حين تصرخ الحقيقة العارية في وجوهنا السافرة: الوجود أو الانقراض.
«علمني وطني أن حروف التاريخ مزورة.. حين تكون دون دماء « (مظفر النواب)
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت إننا ما زلنا نقبع خلف خطوط الانكسار، نتجرّع مرارة هزيمة مضى على جرحها الدامي خمسة عقود ونيف. واليوم.. ها نحن نتساءل بأسى: هل غدا تاريخنا امتدادا لواقع مهزوم ما فتئ يكرّس مظاهر الانكسار والتصدّع، إلى حد أصبحنا فيه في وئام ووفاق مع كل تداعيات الترجرج والتخلّف، بما يفسّر أنّ هزيمة يونيو 67 لم تكن هزيمة عسكرية على الحدود، بل كانت هزيمة موقف عربي لا يزال مرتجّا، ورؤيا عربية لم تلتصق حميميا بطين الأرض ولم تستبصر آفاق الدروب.
ألم نخض حربا مهزومة عام 67 وأخرى بديلة عام 73 وحربا أهلية عام 75 وما زالت هذه الحروب علاوة على أخرى غير معلنة تنزف، وما زال كذلك صفّنا العربي مبعثرا، كما ظلّت فلسطين تبكي بصوت مشنوق حظّها العاثر؟ ألم نتغافل عن تفاصيل هذا الواقع المأزوم، دون صياغته بما يسمو بطموحاتنا إلى ما وراء تخوم الراهن، واكتفينا بالإدانة والهتاف لثورة حتى النّصر. ألم نتجاهل تداعيات الهزيمة بدل التوغّل في أدغالها لتعريتها وكشف انعكاساتها المريرة على الفرد والجماعة والوطن والعقيدة، واعتمدنا في علاجنا وريقات التّوت لتغطية جسد عربي عليل، ترهّل وأثخنته الجراح.. فهل اختلطت علينا الأمور إلى حد لم نعد فيه نميّز بين تجليات الهوية في مواجهة الاغتصاب الأجنبي، والإفرازات- الإقليمية-كأحد ثمار الهزيمة، وتصالحنا تبعا لذلك مع الوهم وأدرنا ظهرنا للحقيقة، وافتقدنا كنتيجة لهذا وذاك الحساسية القومية كأحد العناصر الجوهرية في بناء أي صرح حضاري..
ألا يكفي نصف قرن من الاحتلال لوقف النزيف الفلسطيني واسترداد الأرض ودحر الاحتلال وتحرير الشعوب العربية من قمقم الوهم العقيم لتستوعب دروس التاريخ وتتمثلها
إنّ لتراكمات التاريخ المؤلمة عميق الأثر في أوضاعنا المترجرجة، فالقبول العربي التدريجي لما كان مرفوضا من البعض، كقرار مجلس الأمن رقم 242 قد أصبح القاسم المشترك، أو الحد الأدنى بين العرب جميعا، الأمر الذي يعني أنّه الحد الأقصى لغالبية العرب، وبدلا كذلك من أن تصبح القدس مركزا للمشكلة برمتها، كان بالإمكان لهذه المدينة التاريخية أن تصبح بوابة السّلام بالعودة إلى جوهر قرار التقسيم عام 1948، لا بالعودة إلى قرار 242 الذي صاغته ظروف الهزيمة العربية عام 1967، أكثر مما صاغته المقومات الأكثر عمقا وأمنا، إلا أنّنا وفي ظل التشرذم العربي، وعلى امتداد المسافة الفاصلة بين الهزيمة والاستسلام، صرنا نقبل كل المقدمات، ونرفض بعض البعض من جزئيات النتائج وتفاصيل النهايات، وحتى هذه لا نرفضها سرا، الأمر الذي يكرّس زحف الهزيمة الطويل في التخلّف ونقصان السيادة الوطنية، ويؤجّج كذلك حروب القبائل والعشائر والطوائف، ويغيّر اتجاه البنادق إلى حروب الإخوة – الأعداء: حرب لبنان- حرب اليمن – حرب الصحراء الغربية.. ألا يكفي هذا؟ ألا يكفي أن تضيق بعض السجون العربية بنزلائها من العرب، كالسجن الصهيوني تماما، وترتفع أسعار النّفط في بلاد النّفط، وأسعار القطن في بلاد القطن، ويتحوّل النفط العربي في أنابيب أمريكا إلى قذائف إسرائيلية وأمريكية حارقة على الشعب الفلسطيني الأعزل وعلى بيروت؟ ألم نكتف ومن خلال التصوير السياسي العقيم بتجسيم «الحائط الصهيوني المسدود» دون التفكير في اختراقه وظللنا في المقابل نرنو إلى المنتظم الدولي بعيون تدعو للشفقة، علّه يدفع بالإسرائيليين إلى مبادرة في حجم الخروج الأمريكي من فيتنام، والإقبال الأمريكي على الصين، أو في حجم الخروج الفرنسي من الجزائر؟ ألم تخض أغلب الشعوب حروبا وخرجت منها تحمل رايات الانتصار، وبقينا في المقابل في منعطف التاريخ ننتظر انتصارا طال اختماره في ظل أكثر المراحل سوادا في تاريخنا العربي، ونراقب بأسى خط الانكسار العربي وهو يتناقض بصورة مأساوية مع بقية خطوط العرض والطول في خريطة العالم؟ ألم نواجه «همومنا النبيلة» بموقفين فقط: الأوّل هو الدعوة إلى «الجهاد المقدّس» الذي يصل إلى أعلى ذراه بقطع العلاقات مع الدول التي لا تنقل سفاراتها من القدس، والآخر هو المقاومة: مقاومة الشعب الفلسطيني الباسل في الأراضي المحتلة، بقطع الطريق على العدوّ بكل ما لديه من طاقة على المقاومة، وما عدا ذلك كان الصّمت رهاننا، ولا عجب في ذلك طالما أنّ «مونولوج الحاكمين» سائد و»ديالوغ المحكومين» غائب، وما علينا إذن إلاّ أن نحدّد للأجيال القادمة من كان القاتل.. ومن كان القتيل؟
نقول هذا، لأننا غدونا في قبضة التاريخ، تاريخ الاغتصاب الذي أباحته المواثيق الدولية وصاغه صمتنا المريع، بعد أن أدرنا ظهرنا للحوار الحضاري والعقلانية والحرية وتبني المنظور التاريخي لحركة الوجود والمجتمع – الإنسان، وتماهينا مع الخراب دون أن نسأل: لماذا لا تزال فلسطين تبكي بقهر جرحها الدامي،
لماذا لمْ تزل بيروت تندب بصوت مشنوق حظّها العاثر. لماذا تحرّرت بقية الشعوب من عقال الوهم وتصالحت مع الحقيقة: ألم تزح أنغولا عن كاهلها أركان امبراطورية دامت أربعة قرون، وتمكّن البرتغاليون من التخلّص من سطوة ديكتاتورية دامت أربعة عقود، وتخلّت إسبانيا عن صحراء المغرب بعد أن أزاحت من على عينيها غشاوة فرانكو؟ فهل كان يستطيع الصّمت – وهذا حالنا -إلا أن يصبح لغة العصر العربي الجديد، بسقوط الشهداء، وتدنيس القدس واعتبارها أمريكيا عاصمة لبني إسرائيل، وقضم الأراضي الفلسطينية بأنياب قطعان المستوطنين.. ماذا بقي إذن؟ ألا يكفي نصف قرن من الاحتلال لوقف النزيف الفلسطيني واسترداد الأرض ودحر الاحتلال وتحرير الشعوب العربية من قمقم الوهم العقيم لتستوعب دروس التاريخ وتتمثلها على نحو يعيد لمجدنا بريقه الخلاّب؟ ألم ندرك بعد، أنّ الغرب الاستعماري، لا يزال حاضرا في عمقنا بوجهه البشع يحاربنا برفقة رموزه، وعبر أساليبه المخاتلة ويجرّنا دون وعي منا، صوب مهاوي الضياع. قلنا هذا، لأننا أشرفنا جميعا على هوة العدم وغدونا منها على الشفير بعد أن أصبحنا في مواجهة الحقيقة العارية التي ستصرخ في وجوهنا للمرة الواحدة بعد الألف: الوجود أو الانقراض.. ولا بديل آخر.. إما أن نكون عربا أو لا نكون على الإطلاق، فهل نبرهن للتاريخ مرّة واحدة أننا أصحاب مجد وحضارة، وأننا ما زلنا قادرين على أن نعيد لتاريخنا مجده الوهّاج ونتجاوز رد الفعل إلى مختلف مجالات الفعل الهادف، الخلاق والمفتوح على كامل المفاجآت؟
أرجو..
كاتب تونسي
التاريخ هو الذي يحدد الصواب من الخطأ، وليس رأي الناس العابرين.
قد يظن البعض أن ما سيقوله التاريخ عنهم لا يستحق حتى التفكير، وربما أفضل مثال على ذلك هو جورج بوش الابن في فيلم W، عندما سألته صحفية بملامح آسيوية: ‘ما هو الموقع الذي تعتقد أنك ستحتله في التاريخ؟’، فأجابها ساخراً: ‘في التاريخ؟ في التاريخ سنكون جميعًا أمواتاً.’ نعم، لقد استهان الرجل بفكرة الإرث التاريخي كما لو كان التاريخ نفسه مجرد حصة مدرسية مملة. لكن المضحك في الأمر أن التاريخ لا يهتم كثيراً بموقفك منه. فبوش، الذي ورط بلاده في مغامرات عسكرية باهظة الثمن، قد لا يكون محظوظاً كما يعتقد. صحيح، ربما كان جوابه مجرد نكتة ساخرة في لحظة مواجهة محرجة، لكن صفحات التاريخ قد لا تكون بهذا التساهل. من يعلم؟ قد يجد بوش نفسه مذكوراً كالرجل الذي لم يدمر الشرق الأوسط فحسب، بل ربما مهد الطريق لانهيار الولايات المتحدة نفسها، أو على الأقل انحدارها التدريجي.
التاريخ، يا سادة، هو ذاك الشيء الذي لا يمكنك التحكم فيه بعد رحيلك، مهما كنت ساخراً أو واثقاً من نفسك في الحاضر. قد تجعلك الحروب التي خضتها فاشلاً، أو قد تُسجلك كتب التاريخ كسبب رئيسي في تغيير موازين القوى العالمية. وبالنسبة لبوش، قد ينتهي الأمر بأنه ليس مجرد رئيس ضائع في ضباب المغامرات العسكرية، بل ربما كبطل مأساوي في فصل انهيار الإمبراطورية الأمريكية.