علاقة

حجم الخط
0

■ انتهى النقاشُ الصاخب بينه وبينها بصعوبة بعد أن آثرَ هو الصمتَ في لحظةٍ معينة، لتنهضَ فتغادرَ المكان وهي ترتطمُ بالأشياء حولها، أشعلَ سيجارةً وأطرقَ محاولاً استعادة توازنه، وبدأ يُغمغم: «ليست المرة الأولى، هذه المرأةُ، ومنذ عرفتها، متمردةٌ عصيةٌ على الاحتواء، امرأةٌ متعِبة أحرقت أعصابي طيلة الوقت في ما يلزم وفي ما لا يلزم، معتدة بآرائها إلى حد يُغيظ من يحاورها، ويمنعها كبرياؤُها المزعوم من الاقتناع برأيٍ آخر، خاصةً حين يكونُ رأيي».
ألقى نفسَه في سريره أخيراً استعداداً للنوم، ليُمضيَ الوقتَ وهو يتقلبُ بدون أن ينجحَ في استدرار النعاس الذي بدا له حينها عصياً متمرداً مثلها، صاح بغضب وهو يُشعلُ سيجارةً أخرى «تباً لها ولهذه الليلةِ اللعينة، آنَ الأوانُ كي أتصرفَ كرجلٍ حقيقي صاحبَ كلمة، فأتخذَ موقفاً حاسماً حازماً من هذه العلاقة، «دارَ في أرجاء الغرفة مراتٍ ومرات ليقررَ أخيراً قطعَ علاقِتِه بها تماماً… وعاد إلى السرير محاولاً النومَ من جديد، وقد أحس ببعض الرضى عن قراره التاريخي.

لا مناكفات، ولا مشاحنات، ولا مصالحات، يومٌ غبي مملٌ فارغ.

غفا بشكلٍ متقطع مضطرب حتى الصباح، فتحَ عينيه لوهلة، استعادَ قرارَه بسرعة، فأغلقهما من جديد، وبدأ يبحثُ عن حافزٍ واحدٍ يُخرجه من فراشه فلم يجد، فلا مكالمات معها اليوم، لا مناكفات، ولا مشاحنات، ولا مصالحات، يومٌ غبي مملٌ فارغ… ثم عادَ وغضبَ من ذاته بسببِ هذه التداعيات السخيفة، لينهضَ فجأةً بحيويةٍ مفتعلة، مقرراً الاحتفال والاحتفاء بالحرية. في طريقه إلى عمله، شعرَ للمرة الأولى بأن الطريقَ طويلةٌ رتيبة، والوجوه حولَه شاحبةٌ كابية، وأبواقَ المركبات تزعقُ بغباء، وهواءَ الصباح لزجٌ ثقيل، ثقيلٌ إلى حد لا يُطاق. وصلَ إلى مكتبه، فقلب الهاتفَ بين يديه بضجر، كان قد اعتادَ على إلقاء تحية الصباح عليها، لكنه لن يفعل ذلك الآن ولو أطبقت السماءُ على الأرض، فبدأ بالعبثِ في بعض الأوراق أمامه، ثم وقفَ عند النافذة، خطرَ له أن يُطلقَ صفيراً، إذ يجبُ أن يعرفَ هذا العالم في الخارج أنه حر طليق الآن، وأنه اتخذَ قراراً لن يحيدَ عنه، وأنه مخلوقٌ صنديد يلتزمُ بقراراته، ويُتقنَ قمعَ قلبِه مهما كان الثمن، ردد ذلك في سره، ثم أطلقَ صفيراً خرجَ خافتاً كالأنين!
ومضى النهارُ ببطء حتى أتى المساء، فقررَ التوجهَ إلى أحدِ المراكز الثقافية حيث تُقامُ أمسيةٌ شعرية، وشرع أولُ المشاركين في إلقاء شعرٍ وطني حماسي، ليجدَ نفسَه يتنهدُ بارتياح وهو يقولُ لنفسه: «الوطن، أنه الحب الحقيقي الأولُ والأخير، وكل ما عداه وهمٌ وسراب،» ثم وقف شاعرٌ آخر وبدأ يُلقي قصيدةً وجدانيةً عاطفية، هنا، وجدَ نفسَه يهب واقفاً ليغادرَ القاعةَ كالملدوغ.
جلسَ في مقهى قريب، وفي اللحظة التي كان يهم فيها بارتشاف كوبِ الشاي، صدحت في المكانِ أغنية، أغنيةٌ كانت تدندنُ بها أحياناً خلالَ لحظات الصفاء والهدنة القليلة بينهما، فانتفض واقفاً ليرميَ ببعض النقود على الطاولة ويهرع مسرعاً إلى حيث لا يعلم!
في الليل، هنأ نفسَه على صمودِه، فاليوم الأول انتهى بدونَ أن يستسلمَ أو يتراجع، ثم تسمرَ أمام التلفزيون، قلب بين القنوات مطولاً إلى أن استقر على أحد الأفلام، فحاولَ الاندماجَ في الأحداث إلى أن لمحَ البطلة، كانت لها الضحكةُ نفسُها، ضحـــكةٌ مصحــوبةٌ برنةٍ رقيقةٍ عذبة، فداهمه صداعٌ فجائي جعله يتناولُ جهازَ التحكمِ بيدٍ مرتجفة ليُطفئ الجهاز، ويمضيَ إلى سريره فيدس نفسَه تحت الغطاء كطفلٍ مذعور.
في الصباح، اتصلَ بمديره طالباً إجازة، وقضى يومَه قلِقاً متوثباً متوتراً وهو يرمقُ الهاتفَ بين يديه آملاً أن تُبادرَ هي بالسؤالِ عنه.

٭ كاتبة أردنية ووزيرة سابقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية