عقود الزواج غطاء لغسيل الأموال في العراق

مصطفى العبيدي
حجم الخط
0

بغداد ـ «القدس العربي»: أثار قرار مجلس القضاء الأعلى في العراق، قيام المحاكم، بتدقيق عقود الزواج التي تكون المهور فيها بمبالغ ضخمة، اهتماما كبيرا لدى العراقيين ورجال القانون، وذلك لكون معظمها غطاء لغسيل الأموال وعمليات الفساد المالي.
وفي الآونة الأخيرة شهدت محاكم الأحوال الشخصية العراقية، ظاهرة مريبة، تتمثل بانتشار عقود الزواج ذات المهور المرتفعة بشكل مبالغ فيه، وسط شكوك بأنها وسيلة جديدة لغسيل الأموال المشبوهة المصدر، ما دفع مجلس القضاء الأعلى، لتوجيه المحاكم، بتدقيق عقود الزواج التي تتضمن مهورا ضخمة قد تصل إلى مليار دينار عراقي أو أكثر، وسط تساؤلات حول مصدر الأموال المتداولة وأهداف الزواج الفعلية التي تنتهي غالبا بطلاق سريع.
وأصدر مجلس القضاء تعميما عاجلا إلى محاكم التمييز والادعاء العام وجميع محاكم الاستئناف، يحذر فيه من استغلال محاكم الأحوال الشخصية في ارتكاب جرائم غسل الأموال.
وذكر المجلس في التعميم أنه «نظرا لخطورة جريمة غسل الأموال، وإحدى صورها تتمثل في استغلال القضاء عبر محاكم الأحوال الشخصية لتسجيل عقود زواج وهمية مع مهور مرتفعة بشكل غير مبرر، تليها حالات طلاق سريعة، فقد تم توجيه المحاكم بضرورة اتخاذ الإجراءات التالية: في حال كان مهر الزواج المذكور في عقد الزواج مبالغا فيه، يتعين على المحكمة إلزام طرفي العقد بتوضيح مصدر الأموال قبل إتمام عقد الزواج».
وأوضح مجلس القضاء أن هذه الحالات تشمل «عقود زواج تتضمن مهورا مرتفعة، سواء كانت نقدية أو وفقا للعرف السائد في المنطقة، بالإضافة إلى أي مستحقات جرمية أخرى منصوص عليها في قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم (39) لسنة 2015».
وبناء على هذا الأمر، فإن المحكمة تطلب من طرفَي العقد بيان مصدر الأموال قبل عقد الزواج. وإذا شك القاضي في مشروعية المصدر أو في نية الزواج، فإنه يُحيل الطرفين إلى مكتب مكافحة غسل الأموال لاستكمال التحقيق.

قرارات استثنائية للقضاء

ولمتابعة هذا الموضوع، قامت «القدس العربي» بجولة في بعض محاكم الأحوال الشخصية في بغداد، حيث أكد المحامي سعد الدليمي للصحيفة، «أن الإجراءات الأخيرة لمجلس القضاء هي قرارات استثنائية تهدف إلى تنظيم عقود الزواج والطلاق، في محاولة لسد الثغرات القانونية التي تُستغل في عمليات غسل الأموال وممارسات الفساد».
وأكد المحامي أن هذه الخطوة غير مسبوقة في القضاء العراقي، وتعكس مدى تغلغل الفساد الذي وصل إلى معاملات المواطنين في دوائر الأحوال الشخصية. وأوضح أن حيتان الفساد لم يتركوا وسيلة للاستحواذ على الأموال وحمايتها من ملاحقة القانون إلا واتبعوها، وذلك بهدف الإفلات من بعض القيود الحكومية في تعقب حركة الأموال الكبيرة مجهولة المصدر.
وذكر الدليمي حالة سبق له متابعتها، عن مقاول كبير متهم بالحصول على أموال ضخمة من تنفيذ مشاريع حكومية وهمية فيها فساد كبير، حيث لجأ إلى عقد قران على إحدى النساء بمهر ملياري دينار (نحو مليون ونصف المليون دولار)، كما سجل باسمها عددا من البيوت والعقارات في مناطق راقية من بغداد بأسعار تصل إلى المليارات إضافة إلى تسجيل عقارات وشركات أخرى في الامارات باسم زوجاته. وذلك بعد ملاحقته من هيئة النزاهة لتورطه في عمليات فساد كبيرة.
وأشار الدليمي إلى بعض الحالات التي شهدتها المحاكم، رفض خلالها القضاة، إبرام عقود الزواج قبل التأكد من مصدر دخل الزوج الذي عجز عن إثبات ذلك بشكل رسمي.
وأوضح المحامي أن هذه الطريقة التي يتبعها المتورطون بالفساد، هدفها التمويه على الأموال الطائلة التي حصلوا عليها بشكل غير قانوني، عبر استثمارها في مجالات مشروعة كالزواج، ثم القيام لاحقا بتحويلها إلى الخارج تدريجيا بعد ان تصبح باسم زوجاتهم، على أن يتم لاحقا إجراء عمليات الطلاق بعد إعطاء تلك النساء نسبة من الأموال يتم الاتفاق عليها.
وأضاف المحامي، أن عمليات الزواج بمهور كبيرة تضاف إلى طرق أخرى لغسيل الأموال انتشرت بشكل هائل في العراق في السنوات العشر الأخيرة، ومنها إنشاء المولات والبنوك والشركات والجامعات والمستشفيات الخاصة، بمبالغ طائلة مجهولة المصدر، حيث يتم تحويل أرباحها وأصولها المالية إلى الخارج بعد أن تصبح مشروعة ومعروفة المصدر.
وفي لقاء آخر للصحيفة مع صاحب مكتب بيع عقارات في منطقة القادسية، أحد الأحياء الراقية في بغداد، ذكر احمد السعدي أن هناك حركة واسعة لشراء العقارات الراقية الغالية الأثمان بمبالغ ضخمة غير مسبوقة في هذه المنطقة، وتسجيلها باسم نساء يتم الزواج بهن حديثا.
وأشار السعدي إلى حالة تمت من خلال مكتبه، حيث قام شخص بشراء عقار (فيلا) بمبلغ ثلاث مليارات دينار وسجله باسم زوجته الجديدة كما سجل عقار آخر في دبي باسمها أيضا، قبل أن يتم إلقاء القبض عليه من قبل هيئة النزاهة لتورطه في صفقات ومشاريع تشوبها شبهة الفساد. وذكر السعدي أن هيئة النزاهة قامت باستجواب الزوجة بعد القبض على زوجها لمعرفة مصدر الأموال التي اشترى بها الزوج الفيلا، كما استفسرت عن مصدر دخل العائلة، إلا أن الزوج الذي لديه علاقات متشعبة ببعض الأحزاب، تم شموله بقانون العفو العام الذي صدر مؤخرا بعد أن دفع مبالغ كبيرة إلى جهات متنفذة من أجل شموله بالقانون، حسب قول صاحب مكتب العقار.

اعترافات

والحقيقة أن مكافحة الفساد يعد أبرز التحديات أمام حكومات بغداد منذ 2003، ومؤخرا حذر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، في تصريحات مختلفة، من وجود «شلة فاسدة تستعد لاستثمار المال العام»، كما أشار إلى أن إجراءات الدولة لمكافحة الفساد، تواجه دائما بأساليب جديدة من الفاسدين.
فيما أكد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، في كلمة لأتباعه، استمرار العمل على الإصلاح، ووصف «الكل فاسد أو متحالف مع الفساد حتى من نادى للإصلاح». وأشار إلى «انسحاب تياره من حكومة الفساد وفساد الحكومة، مع استمرار الفشل والفساد والتبعية والفقر والتسلط على رقاب الفقراء»، حسب قوله.
أما عضو لجنة النزاهة النيابية هادي السلامي، فقد سبق له ان أعلن عن وجود تقدم بملف مكافحة الفساد في مؤسسات الدولة، مستدركا «إلا أن الفساد ما زال ينخر بالدولة ويشكل تهديداً لها»، مؤكدا «بصورة عامة هناك ارتفاع في عمليات مكافحة الفساد من الجهات الرقابية». وأوضح السلامي أن «لجنة النزاهة النيابية تشيد على ما تقوم به هيئة النزاهة من جهود كبيرة»، مبيناً أن «لجنته ما زالت ترصد حالات الفساد وترفعها إلى الجهات المختصة في النزاهة والقضاء.
وتعلن هيئة النزاهة (حكومية)، تقارير دورية عن إلقاء القبض على مئات المسؤولين الحكوميين المتورطين بقضايا الفساد ونهب المال العام، فيما أعلنت عن إطلاق «حملة تضخُّم الأموال والكسب غير المشروع في قطاعات مُؤسَّسات الدولة المختلفة»، إلا أن نتائج هذا الحراك كان محدودا مقابل تفشي الفساد في كل مرافق الدولة العراقية.
وخلال العقدين الأخيرين تصدر العراق لائحة الدول الأكبر فساداً في العالم في تقارير الهيئات الدولية المعنية بمكافحة الفساد، كما فرضت الولايات المتحدة، ضغوطا على حكومة بغداد، للحد من عمليات غسيل الأموال التي تديرها مافيات الفساد والتنظيمات الإرهابية.
وحل العراق ضمن مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2024، في المرتبة 140 من أصل 180 دولة، وجاء في المرتبة الثامنة على مستوى الدول العربية. وصدر مؤشر مدركات الفساد لعام 2024، الذي يقيّم مستويات الفساد في 180 دولة حول العالم، حيث تظهر البيانات أن أكثر من ثلثي الدول تسجل درجات أقل من 50 من أصل 100، ويبدأ المقياس من صفر (الأكثر فسادًا) إلى 100 (الأقل فسادا).
ويؤكد المطلعون على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العراق، أن عقود الزواج ذات المهور الكبيرة، هي أحدث أساليب غسيل الأموال في العراق، بهدف الالتفاف على رقابة القضاء وهيئة النزاهة، ومنح الأموال الهائلة المشبوهة غطاء قانونيا، ليتم لاحقا تحويل تلك المبالغ إلى الخارج.
فيما تؤكد التطورات أن الفساد المستشري في معظم المؤسسات الحكومية، بعد 2003، أصبح منتشرا كالسرطان في المجتمع، وأن حصيلة الفساد أسفرت عن حصول المافيات وبعض الأحزاب والفصائل على عائدات مالية هائلة بمئات المليارات من الدولارات، تم تحويل أغلبها إلى خارج العراق، بوسائل مختلفة، ما جعلها تبحث عن وسائل للتغطية على مصادر تلك الأموال، وللإفلات من ملاحقات هيئة النزاهة والقضاء، مع قناعة الجميع بأن الفساد ونهب المال العام في العراق لن يتوقف أبدا في هذه المرحلة لارتباطه بمصالح ونفوذ بعض الأحزاب والفصائل المرتبطة بأجندات محلية وإقليمية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية