لا توجد وصفة صحية تماماً لصياغة أي مجتمع إنساني، ذلك أنه يبدو أن جنسنا ملعون بطبيعته، بتركيبته، وبتطرفه الذي أبداً لن يغادر أي صيغة مجتمعية يرسو المجتمع عليها. حين كتبت قبل فترة ناعية غياب الصوت المعارض محلياً وإقليمياً، أتت ردود الفعل لتقيم نوعية المعارضة ولتصفها بأبشع الصفات وتتهمها بأخطر الاتهامات، دون وعي من أصحاب هؤلاء الأصوات أنهم في الواقع يُستخدمون أبواقاً لتشويه صورة المعارضة، وأنه مهما بلغت من صحة اتهاماتهم، لن يكون الوضع أسوأ من الغياب التام للمعارضة، الذي يحول المجتمع إلى مجتمع «أخ أكبر» معتم لا صوت للناس فيه.
حالياً، غابت هذه الصيغة الديموقراطية التي تحتضن المعارضة عن الساحة الإقليمية بل والعالمية. لقد استبد الصوت الحكومي المنفرد في معظم دول العالم، لتترنح الشعوب تحت ضغوط تهديدات، وأحياناً هراوات، أنظمتها حيث يتجلى ذلك بوضوح وبمفارقة غريبة في المجتمعات الغربية التي أصبح شعوبها اليوم، على وقع خروجهم المناصر لفلسطين، ضحية لقمع وعنف شرطتها. لربما تأتي هذه الردة العالمية عن الديموقراطية نتاج نجاح ترامب واستقرار الأمر لإدارته، ولربما نحن الآن على موجة طبيعية مرتدة من موجات التطور الإنساني التي ترتفع بجنسنا أحياناً، وتخسف به في سابع أرض في أحايين أخرى، وما نحن سوى ركّاب موجة منحدرة، هاوية بقوة لتضرب بحمولتها البشرية في قاع المحيط.
ولأنني لم أكن لأرى فائدة واحدة للصوت المستبد، فلطالما كنت على الطرف الحرياتي من الرأي. كنت أؤمن بالحرية على إطلاقها، وبالرأي على سعته، وبالحق في اختيار الحياة على تمامه، فطالما آمنت أنه أياً كانت صعوبات الحرية وعواقبها فهي أفضل من القمع مهما بلغت فوائده، إن كانت له فوائد، وأجدى من الغلق والمنع مهما تبدت من نقاط قوتهما. ثم أتت وسائل التواصل لتفتح باب الحرية على مصراعيه، أتت لتشكل المجتمع الذي طالما حلمت به بكل إطلاقاته وحرياته، أتت لتدفع بي اليوم لأتسائل: هل هذا ما كنا نسعى إليه؟ هل هذا هو الحلم الإنساني بإطلاق الحريات والثقة في البشر؟
لقد عرفت البشرية مجتمعات حرة ومتحررة بالتأكيد في القرنين العشرين والحادي والعشرين، ولقد تبدت فوائد هذه الحرية وذاك التحرر في خلق مجتمعات أكثر صدقاً وأقل نفاقاً وأكثر سعادة وأقل غضباً، مجتمعات صنعت مواطنين أقوياء صادقين ثابتين على الموقف، وما هم سوى هؤلاء الذين نراهم اليوم يتصدون لحكوماتهم ويتحدونها بأقوى صور الغضب اعتصاماً وصراخاً ومقاطعة من أجل فلسطين. فحين تبدت الحقيقة واضحة لهذه المجتمعات، لم يتوانوا عن اتخاذ الموقف المبدئي ولم يتنازلوا عن حقهم في التعبير، هذا الحق الذي جبلوا عليه على مدى قرون من الزمان، والذي دفعوا فيه سابقاً الغالي والثمين، وهو ما يجعل هذا الحق، الحق في حرية العيش والرأي والتعبير، أثمن ما يملكون، ومن أجله هم مستعدون بالتضحية بالأمن والراحة، من أجله مستعدون للنزول للشارع ومواجهة هراوات الشرطة، فالحرية هي هويتهم وحقهم الإنساني وأمنهم وأمانهم، التي يعرفون تماماً الثمن الباهظ للتنازل عنها أو مقايضتها.
ولكن بإطلاق الحرية دون أي قيد أو شرط، سيتبدى مجتمع مثل مجتمع منصة إكس، مجتمع طائش بذيء لا يحكمه خلق ولا مبدأ، مجتمع يروج الشائعات ويضرب في أعراض وسمعات الناس، ويسرب ما لا يفترض أن يتسرب من أخبار، مجتمع يضع الجميع على ذات المستوى: المتعلم مثل الجاهل، والكبير كما الصغير، والدمث على قدر الأرعن، وصاحب الأخلاق بمحاذاة من لا أخلاق له، ومن يملك زمام اللغة بجانب من بالكاد يفك الخط، والحقيقي بشخصه المعرّف أمام النصاب بهويته الخفية، إلى آخرها من سبل مساواة ما كنا لنتخيلها ذات يوم، مساواة قدمت منصة للمهرج وأعطت صوتاً للشتام ووفرت مساحة للشرير، صانع الشائعات، كاشف عورات الأسرار، المعلق ذماً وقدحاً على كل وأي شيء، لأن يُخرِجوا جميعهم كافة أمراضهم في هذه المساحة، وأن يبخوا سمومها في عيون وآذان الناس، فهل هذا ثمن مستحق للحرية التي طالما حلمنا بها؟
قلبي يقول لا، فهذه مساحة مؤذية أخرجت أسوأ ما في البشر، وحولت الكثيرين منا من الإيمان بالخير كقاعدة والشر كاستثناء، إلى الإيمان بعكس ذلك، بل لربما إلى الكفر بالجنس البشري بأكمله. لربما ما كان يفترض لجنسنا أن تصله هذه الكمية من المعلومات بهذا القدر من السرعة، ما كان يفترض أن يعرف كل ما يدور في الأخلاد، ما كان ينبغي أن ينكشف على كل ما يدور في العقول، هذه معلومات أشد وأقسى من أن نحتمل. لكن عقلي يقول نعم، نعم وألف نعم، ففي مقابل تحمل كل هذه الشرور، هذه المساحة فضحت الطغاة وعرّت النفاق وكشفت قضايا إنسانية خطيرة وقصرت المسافات والأزمان، حتى إننا بتنا قادرين على معرفة الحدث بحقيقته الواضحة المصورة في التو واللحظة. هذه المساحة كما قدمت المسيئين قدمت أبطالاً، وكما أعطت الفرصة للبذيئين أعطت الفرصة للخيرين الإنسانيين الشرفاء، وكما نشرت الشائعات كشفت الحقائق، وكما أساءت إلى سمعة أشخاص فقد برأت آخرين وأخلت ساحتهم. هذه مساحة أنقذت، حرفياً، حيوات أشخاص، ساعدت المنكوبين والمحتاحين، وأوصلت أصواتاً عظيمة موهوبة خلابة ما كان لها أن تصل في يوم. هذه مساحة ساعدت النساء، فقوّت حراكهم، وجمعت أشتاتهم. هي مساحة وفرت مكاناً آمناً للأقليات لتلتقي وتشتكي وتخطط وتناضل، هي مساحات كما نشرت الشر والقبح فقد نشرت الكثير من الجمال والخير والحب والفن والضحكات والدموع. هي المساحة التي كشفت الصهاينة بعد خمسة وسبعين سنة، وأظهرت حقيقة استحقاق الشعب الفلسطيني، وصورت ما حدث تاريخياً صوتاً وصورة في أحداث الآن، ليصطدم العالم بمدى غيابه وتغييبه. ألا يشفع لها كل ذلك لنغفر لها مساوئها؟
لربما هناك طريقة لترتيب أمور وسائل التواصل ولحفظ حقوق الناس وكراماتها فيها ولو بحد أدنى، إلا أنه إذا كان تحمل مساوئها هو ثمن لكشف حثالة البشر كأمثال الصهاينة، ولتحرير الشعوب من غفلتها وإيقاف أنظمة العالم على أطراف أصابعها ولحماية الضعفاء وإيصال أصواتهم، فيا مرحباً بكل متاعبها وآلامها، ومتى كانت الحرية رخيصة الثمن؟
بل توجد وصفة تصلح لهذا العالم لو أنه يبحث عنها بحرية ومثابرة وعلمية. قرون الحريات والحقوق صنعت أجيالا تتظاهر من أجلنا ولم تغير من مواقف حكوماتها شيئا، لأنها حكومات انتخبتها بحرية أجيال هي نتاج القرون نفسها ولكنها تمثل الأغلبية. ميزان المصلحة والمفسدة وحده من يحدد إذا ما كانت مخرجات الحرية مقبولة أو مردودة. ولكن من يملك هذا الميزان؟
قال فولتير قد اختلف معك في الرأي و لكني مستعد أن ادفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك ! ما هذا المقال الغذاء للعقل و الروح على طبق اللغه الجميله الثاقبه في التعبير يا أخت إبتهال حفظك الله ! عنوان الحياة هو البقاء و البناء و السعي الدّؤوب للبحث عن الحقيقة في الزياده في المعرفه على المعروف و كلما زادت دقّة التمييز كلّما وَضحت الرؤيا و قل الاختلاف و الديمقراطية هي مختبر التطبيق لصناعة القرار الأفضل و عمادها الإنسان الديمقراطي الذي تربّى على ممارستها و يتحمل المسؤوليه عن نفسه و عن الجميع في المشاركه في صياغة القوانين التي تنظّم حياة المجتمع و يُقاس تقدم المجتمع بالاعتناء بالضعفاء فيه و ليس نبذهم و أهمّ واجب للأمه العربيه هي تربية الاجيال على الديمقراطيه السليمه منذ نعومة أظفارهم فالديمقراطية ليست شعار و لكن تربيه لها قواعد و سلوك وكل رأي فيها رهن المراجعه حتى يأتي اجماع جديد على ما هو منه أفضل. لكِ أخت إبتهال كل التحيه و ننتظر منك المزيد!
للأسف الشديد، الكاتب بأفكار جيدة يحاول إيصال أفكاره إلى المجتمع… ولكن الغلبة في منافسة الوصول إلى ذهنية العوام صارت لمواقع التواصل الإجتماعي… ولهذا جذور وأسباب…
أحد المعيقات التي تمنع وصول الأفكار الجيدة إلى ذهنية العوام هي ضحالة مستوى خريجو الجامعات من الثقافة… والثقافة هنا بما تعنيه من مستويات معرفة خارج حقل الإختصاص… مستويات المعرفة التي تساعد في توسيع وتنمية أدوات الفهم اللازمة لتحقيق إدراك أفضل لطبيعة وجوهر الأزمات التي تتراكم والإشكاليات التي تتعاظم بلا معالجات… المفترض بخريجو الجامعات أن يكونوا حلقة الوصل… تلك الضحالة الثقافية لدى خريجو الجامعات ساهمت أيضا في تعميق الدور السلبي الذي لعبته وسائل التواصل في تسطيح أنماط التفكير لدى المجتمع… وللأسف نجد أن أكبر مساحات تحظى بنسبة مشاهدة وإهتمام من قبل أفراد المجتمع هي مساحات الفضائح والسب والشتائم… ولأن التفكير عليهم صعب، صاروا يستسهلون إطلاق الحكام…
التنمية تبدأ ببناء الإنسان ورعاية المواهب… الموهبة التي تنفع حاضر ومستقبل البشر لها قيمة سامية…
الطريق الى بناء الإنسان الحصيف ما زال طويل، ولكنه طريق مفتوح وليس مغلق… والحكيم يتفحص الحجة ويطلب الدليل…
تصحيح: “يستسهلون إطلاق الأحكام”