أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية في الأيام القليلة الماضية ثلاثة قرارات خطيرة، من شأنها أن تؤثر في مكانة المواطنين العرب داخل الدولة، وفي حقوق الفلسطينيين، في ظل سياسة الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العدوانية عليهم وعلى ممتلكاتهم.
لقد تطرقت القرارات إلى ثلاث قضايا مهمة وعامة؛ الأول، لم يعترف بحق ضحايا الاحتلال الفلسطينيين بالتعويض؛ والثاني أجاز من حيث المبدأ سحب الجنسية الإسرائيلية من مواطنين عرب يدانون بتنفيذ “عمليات إرهابية”؛ أما الثالث فشرّع البؤر الاستيطانية المقامة اغتصابًا واحتيالًا، على أراضي المواطنين الفلسطينيين.
صدرت القرارات تباعاً ولم تلق أية ردود فعل جدية من قبل الجمهور الواسع المتضرر منها مباشرة، رغم أنها تشكّل برهاناً دامغاً على تحوّل هذه المؤسسة من أداة قمع عنصري مموهة، إلى رأس حربة عارية تؤدي دورها في نحر العدالة، وفي إطباق وتسهيل سياسات القهر والتمييز العرقي ضد المواطنين العرب في إسرائيل، وإلى معمل فتاوى يجيز لجيش الاحتلال ولسوائب المستوطنين الإيغال في اعتداءاتهم اليومية على الإنسان الفلسطيني الأعزل وتدمير ممتلكاته ونهب أراضيه.
يتعبني أن أكتب مرّة أخرى عن عبثية هذه المحكمة/المقصلة؛ ويستفزني ما يسوقه قضاتها في تبرير عربدة سيوف إخوانهم وابنائهم وهي تهوي على رقاب الفلسطينيين المستضعفين الصابرين؛ ويقتلوني ألف مرة عندما يتلون قراراتهم من أفواه صفراء ساخرة، وبنظرات ضفدعية، ثم ينسلّون من القاعة بعباءاتهم السود، ويُبلعون كأنهم أطياف أرواح طينية صماء. فاليوم سوف أحدثكم عن قضية الاستيطان والسرقة “الحلال”.
لقد أصدرت المحكمة العليا يوم الأربعاء الفائت قراراً تراجعت بموجبه عن قرار سابق لها قضى بضرورة إخلاء البؤرة الاستيطانية “ميتسبي كراميم” الواقعة شمال شرق مدينة رام الله المحتلة، بعد أن أقرت، في حينه، رئيسة المحكمة العليا، أن البؤرة الاستيطانية المكوّنة من 45 وحدة سكنية وتسكنها 54 عائلة، مقامة على أراض فلسطينية مملوكة من قبل مواطنين فلسطينيين. وأقرت كذلك بأن سلطات الاحتلال، ذات العلاقة بعملية بناء تلك البؤرة، تصرفت بسوء نية وبأساليب ملتوية لا يمكن قبولها وتسويغها وفق القانون.
المحكمة العليا أداة قمع عنصري ورأس حربة تؤدي دورها في نحر العدالة، وفي إطباق وتسهيل سياسات القهر والتمييز العرقي ضد المواطنين العرب في إسرائيل
قام المستوطنون ومنظماتهم الناشطة بتجنيد السياسيين اليمينيين، وأقنعوا الوزير غانتس بالإيعاز لمستشار الحكومة القضائي بتقديم طلب لإعادة مناقشة القضية أمام هيئة موسعة من القضاة؛ وهكذا كان. فشكّلت هيئة المحكمة من سبعة قضاة. وقف معظم الوزراء إلى جانب المستوطنين، وفعّلوا ضغطا على هيئة المحكمة؛ فانقسم القضاة بين أكثرية مكونة من أربعة قضاة قبلوا التماس المستوطنين، وقرروا إلغاء قرار المحكمة السابق، بينما تمسكت رئيسة المحكمة، ومعها قاضيان آخران، بموقفها السابق. لن أثقل عليكم بتفاصيل القرار ولا بمسوغاته العجائبية المستفزة؛ ولكن يجب أن نستوعب خطورته لأنه سيشكل سابقة قضائية من شأنها أن تعتمد من قبل المستوطنين ورعاتهم السياسيين في شرعنة جميع البؤر الاستيطانية السرطانية، الموصوفة جزافا بالبؤر العشوائية، والمقامة على أراض فلسطينية مغتصبة بالقوة وبالحيلة وبالتآمر. إننا نقف أمام مشهد كارثي ومقلق.. قضاة في المحكمة العليا يناصرون قطعان المستوطنين ويشرّعون عمليات سرقاتهم لأراضي المواطنين الفلسطينيين الخاصة، بتسويغ قانوني قراقوشي وهزيل ومؤدلج سياسياً؛ ويشهرون، عمليا، دعمهم لمعسكر اليمين الفاشي، الذي تستطيع ميليشياته المضيّ بتنفيذ جرائمها بتغطية قضائية عليا. لقد أدانت هذا القرار منظمات يهودية تقدمية منها، منظمة “يش دين” و”منظمة حقوق المواطن” اللتان أعلنتا أنه “سيجيز عمليات سرقة الأراضي الفلسطينية الخاصة من قبل المستوطنين، بما يتناقض مع القانون الدولي؛ وأنه سوف يستغل في المستقبل في عملية اغتصاب الأراضي الفلسطينية وتعزيز عملية الضم الاسرائيلي”. كم كنا وما زلنا بسطاء وعاجزين عندما وقفنا، وما زلنا نقف، أمام هؤلاء القضاة. نخسر قضايانا ونتمتم: “إذا كان حاكمك ظالمك تشكي همك لمين؟”،
لمن؟ فلنسمع صراخ دم الطفلة إيمان الهمص في المحكمة نفسها. رفضت المحكمة العليا في قرار أصدرته في الثاني عشر من شهر تموز/يوليو الجاري الدعوى التي قدمها والدا الطفلة إيمان الهمص، التي كان عمرها 13 ربيعاً عندما قتلها رصاص الجيش الإسرائيلي يوم 5/10/2004 قرب نقطة عسكرية في مدينة رفح. لا أعرف إذا ما زلتم تتذكرون تفاصيل تلك المأساة في خضم بحر الدم الفلسطيني؛ ولكن كيف أنسى مشهد البراءة وهي تعدم في وضح النهار، وأمام عيون العالم العمشاء. كانت إيمان تحمل على ظهرها حقيبتها المدرسية وتمشي بالقرب من نقطة عسكرية إسرائيلية. كانت تحلم بأن تصير فراشة، أو ربما كانت تغني “عصفور طل من الشباك” حين أطلق الجنود النار نحو ظهرها وانتظروا وهي تترنح كسنبلة وتحتضن التراب والدهشة. توجه الوالدان في البداية إلى المحكمة المركزية في مدينة بئر السبع، وطالبوا بحقهم في التعويض جراء عملية قتل ابنتهم المتعمد. رفضت المحكمة قبول دعوتهم معتبرة أن ما قام به الجنود هو “نشاط حربي” لا تنطبق عليه قواعد الأضرار المدنية حسب القانون الجائر الإسرائيلي. لم يستسلم الوالدان، فتوجها إلى المحكمة العليا، على أمل أن يعترف قضاتها بجناية قتلة ابنتهم، وبكونها ضحية بريئة لوحشية الاحتلال وجنوده. كان المشهد واضحا والمعطيات كلها تدعم روايتهم وموقفهم؛ فكيف لهؤلاء الجنود أن يفترضوا أن طفلة تحمل حقيبة مدرسية على ظهرها، وتبعد عنهم قرابة مئة متر، تشكل خطرا حقيقيا يستوجب التخلص منه عن طريق قتلها وحسب. وهل يعقل أن تحمل طفلة بعمرها كمية كبيرة من المتفجرات على ظهرها وتقتحم بوابة النقطة العسكرية، وتقترب كي تفجر نفسها بين الجنود؟ هذا علاوة على أن قائد النقطة العسكرية كان يجيد اللغة العربية، وكان قادراً على تحذيرها قبل إطلاق الرصاص عليها.
لم تسعف الأهلَ كل هذه التساؤلات؛ ففي فقه البطل “رامبو” لا مكان للمنطق الآدمي، وفي عصر البارود لا عدل سوى عدل “محاكم التفتيش” “وفتاوى الملك”. لقد تبنى القضاة الثلاثة قرار محكمة بئر السبع المركزية، ورفضوا ادعاءات محامي العائلة والتماس الوالدين. لم يفاجئني القرار؛ فهيئة المحكمة مكوّنة من قاضيين معروفين بيمينيّتهم، سعت الوزيرة شكيد لتعيينهما في المحكمة العليا؛ إنما ما لم يكن متوقعا هو انضمام القاضية الثالثة لقرارهما؛ فرغم أنها كتبت: “إن المصابة هي فتاة صغيرة ولم يظهر منها عمليا أي خطر، خاصة بعد أن تبين، بأثر رجعي، أنها لم تحمل في حقيبتها سوى بعض الكتب” رفضت الدعوى مثل زميليها. لقد تم تعيين هذه القاضية قبل شهرين، على الرغم من معارضة القوى اليمينية لها ومحاولات الوزيرة شكيد التي “اتهمتها” بالليبرالية، وبأنها متزوجة من شخص ينتمي للمعسكر اليساري. لم تنجح شكيد بإسقاط ترشيحها، فعُيّنت وتأمل الكثيرون منها أن تضخ في عروق المحكمة جرعات من إنسانية وعقل ومنطق وعدل. كانت هذه القضية هي تجربتها الأولى كقاضية عليا، فتوقع البعض منها موقفا منحازا للحق وللعدل، ليس بمفهومه القانوني الجامد والعاقر، بل بكونه أحد تجليّات الروح الإنسانية، وتعبيرا عن الطهارة المغتالة في جسد إيمان.
تأملنا فخاب الرجاء. لقد كنت شاهدا على سقوط هذه المؤسسة في الظلمة، وكنت شاهدا كذلك على المطر الفلسطيني وهو ينسكب على أدراجها من المآقي. لقد قتلت إيمان الهمص ولم يعاقب قاتلوها؛ لكنني أشعر، هكذا علمني أبي وحدسي، بأن دمها سيبقى منثورا في كل قوس قزح وعلى خواصر “الشقائق”الحزينة؛ فالتاريخ يحفظ سجلات الطغاة؛ بيد أن النايات لا تنسى بحة الريح وهي تنقل أنفاس البراءة الذبيحة وتناهيدها. لا أعرف كم من العرب تابعوا تاريخ “سيزيف الفلسطيني” وكيف مات في حضن السماء المدلل حلم وولد وعد وقمر؛ ولا أتساءل عن ذلك من باب الإحراج أو العتب، بل كي أذكّر، أنفسنا أولا وأشقاءنا في الدم والنسب، بتاريخ جهلنا وإدماننا السذاجة والحمق، منذ آمنا بأن “الحياة بداهة” وكانت “بيوتنا كقلوبنا مفتوحة كالابواب.. كنا طيبين وسذّجا، قلنا: البلاد بلادنا قلبُ الخريطة لن تصاب بأي داء خارجي، والسماء كريمة معنا. ولا نتكلم الفصحى إلا لماما: في مواعيد الصلاة وفي ليالي القدر.. كنا طيبين وحالمين، فلم نر الغد يسرق الماضي طريدته ويرحل”.
ليتنا كنا أيها الدرويش وانتهينا.. فنحن ما زلنا: طيبين وجهلة وساذجين وحالمين، ولا نرى غدنا وهو يسرق ماضينا؛ أولم نقف معا هناك، قبل الغياب، على تلك المحطة الخضراء نبحلق في المدى وننتظر ماضينا.
أمّا عن مواجع الجنسية وقرار المحكمة الثالث فلنا حديث مقبل.
*كاتب فلسطيني
بوركت يديك علي هذا المقال الرائع