خصوصا مع الصعود الصاروخي الباهر للاقتصاد الصيني، وعودة روسيا إلى سباق صناعة السلاح الأكثر تطورا، وتراجع حصة اقتصاد أمريكا من الاقتصاد العالمي، إلى أقل من نصف ما كانت عليه بعد الحرب الثانية، وتشقق دور حلف الأطلنطي الذي تقوده واشنطن، وتحول العولمة الاقتصادية والتجارية إلى عكس ما قصدته أمريكا، فقد تحولت العولمة من «الأمركة» إلى «التصوين»، وتبين حجم خسارة أمريكا في المنافسة المفتوحة، وتحولها من مكانة «القوة الأعظم» بألف ولام التعريف والتفخيم، إلى مجرد «قوة عظمى» بين متنافسين كبار، وإلى أكبر بلد مدين في التاريخ الإنساني، تجاوزت قيمة ديونها إجمالي ناتجها القومي الإجمالي، وكان شعور أمريكا بالضعف الذاتي، هو السبب الجوهري في ميلها للتواضع، واختيار أوباما الملون، الذي حاول تقصير خطوط انتشار أمريكا الكوني، وحاول التفاهم مع الصاعدين الجدد إلى قمم الاقتصاد والسلاح، ومن دون أن تؤدي طريقته التصالحية إلى نفع كبير لواشنطن، ومن هنا جاء تحول المزاج الأمريكي إلى التصادم بدلا من التصالح، وبدت طريقة ترامب التصادمية، كأنها الخيار الآخر الممكن، بفرض قيود وجمارك حمائية، وبنزعة خروج عملي من سباق العولمة، ومطالبة الحلفاء بدفع نفقات حلف الأطلنطي، وبمزيد من انكماش أمريكا على داخلها، وبقصر دورها الدولي على صفقات بيع السلاح، وبما أنعش معدلات النمو وخفض معدلات البطالة، ولكن من دون عودة مظفرة إلى التألق الذي كان، ومع المزيد من تفاقم الديون والزيادة الرهيبة في عجز الميزان التجاري، وهو ما قد يدفع المزاج الأمريكي إلى إعادة انتخاب ترامب، ومن دون مبالاة بخرقه لقواعد الدستور، ولا بأبجديات العدالة، ولا بإصلاح النظام الانتخابي الأمريكي الشائه، الذي سمح بفوز ترامب الحاصل على أصوات شعبية، أقل من منافسته السابقة هيلاري كلينتون، وهو ما لا يحدث أبدا في أي ديمقراطية أخرى بالعالم، تماما كما تجري محاكمات عزل صاخبة، هي أشبه بعروض مسرحية، قد تستثير الاهتمام من دون استدعاء للاحترام.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أكثر من نصف الأمريكان يحبوا ترامب! فهو جعل الأمريكيين ومصالحهم فوق الجميع!! أليس هو صاحب أمريكا أولاً؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول سمير الإسكندرانى / الأراضى المصرية المحتلة ! … لابد لليل ان ينجلى:

    اما المسرحية او قُل المأساه هو ان تُختطف دولة كانت دورة الشرق من قِبل عصابة ارهابية ويسوقوا لانفسهم ويسوق مطبليهم لهم لفشلهم المزرى على انه نجاح باهر ولظلمهم على انه قمة العدالة ولخيانهم على انها ذروة الوطنية ولتآمرهم مع العدو على انه مصلحة ولتفريطهم فى ارض الوطن ومقدراته واهدار ثرواته على انه كرم ولغبائهم على انه عبقرية! المسرحية او المأساه هى ان تُعقد فى كل اسبوع مؤتمرات كلفتها بالمليارات فى دولة يزعم سفيهها انها فقيرة اوى

  3. يقول علي:

    محاكمةترمب ولو لم تؤد إلى عزله ، فإنها تمثل حلما للمستقبل لمحاكمة بلحة وأعوانه وأمثاله. الشعوب تقتص من حكامها الطغاة،وخاصة لو كانوا في منزلة ” ديكتاتوري المفضل” والنخب الخائنة التي تؤيده بالليل، وتناضل في النهار. لقد سقط بن على والقذافي ومبارك وعفاش والبشير وبوتفليقة، ولصوص العراق، والدور على بشار وبلحة وحميدتي وحفتر والشيخ حسن السفاح والمناشير وقادة الأعراب.. الحريةقادمة لا ريب فيها.

  4. يقول بلحرمة محمد المغرب:

    لا ابالغ ان قلت ان امريكا هي الطاعون التي يتهدد كل العالم فهي تسخر كل قوتها ليس لاجل نشر السلم والامن والامان عبر البسيطة ولكن لاشعال الحروب والنزاعات وزعزعة استقرار الدول لا سيما المناوئة لها فلا اظن ان الرؤساء الامريكيين السابقين يختلفون عن هدا التاجر الامريكي الحالي القابع في البيت – الابيض – فكلهم وجوه لعملة واحدة والاختلاف الوحيد هو صراحة ترامب بعيدا عن المجاملات والتزلف والتملق التي كان ينتهجها زملاؤه السابقون.

  5. يقول الإدريسي عبد الرحيم:

    السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
    يا استاذ ماذا عن مسرحية المؤتمرات العالمية للشباب؟

  6. يقول من فمك أدينك ـ عابر سبيل:

    يقول السيد قنديل في هذا المقال بأن ترامب “يبدو غليظا فظا وجاهلا في أغلب الأحيان” وأنه “يستطيع أن يشتري ويبيع أمريكا على هواه، ومن دون اكتراث بدستور ولا بقيم الآباء المؤسسين، ولا بالتزامات العدالة والنزاهة وكرامة منصب الرئيس، ولا باحترام العقل والرأي العام”. على ما يبدو أن السيد قنديل نسي نظريته التي أطلقها في شهر يناير 2017 في مقالته بعنوان “السيسي وترامب” والتي بشر فيها بـ “كيمياء التوافق التي تجمع بين السيسي وترامب” . أهنىء السيد عبد الحليم قنديل على نظريته السديدة فكيمياء التوافق تلك تفسر لنا التصريحات الغير مفهومة التي يطلقها السيسي من حين لاخر وكذلك تفسر بيع السيسي لـ صنافر وتيران للسعودية. كيمياء التوافق تلك تفسر أيضا تدمير السيسي لأحياء بأكملها في سيناء وتشريد أهلها خدمة للعدو المحتل .

  7. يقول سمير الإسكندرانى / الأراضى المصرية المحتلة! … لابد لليل ان ينجلى:

    مايسميه الكاتب مسرحية هو فى الواقع إجراءات قضائية بحتة لابد من إتباعها لعزل رئيس الدولة عندما يرتكب جريمة بصرف النظر عن النجاح او الفشل فى العزل!
    مش هو ده القانون؟
    هو ولا مش هو يامتعلمين يابتوع المدارس؟!!

اشترك في قائمتنا البريدية