في أحد اللقاءات الصحافية، سئل الشاعر الموريتاني آدي ولد آدب، عن سبب اهتمامه بالأدب الأندلسي، واختياره موضوعا لأطروحته وأبحاثه عموما. فكان جوابه، كما أتذكر، ما معناه، أن لكل وطن أبناء يهتمون بآدابه وثقافته، أما الأندلس التي توقف وجودها الفعلي بعد السقوط، يجب علينا أن نكون جميعا أبناء لها، ويبدو أن ولد آدب أخذ على عاتقه هذه المهمة، لذلك لم يكتف باهتمام علمي أكاديمي لما يطرحه الأدب الأندلسي من إشكاليات، بل إنه جعل اهتمامه منصَبّا على البحث في جوانب متجددة لم يسبقه لها أحد أو على الأقل يضيف لها شيئا جديدا.
آدي ولد آدب شاعر له دواوين كثيرة، وهذا ما أضفى على دراساته المتسمة بالجدة والرصانة العلمية، روحا شاعرة لا تخطئها الذائقة وربما نجد تبريرها في ما قاله عن إحساسه بالأندلس. صدر له في الدراسات الأندلسية، كتاب «الإيقاع في المقامات اللزومية للسرقسطي» و»المفاضلات في الأدب الأندلسي/ الذهنية والسياق» النقد الأدبي موضوع للمقامة بين الشرق والغرب» وأبحاث كثيرة من بينها: «الرسالة الهزْلية: الوجْه الآخر لابْن زيدون»، جدلية البنية والدلالة في مقامة حضرة الارتياح، لابن البناء المالقي»..
أما الكتاب الذي نقترح تقديمه في هذه المقالة فهو «عمود الغرابة في الأدب الأندلسي (نظرية الأعمدة المتناسخة) كتاب البديع في وصف الربيع لأبي الوليد الحميري انموذجا». هذا العنوان، يعلن عن قراءة جديدة أو ما سماه الكاتب: رؤيته الخاصة حول رحلة الإبداع العربي الحتمية «من عمود الألفة إلى عمود الغرابة، أو نظرية نقدية، تؤمن بأن لا وجود لعمود أدبي واحد، بل هناك أعمدة أدبية عديدة».
يعتبر الكاتب، أن البحث مغامرة أو لا يكون. ومن هنا انطلق في هذه المغامرة، مبحرا في كتاب «البديع في وصف الربيع» لأحد أدباء الاندلس، أبي الوليد الحميري (توفي 440هـ)، في قراءة فاحصة لرصد ما أطلق عليه منظار الغرابة، الذي اعتبره معيارا نقديا عند أبي الوليد. ولكنه اكتشف وهو يغوص بين دروبه، أنه أمام بناء يتعاظم كلما تعمق في دراسته. ويؤكد آدي ولد آدب، أن المرزوقي لم يعمد إلى لملمة نظرية عمود الشعر، إلا لأنها كانت تلفظ أنفاسها أو على الأقل تتراجع تحت وطأة زحف ما أماه « عمود الغرابة».
يقول: «حيث انتهيت إلى أن عمود الألفة هذا لم يتأسس نظرية نقدية إلا بعد أن أصبح مهددا بعمود غرابة أدبي زاحف، ظل يتشكل -هو الآخر- تبعا لتطور وتيرة الزمان والتحضر في المشرق عموما، وفي الأندلس، في تلك الفترة ذاتها خصوصا، ولدى الحميري هذا بصورة أخص». إذن نحن أمام قراءة جديدة، أو لنقل إن الباحث وبجرأة علمية محمودة يحاول أن يخلخل بعض الثوابت التي ما زالت تقاوم. رغم أن الدراسات والأبحاث تؤكد أن هذا التاريخ الأدبي العظيم كان بعيدا عن الثبات والتصنيفات الجاهزة والقوالب التي تحاول أن تضع كل مرحلة في إطار جامد موحد. ماذا يقترح الناقد آدي ولد آدب في بحثه الشيق والحصيف هذا؟ وكيف سيستقي أو يجمع أطراف عمود الغرابة الذي يقترحه؟ يقول «هي مغامرة تتطلب شيئا شبيها ببناء هرم من العدم، إذ أنني مطالب بأن أجمع قيم عمود الغرابة وألاحقها واحدة واحدة داخل شتات تعاليق المؤلف النقدية، ونثار اختياراته الأدبية».
عن منهج هذه الدراسة يقرر المؤلف، أنه سيدخل في علاقة مباشرة مع النصوص دون أرضية علمية صلبة ينطلق منها، أو ما عبر عنه بقوله: «افتقاري للرصيد المعرفي الكافي»، ورغم أن حكما كهذا يتطلب جرأة علمية فائقة، إلا أن ناقدنا بخلفيته العلمية الوازنة والمتشعبة، التي يشهد عليها حضوره العلمي، لم يكن خالي الوفاض، إلا انه يعبر عن قناعة منهجية بأن بعض الأبحاث تتطلب منا موقفا كهذا تكون فيه النصوص محور الدراسة، منطلقها ومنتهاها. يقول: «فأنا أغوص إلى الدرر في الأعماق متزودا ذاتيا من الدراسات – حسب طاقتي – بما احتاج إليه من أوكسجين تحت الماء.. وأظل أسبح فيه واستخرج منه، دون أن أقف على الحافة، أتسلى برمي الطوب والأحجار على قاع البحيرة (قال فلان- وقال فلان) لأن هذا الموقف عبثي وعدائي تجاه الأعماق (النصوص) ومخزوناتها الثمينة» والمتابع لدراسات آدي لا يستغرب هذه الخلفية وهذا الالتزام الذي يطبع مؤلفاته، لذلك فهو في حالة بحث دائمة عن المداخل الجديدة في الدرس الأدبي، ليكون أكثر قدرة على الالتزام بمعتقداته العلمية والمنهجية.
وقد قسم الباحث كتابه إلى أربعة مباحث، وسنعود لاستعراض أهم ما جاء في بعضها، بعد عرض المدخل المهم الذي قدم به الكاتب عمله وهو: «مدخل إلى الغرابة عمودا للأدبية عند الحميري»، وفيه يفصل الباحث أطروحة عمود الغرابة. ويتميز هذا المدخل بالطرافة والجدة. وفيه يحلل العلاقة بين الغرابة والألفة، منطلقا من قولة لعبد الفتاح كيليطو من كتابه الأدب والغرابة: «كل حديث عن الغرابة هو بالضرورة حديث عن الألفة». ويرى ولد آدب، أن عمود الغرابة ولد من رحم المألوف أو الألفة أي عمود الشعر، أو طريقة القدماء التي تحددت سماتها عبر التراكم، حتى أصبحت سنة متبعة تشكل ذوقا سيسود ويتسيد في مراحل مهمة من تاريخ الأدب العربي. و»يفرز حراسا وسدنة من رموز النخبة الرسمية سياسيا وثقافيا واجتماعيا، يحافظون عليها ويرجمون كل من تسول له نفسه أو تملي عليه شروط مرحلته التاريخية والحضارية أن يخرج على تلك السنن المألوفة المتوارثة». وفي هذا المدخل، يؤكد المؤلف على فكرتين أساسيتين مرتبطتين، الأولى، أطروحة الأعمدة المتناسخة، التي تنقض، أطروحة أحادية «عمود الشعر»، مؤكدا أنه رغم المنع وحراس «الألفة»، إلا أن الواقع يؤكد أن لكل حقبة حضارية عمودها الشعري الخاص، يقول: «فللجاهلية عمودها العربي البدوي الطاغي، وللإسلام عموده الأدبي والشعري المتدين الطابع ببصمته الأخلاقية على القصيدة والخطبة والرسالة، وللعصر الأموي عموده الدنيوي المتسيس وللعصر العباسي عموده المتحضر كما أن عصر الضعف يمثل عمودا أدبيا يتسم غالبا بتحسينات صناعة الشكل».
فكرة التجديد وتعاقب الأعمدة حسب الكاتب، كانت دائما حاضرة في مسار الإبداع العربي رغم تضييق المدرسة التقليدية (إن الشعر فتح بامرئ القيس وختم بذي الرمة) إلا أن واقع الحال يثبت، أن الثورة على القديم كانت دائما جزءا منه، ويورد الكاتب مجموعة من النصوص للاستدلال على ذلك.
فكرة التجديد وتعاقب الأعمدة حسب الكاتب، كانت دائما حاضرة في مسار الإبداع العربي رغم تضييق المدرسة التقليدية (إن الشعر فتح بامرئ القيس وختم بذي الرمة) إلا أن واقع الحال يثبت، أن الثورة على القديم كانت دائما جزءا منه، ويورد الكاتب مجموعة من النصوص للاستدلال على ذلك. يقول «ولعل أطرف تعبير عن السأم الفطري من تقليد أي عمود ذوقي.. هو قول ابن شرف القيرواني، حيث حلل- بعمق وصدق- غلبة النزعة الشعبوية الجارفة في تقبل ثورة أبي نواس الابتداعية الرائجة على النموذج الأعرق والأفصح»، ويورد نص ابن شرف، عن أبي نواس وأنه: «أول الناس في خرم القياس، وذلك أنه ترك السيرة الأولى ونكَّب عن الطريقة المثلى، وجعل الجِدَّ هزلا والصعب سهلا، فهلهل المسرَّد، وبلبل المنضَّد وخلخل المنجَّد…وصادف الأفهام قد نكلت وأسباب العربية قد تخلخلت وانحلَّت، والفصاحات الصحيحة قد سُئِمَتْ ومُلَّتْ»، فالشعراء إذن، لم يرضخوا يوما لرتابة الإبداع وتحجره كما أراد له سدنة القديم، وهم يحاصرون كل جديد، لا لسبب إلا أنه محدث، حتى قال أبو عمرو بن العلاء: «كثر هذا المحدث حتى هممت بروايته». ويعتبر الكاتب، أن ابن قتيبة، أول من أخرج الإبداع الشعري من قمقم الفضاء الضيق بقوله في كتابه الشعر والشعراء، بأن الله «لم يقصر الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن». الفكرة الثانية، وهي مرتبطة بالأولى وفيها يعيدنا الكاتب إلى سياق إقدام المرزوقي، على جمع شتات عمود الشعر وصياغته في شرح ديوان الحماسة، ويؤكد فكرة أنه رد فعل على ظواهر التجديد (الغرابة) التي كانت تحاصر القصيدة العربية التقليدية. يقول: «وهنا نلاحظ أن عمود الشعر الذي صاغه المرزوقي، ململما فيه السمات الفنية المعيارية المعتبرة لسنن وطريقة العرب القدماء المألوفة، لم يصغه إلا بعد أن أصبح مهددا بقيم عمود الغرابة الجديد، الذي أخذ يؤسسه أبو تمام، بعدما مهَّده سابقوه من الشعراء».
بعد هذا المدخل الذي استفاض فيه الكاتب في تقديم أطروحته، سيبدأ من خلال المباحث الأربعة، حول غرائبيات كتاب البديع، تصميم هرم «عمود الغرابة».
في المبحث الأول، وتحت عنوان غرائبيات مداخل الكتاب، يقدم لنا الكاتب مادة دسمة وطريفة، وفيها جدة، أثبت فيها قدراته العلمية على البحث والغوص في النص موضوع الدراسة، برصانة علمية وشاعرية متدفقة. ففي «غرابة المؤلف»، يركز الباحث على مظهر يعتبره علامة فارقة ومميزة لشخصية المؤلف وهو صغر سنه مقارنة مع كل ما حققه علميا وسياسيا واقتصاديا. أبو الوليد الحميري، توفي وهو ابن اثنين وعشرين سنة، وهذا يعني انه ألف كتابه هذا قبل ذلك، وفي الوقت نفسه برز سياسيا إلى درجة أنه اشتغل كاتبا ومستشارا ووزيرا لآل عباد ملوك اشبيلية. كما أنه كان صاحب ضياع ومال كثير. من غرائبيات المداخل، التي اهتم بها الباحث، الجمل الاعتراضية، واعتبر أن حضورها داخل متن كتاب البديع، مؤشر يمكن من خلاله دراسة طبيعة العلاقة بين المؤلِّف والأَعْلام الذين وردوا في كتابه. يقول: «فهذه الأمثلة -على كثرتها- من البداية إلى النهاية، يمعن الحميري في تلوينها في الإغراب وفي الدلالات، ما بين طول البقاء، والحفظ، والذكر والنصر على الأعداء»، ويستطرد الباحث في رصد غرائبيات، العنوان، المكان والزمان، المستقبلين (التلقي)، الخاتمة.
أما المبحث الثاني، فقد خصصه لغرائبيات الربيع موضوعا. وركز فيه على ما رأى أنه جزء من منظومة الغرابة والتميز، بدءا من موضوع الربيع، الذي يعتبر أن اختياره، يدخل في إطار الاهتمام بما قل الانتباه له. واستطرد بعد ذلك، ومن خلال نماذج شعرية مختارة، في استخراج أهم خصوصيات ثيمة الربيع في كتاب الحميري، وهي كالتالي: الإغراب في خصوصية الربيع، غرابة البديهة ودور الربيع فيها، الربيع إبداع الله المدهش، الروضة الطلل الضاحك، الممدوح النرجس، غرابة التخلص الممدوح الربيع. وتحت كل عنوان، جال بنا الباحث في ديوان الشعر الاندلسي، بحصافة الناقد وفكره الوقاد. وحاسة الشاعر وروحه الشفافة التي اكتسبت قدرة استكناه عوالم القول. فكانت اختياراته متعة للعقل والذوق، وحفرا عميقا في روح الأندلسي، الذي رغم كل ما حققه من حضور وقوة على كل المستويات، لم يتخلص يوما من غربته. يقول في أحد أجزاء هذا المبحث «ولكن ما يجب ملاحظته هنا هو أن جدلية الإحساس بالوجد- الفقد، ظلت تنتاب هذا الإنسان الأندلسي، وتقبع في أغوار وجدانه، منحدرة إليه ربما من قصة طرد آدم وحواء من الجنة قديما، ومستلهما إياها من الواقع السياسي المضطرب والمتدهور. فرغم انغماسه في التمتع بهذا الربيع، يشعر من خلال هذه الممارسة «الممتعة» أن هناك شيئا مفقودا أو يوشك أن يفقد».
وفي دراسته لهذه الجوانب، من غرائبيات الربيع، كما في المبحثين اللاحقين، الثالث والرابع: (غرائبيات البديع سمة فنية وغرائبيات الوصف أسلوبا للمقارنة)، يستجمع الكاتب لبنات بنائه النقدي، من آراء الحميري وتعليقاته النقدية على الشعراء الذين اختارهم. ولكن أيضا من الأشعار نماذج الدراسة. وهذا ما عبر بقوله:» إلا أن ما يجب ملاحظته هو أن الحميري لا يقدم جهازا نقديا يتحدث عن مفاهيمه نظريا، وإنما تنبث شبكة مفاهيمه داخل تعليقاته على النصوص. وقد لفت انتباهنا أن المفاهيم الغرائبية التي يستخدمها، هي المفاهيم نفسها المنبثة في مختاراته الشعرية، ما يعني أن هذه المصطلحات الجانحة إلى الغرابة كانت هي ذوق العصر وسمته الطاغية». وقد اختار الكاتب للخاتمة عنوانا لافتا: «على الضفة القصوى: مرصد لتاريخية عمود الغرابة» استعرض خلاله أهم ما توصل إليه في دراسته، مع التأكيد على نتيجة مهمة. يقول:» وقد تبدى من خلال إلقاء نظرة شبه متأنية على نسق كتابات ذلك العصر، إن شبكة المفاهيم المؤسِّسة لعمود الغرابة، التي استخدمها الحميري في كتابه هذا، كانت شائعة ودارجة على أقلام العصر في المشرق والمغرب».
أكاديمية وكاتبة مغربية