عفاف الدولة الأمنيّة وفجور فتيات «تيك توك»!

بثت طالبة في كلية الآثار في جامعة القاهرة تدعى حنين حسام، مقطع فيديو في نيسان/إبريل الماضي، تدعو فيه من يرغب من الفتيات المصريات للعمل معها. ظهرت حنين، التي يتابع حسابها مليون وثلاثمئة ألف شخص، في الشريط مخاطبة الفتيات: «أعرف أن لديكن مشاكل مادية. أنا أسست وكالة، وأريد في «الغروب» بنات فقط. لا أريد أي ولد»، مضيفة في إعلانها: «ستتعرفين على الناس وتكوّنين صداقات بشكل محترم وجميل.. أهم شيء عندي السمعة.. ولكل شيء ثمنه وحسب المشاهدات، من 36 دولارا حتى 2000 و3000 دولار».
من الواضح أن لدى حنين موهبة ما، وإلا ما كانت استطاعت دفع 1.3 مليون إنسان لمتابعتها، وقد نبهتها موهبتها إلى إمكانيات تحويل «البزنس» الصغير إلى أكبر، لكن الصبية ليست كاتبة محترفة، ولا خبيرة قانون، وواضح أن عمرها لم يعطها تجربة كافية، لإدراك أن من يشاهدون المقطع، وأن كثيرين منهم، لا يعرفون تطبيق التواصل الاجتماعي الصيني «تيك توك»، لا يستطيعون فهم ما قصدته بالقول إن «لكل شيء ثمنه وحسب المشاهدات» (وهو يعني أن الفتاة التي تستطيع جلب مشاهدات أكثر ستحصل على مال أكثر مثلها).
كان لمشروع «بزنس» حنين أن يثمر لولا أنها تقيم في مصر، لأسباب عديدة يمكن أن يضعها بعض الاقتصاديين ضمن معوّقات «تمكين» المرأة في مجتمع متخلّف أو مفوّت، وقد يصنّفها بعض باحثي الاجتماع ضمن ممانعة المنظومة الاجتماعية في مجتمع عربي إسلامي، لصعود مكانة النساء ضمن مجتمع ذكوري هرميّ، فيما سيعتبرها المختصون بقضايا الجندر، قمعا ذكوريا للإناث، وسيجد العاملون في مجال علم النفس، الكثير مما يقولونه حول رهاب المرأة والعصاب الفردي والجماعي.
أيّا كانت التفسيرات فإن ما حصل لحنين (ثم لفتيات أخريات، حاولن استغلال منصات التواصل الاجتماعي، ضمن سياقات مختلفة للحصول على شهرة سريعة، أو جلب متابعين)، جعلها تتعلّم، بطريقة قاسية جدا، أن الشهرة ليست قابلة للتحويل إلى عملة صعبة وحسب، بل إنها شيء خطر أيضا، في دول تسيطر فيها السلطات (أو تحاول السيطرة) على المجال العام، ولعلها فهمت، أو لم تفهم، أن كل شيء يحصل ضمن المفاعل الانفجاري لعلاقات السياسة والاجتماع والدين والجنس في مصر، وفي العالم العربي عموما، تتم ترجمته أمنيّا وسياسيا.

جهات غير سياديّة

إضافة إلى ديناميّات الضبط والربط والمراقبة، التي تمارسها أجهزة الأمن والنيابة العامّة والقضاء ومستتبعاتها، التي تعتبر نفسها قادرة على «ترجمة» كل تفاصيل العالم خارجها، إلى قضايا أمنية أو دعاوى قضائية، فهناك رقابات إعلامية واجتماعية أيضا، إذا لم تكن قادرة على التصرف مثل «جهات سياديّة» فهي لا تقل تعطّشا للبطش عنها، إذا توفّر لها السياق المناسب، وهو ما يفسّر، إلى حدّ ما، مطالبة بعض الإعلاميين في مصر بالتحقيق في الفيديو، أما قيام بعض هؤلاء بـ»مناشدة العائلات مراقبة بناتهن، خشية تورطهن في أعمال دعارة»، فيجمع بين الحاجة للترويج الإعلانيّ عن وسائل إعلام متهافتة/ صحافيين رقيعين، التهتّك النفسيّ المرضيّ، الذي يحوّل رقص صبايا أو أفعال تسلوية (بمقاييس المجتمعات كافّة) إلى رغبات مستترة بأفعال فاضحة. تبين الحادثة أن حيزا من الجمهور، الذي هو موضوع مراقبة وصياغة أمنيّة بالتعريف، لا يختلف في رؤيته للعالم، الذي يقع في مراتبه المتدنية في ميزان القمع، عن رؤية قامعيه، وهو ما يعطي سلعة القمع مطلوبيّة كبيرة للاستخدام العام، ضمن تراتبيّات معقدة للطبقات والدين والجندر.
بعد حسام حنين، تم القبض على فتاة أخرى من مشاهير تطبيق «تيك توك» تدعى مودة الأدهم، ووجهت لها تهمة «الاعتداء على مبادئ وقيم أسرية في المجتمع المصري»، ثم أوقفت فتيات أخريات بتهم تدور بين «التحريض على الفسوق» و»نشر محتوى خادش للحياء العام» و»أفكار تهدد أمن المجتمع»، وتبعت ذلك عمليات قبض عديدة لفتيات أخريات.

يذكّر موضوع «التيك توك» الطارئ هذا بموجة طامّة من الرعب، عمّت السلطات العربية في ثمانينيات القرن الماضي، فانشغل سياسيون وكتاب وإعلاميون ببحث كيفية «تحصين» الشعوب والأمم من «الانفتاح»، أمام آثار العولمة والقنوات الفضائية والإنترنت والهواتف الجوّالة.

تشرح «وحدة الرصد والتحليل» في النيابة العامة طريقة عملها، في ما يخص «فتيات التيك توك»، برصد وسائل التواصل الاجتماعي، التي رصدت في موضوع الظاهرة الآنفة «غضب رواد التواصل» وتلقي «عدة مطالبات بإلقاء القبض»، والظريف أن هذه المطالبات جرت عبر صفحة «النيابة العامّة» الرسمية على فيسبوك.

من رعب العولمة إلى إرهاب الإنترنت

يذكّر موضوع «التيك توك» الطارئ هذا بموجة طامّة من الرعب، عمّت السلطات العربية في ثمانينيات القرن الماضي، فانشغل سياسيون وكتاب وإعلاميون ببحث كيفية «تحصين» الشعوب والأمم من «الانفتاح»، أمام آثار العولمة والقنوات الفضائية والإنترنت والهواتف الجوّالة، وهي موجة اضطرت السلطات في النهاية إلى الاستسلام لها، وبعد ذلك انتقلت لمحاولة استيعابها وتطويعها، عبر إنشاء قنواتها الفضائية الخاصة، والسيطرة على حقوق شبكات الموبايل والإنترنت، وفي مرحلة لاحقة إلى استخدامها للتجسس على مواطنيها، والتأثير عليهم، وإنشاء حملات إلكترونية ضد خصومهم، عبر أجهزة أمن رقميّة تمارس القرصنة، وتدير حملات الذباب الإلكتروني وتقوم بـ»رصد وتحليل» آراء الناس، كما تفعل النيابة العامة في مصر.
معلوم طبعا أن «تيك توك» هو تطبيق صينيّ، وأن الصين، تحت قيادة رئيسها الحالي تشي جيبينغ، تسعى لتكون قوة سيبرانية عظمى، وأن جيبينغ يرأس بنفسه مجموعة قيادة مركزية لأمن الإنترنت والمعلومات، التي ترتبط برغبة القيادة بإنشاء شبكة عنكبوتية تحت السيطرة بهدف إحباط التعبئة السياسية، ومنع تدفق المعلومات التي يمكن أن تقوّض النظام الحاكم. التطبيق ضمن هذه الرؤية، هو إنجاز للخبرة الصينية الكبيرة في الضبط والمراقبة، فهو يهدف لنشر التسلية العامّة المنضبطة، وتقوم خوارزمياته على مكافحة أي مضمون سياسيّ كان، وعلى سبيل المثال، فإنه بعد موجة «حياة السود مهمّة»، التي اجتاحت التطبيق لأسبوعين، تمكنت الخوارزميات من «تطهير» التطبيق من الفعاليّة السياسية العالميّة الكبرى.

خداع الخوارزميّات

للتغلّب على هذه السياسة يقوم كثيرون بخداع الخوارزميات، عبر نشر مواد حول الطبخ أو الرقص مضافا إليها موسيقى، ثم وضع مضمون سياسيّ في الخلفيّة بطرق غير مباشرة، ومن القصص الشهيرة التي ظهرت مؤخرا، كانت قصة لناشطة استطاعت خداع التطبيق، ونشر مضمون سياسي حول أوضاع المسلمين الصينيين «الأيغور» الذين يتعرّضون لاضطهاد جماعي، ويحتجز مئات الآلاف منهم في مراكز جمع وسجون.
أمرت السلطات الصينية موقع Tencent، وهو أحد عمالقة القطاع الرقمي في البلاد، بإغلاق مواقع إلكترونية تتضمن مناقشات عن التاريخ والعلاقات الدولية والجيش، وإضافة إلى «تينسينت» فقد غرّمت الحكومة الصينية محرك البحث Baidu وموقع التدوين Weibo وحظرت الشبكات الافتراضية الخاصة VPN التي تساعد على التهرّب من الرقابة الحكومية، وخضعت شركات كبرى كأبل لشروط بكين. يخلق هذا «الجدل» بين طريقة تعامل نظامين سلطويين، في الصين، التي أنتجت إحدى شركاتها تطبيق «تيك توك»، ومصر، التي يقوم جمهورها، خصوصا الشاب منه، باستخدامه، مفارقات ذات مغزى، فكلا البلدين مهتمّ اهتماماً شديدا بالسيطرة على المجالات العامّة، خصوصاً التي يشتقّ منها عامل سياسيّ، لكنّ آليات السيطرة، في الحالة المصريّة، لا تقوم بفلترة السياسي وفصله عن التسلوي، عبر آليات الحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعي والخوارزميّات التي تفوّقت فيها عالميّا، بل عبر آليات «الرصد» التي تختلط فيها آراء السياسة القمعيّة مع الاجتماع المحافظ الفظّ والإعلام التهريجي، وبذلك يتعاون الأمنيّ الذي يرى في كل حركة، مهما قلّ شأنها خطرا جسيما، ويعتبر الاجتماع المحافظ في اجتماع مئات الآلاف على متابعة صبيّة صغيرة ترقص «تهديدا لقيم الأسرة»، ويحذّر الإعلام المهرّج من «الدعارة»!

٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    هناك محجبات يقمن بأفعال ورقصات على التيك توك لا تتناسب ورمزية الحجاب الدينية!
    هل هن بالأساس غير محجبات ويلبسن الحجاب لتشويه سمعة المحجبات؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول عادل:

    الأخلاق الفردية والاجتماعية، في واقع الأمر وليس في ذهن الليبراليين، هي ليست “ترفاً” يمكن تجاهله لتحقيق هدفي بقاء الأمم ورخائها، بل هي أساس متين للنظام الاجتماعي العام قبل سلطة القانون/البيروقراطية وبعده. وعلى الإعلاميين الليبراليين أن يتفقهوا قليلاً في علم الاقتصاد الحديث، وتحديداً نظرية إخفاق الأسواق ونظرية إخفاق الحكومات ليدركوا بعمق حاجة الأمم الماسة الى القيم والأخلاق المشتركة، خصوصاً الدول العربية التي تعاني من هشاشة الأسواق الحرة والإدارة العامة. ولا أريد أن أبدو بمظهر من يحصر الأخلاق بنطاق “جندري” لكن الا توجد طريقة ل “تمكين” المرأة العربية والمسلمة سوى بالإبتذال والدعوة اليه والتهكم على الأخلاق وربطها بالإستبداد الرقمي؟ لم لا تُمكن المرأة في العلوم الشرعية والدنيوية؟ وفي ميادين العمل الاجتماعي التطوعي؟ وفي تأسيس أسرة متينة وجيل جدي؟

  3. يقول S.S.Abdullah:

    أنا لي زاوية رؤية مختلفة، بخصوص سؤال هل الوظيفة استحقاق وطني، أم هي وسيلة للدخل؟، وهل أي دخل له علاقة بالغش/الفساد/العهر، أم لا؟، وكيف للدولة أن تعاقب أي موظف في تلك الحالة؟، لزيادة إيرادات الدولة من (الرسوم/الضرائب/الجمارك)،

    وهو أول تعليق على تفاصيل ما ورد تحت عنوان (عفاف الدولة الأمنيّة وفجور فتيات «تيك توك»!) والأهم هو لماذا؟!

    في البداية، أثبّت أنا ضد أي فلسفة/سياسة نسوانية،

    والسبب بالنسبة لي، السياسة عندما تكون عقلية نسوان (الحزب القومي السوري)، التي أساسها العند/الكيد، أو العند/الكيد المُضاد، على أرض الواقع،

    من أجل إثارة فلانة أو علانة من الزوجات الأولى والثانية والثالثة،

    بواسطة اللوبيات (المال السياسي)، لتسويق الفساد/الغش/العهر،

    لأن إشكالية الصراع بين الفلسفة والحكمة التي تمثلها عقلية دلوعة أمه (دونالد ترامب) عندما يستلم السلطة،

    الآن الفكر/الفلسفة أولاً، أم الخبرة/الحكمة أولاً،

    معنى قرار دلوعة أمه (دونالد ترامب) هو إعطاء الخبرة/الحكمة، مكانة أفضل في التوظيف/الوظيفة في النظام البيروقراطي الآن، عندما ألغى مفهوم الشهادات كوسيلة تقييم في اختيار أي موظف، لوظيفة في النظام البيروقراطي في دولة الولايات المتحدة الأمريكية.??
    ??????

    1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      أشعر أنك تقوم بخلط للأمور أخي S.S.Abdullah فالخبرة والحكمة شيئان مختلفان وإن اشتركا في جزئياً. الفكر/الفلسفة أيضاً كذلك لأن الفلسفة هي جزء يسير من الفكر الإنساني.

  4. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكراُ أخي حسام الدين محمد. يمكن القول أن الحالة الصينية أرحم من الحالة المصرية أو العربية بشكل عام رغم سوء الحالة الصينية طبعاً. والسبب هو أن الجهل مرض صعب جداً وهو حالتنا مع أنظمتنا. النظام الصيني يقترف الخطأ عن معرفة وإدراك أكثر مما تعتقد أنمتنا التي تأخذ بالصين كمثال لقمع الحريات بينما أنظمتنا تقوم بذلك بطريقة أقل مايمكن وصفها أنه تسلط أعمى ولايقود إلا إلى هلاك المواطن والوطن معاً.

  5. يقول سلام حيدر:

    غني عن القول أن حرية التعبير يجب ان تكون مُصانة ومكفولة، بما لا يمس بفضاء الرأي، لكن وفق ضوابط وقواعد أهمها بل وأقدسها عدم تهديد السلم الأهلي وتعريض المجتمع للخطر، وهو ما لم تقصّر وسائل التواصل ـ التناحر الاجتماعي في تجسيدها لهذا الخرق سواء على الصعيد الفردي أو المجتمعي، وبهذا الصدد لابد أن الكثير يعرف أن المذابح المرتكبة في ميانمار ضد مسلمي الروهينغا قد بدأت شرارتها أصلاً على شكل مناقشات وحملات على صفحات الفايسبوك، والأمثلة الدموية، لا حصر لها في هذا السياق. ومثلما صار العلماء يتنبأون بإمكانية تحوّر شكل الإنسان عبر الأجيال القادمة بسبب إفراطه في استخدام الأجهزة الحديثة من آيفون وسوى ذلك، كتغيّر شكل اليد الممسكة دائماً بهذا الجهاز أو أن الأجفان ستغدو أكثر سماكةً، حماية للعين من إضاءة وإشعاع هذه الأجهزة، فإني أزعم، أيضاً أن النفس البشرية ستعرف ـ إن لم تكن قد أٌصيبت بالفعل ـ بأمراض لا عهد لها بها من قبل، مرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي هذه، ما يتطلب علم نفس جديد قادر على استغوار هذه المشاكل والتعامل معها. وشكراً للأخ حسام الدين على إثارته الموضوع، مع التقدير.

اشترك في قائمتنا البريدية