عندما تختفي غزة من عناوين الأخبار وتصبح قصص الأطباء مشكلة «حياد» أو «تحيز» لبي بي سي

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

يبدو أن هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» مصممة على تطبيق معيار «الحيادية» في العمل الصحافي على ما يجري في غزة من إبادة، فقد سحبت فيلما وثائقيا قبل أشهر عن حياة أطفال غزيين تحت الحصار وآثاره النفسية عليهم وكيفية تعاملهم مع الوضع في ظل الحرب، وها هي تقرر أخيرا سحب فيلم بعنوان «غزة: أطباء في ظل الهجوم»، وبررت الهيئة القرار بأن الفيلم الوثائقي وصل إلى «نهاية الطريق». وقالت في بيان لها إنها استنتجت أن عرض الفيلم الذي طلبت من شركة مستقلة إنتاجه «يخاطر بخلق مفهوم عن التحيز» بشأن طريقة تغطية الهيئة للحرب المستمرة منذ أكثر من 20 شهرا. وجاء القرار بعدما ناقشت «بي بي سي» خيارات إلغاء عرض الفيلم بالكامل أو ضم بعض المحتوى الوارد فيه بنشراتها الإخبارية اليومية. وتحللت المؤسسة البريطانية من مسؤولية الفيلم الوثائقي وقالت إنها قررت تحويل ملكيته إلى الشركة التي أنتجته.
ويأتي قرار «بي بي سي» بعدما تصاعد الغضب حتى من الذين شاركوا فيه وظهروا في الفيلم، نظرا لتأخير عرضه. وكان يعتقد أن الفيلم سيعرض في بداية العام، لكن تم تأخيره بعد الجدل الذي أثير حول فيلم وثائقي آخر وهو «غزة: كيف تنجو في محور حرب»، وتم سحب الفيلم من خدمة آي بليير التابعة لبي بي سي، وذلك بعد الجدل حول الراوي الرئيسي في الفيلم البالغ من العمر 13 عاما وأنه نجل وزير في حكومة غزة التي تسيطر عليها حماس. وفي الحقيقة أن منع الفيلم جاء نتيجة ضغط من الجماعات المؤيدة لإسرائيل والحملة على الفيلم والفتى وعائلته.
ولكن «بي بي سي» قالت إنها وبعد محاولات لاستخدام مواد في فيلم الأطباء الذي أنتجته شركة «بيسمنت فيلمز» توصلت إلى أن هناك مشاكل تتعلق بالحيادية. وفي بيان على موقع «بي بي سي» يوم الجمعة، قالت «أردنا أن تسمع أصوات الأطباء» و«كان هدفنا إيجاد طريقة لبث بعض المواد في برامجنا الإخبارية، بما يتماشى مع معايير الحياد لدينا». وأضافت: «بات واضحا أننا وصلنا إلى نهاية الطريق بهذه المناقشات. لقد توصلنا إلى استنتاج مفاده أن بث هذه المواد قد يخاطر بخلق انطباع بالتحيز لا يفي بالمعايير العالية التي يتوقعها الجمهور بحق من بي بي سي، فالحياد مبدأ أساسي في أخبارنا. وهو أحد أسباب كوننا هيئة البث الأكثر ثقة في العالم». كما طعنت في مزاعم خضوع الفيلم لإجراءات الموافقة النهائية قبل البث من قِبل هيئة الإذاعة البريطانية. وقالت: «أي فيلم يبث لن يكون فيلما تابعا لبي بي سي».

الشركة المنتجة ترد

ويأتي هذا القرار بعد أن هاجم بن دي بير، مؤسس شركة «بيسمنت فيلمز»، بي بي سي خلال مهرجان وثائقي الأسبوع الماضي، قائلا إن صحافيي بي بي سي يعرقلون ويكممون. وانتقد دي بير مباشرة المدير العام للهيئة، تيم ديفي، الذي وصفه بأنه «رجل علاقات عامة». وقال: «جميع القرارات المتعلقة بفيلمنا لم يتخذها الصحافيون، بل اتخذها تيم ديفي نفسه». وأضاف: «تيم ديفي يتخذ قرارات تحريرية، وهو، بصراحة، غير قادر على اتخاذها».
وشاركت صحافية لها علاقة بالفيلم في برنامج على إذاعة بي بي4 ووصفت فيه إسرائيل بالدولة المارقة التي ترتكب جرائم حرب وتطهيرا عرقيا وقتلا جماعيا للفلسطينيين. وعندما سألها المذيع أن هذا هو رأيها، أجابت بالنفي وأنها جمعت أدلة خلال العمل على الفيلم الوثائقي. وفي رسالة مفتوحة دعت شخصيات فنية وعامة تضم ديم هارييت وولتر وماريام مارغويلز وماكسين بين وجولييت ستيفنسون ومايك لي لعرض هذا الفيلم وتكريم بطولة المساهمين فيه.
وقالوا «يجب على المنظمات الإخبارية ألا تقرر خلف الأضواء أي من القصص الواجب عرضها».

خيانة ابقراط

وهذا موقف شجاع من المثقفين، لأن القطاع الصحي في غزة كان من أكثر القطاعات تضررا في الحرب الحالية، فقد دمرت معظم مستشفيات غزة الـ 37 وخرج معظمها عن الخدمة وتم قتل المسعفين بدم بارد واستهداف سياراتهم واعتقال الأطباء والممرضين، وزجهم في معسكرات الاعتقال التي أقامتها قوات الاحتلال أو نقلهم إلى السجون في داخل إسرائيل. كل هذا وسط صمت من المؤسسات الطبية الإسرائيلية والعاملين فيها الذين تخلوا عن «قسم ابقراط» والتزموا برواية الجيش الإسرائيلي، كما أظهر تقرير مطول نشرته مجلة «نيويورك لمراجعة الكتب» (31/5/2025) واتهم كتاب المقال القطاع الطبي الإسرائيلي بالتخلى عن أهم مبادئ الطب الأخلاقية في وجه الدمار الذي عانت منه المؤسسات الطبية في غزة وحق الفلسطينيين في الحصول على الدواء والعلاج.
وكشفت مشاركات الأطباء المتطوعين من الخارج، عن الأوضاع المحزنة والمثيرة للغضب داخل غزة، وكيف أن معظم ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة هم من النساء والأطفال والرجال الكبار من العمر.

شهود عيان

زادت الحالات حرجا بعد خرق إسرائيل وقف إطلاق النار في آذار/مارس الماضي. ورأى موقع «ذي انترسبت» (19/6/2025) أن عيادات غزة الشمالية ومستشفياتها المكتظة والأطباء وخبراء التغذية يواجهون واقعا يوميا مؤلما: أطفال يذوون أمام أعينهم، عاجزون عن الوقوف واللعب، وبالكاد يتنفسون. وأشار الموقع إلى أن القوات الإسرائيلية ترتكب مجازر بحق الناس في مواقع توزيع الغذاء يوميا. يوم الثلاثاء وحده، قتل الجنود ما لا يقل عن 70 شخصا وجرحوا المئات وهم يبحثون عن الطعام في موقع التوزيع الذي أقامته إسرائيل والولايات المتحدة. أطلقوا النار على الناس بقذائف الدبابات والطائرات بدون طيار والرشاشات أثناء محاولتهم الحصول على الطعام. ولم يعد سوء التغذية تهديدا وشيكا، بل هو حال طوارئ إنسانية شاملة تفاقمت بسبب الإبادة الجماعية المتواصلة والحصار والانهيار المنهجي للبنية التحتية للرعاية الصحية في غزة. ومع استمرار الإبادة الجماعية، يصف الأطباء والأمهات في جميع أنحاء القطاع كارثة تتكشف: أزمة سوء تغذية حادة ومتسارعة لدى الأطفال، والتي إذا تركت دون رادع، يمكن أن تودي بحياة الآلاف. أدى الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 80 يوما، والذي فرض إغلاقا صارما للمعابر ومنع وصول المساعدات، إلى وفاة ما يقرب من 330 شخصا، معظمهم من الأطفال. ومنذ أن بدأت المؤسسة الأمريكية-الإسرائيلية «غزة العالمية» عملية توزيع الأغذية باتت المجازر أمرا يوميا، ففي كل يوم يقتل العشرات وهم ينتظرون أمام مراكز توزيع الطعام، وبخاصة أن أمريكا وافقت مع إسرائيل على منع مؤسسات الأمم المتحدة من تولي مسؤولية توزيع الطعام والمساعدات على سكان غزة، وهي المؤسسات ذات الخبرة الطويلة في التعامل مع السكان وإيصال ما يحتاجون إليه. وبررت إسرائيل «عسكرتها» للمساعدات الإنسانية بحجج واهية وهي أن حماس تسرق المواد الإنسانية وتتربح منها، مع أنها لم تقدم ولا أي دليل على هذه المزاعم. وعلقت صحيفة «الغارديان» (17/6/2025) أن صرخات غزة اختفت وسط الهجمات الإسرائيلية الجديدة على إيران، فقد اختفى الحديث عن غزة وما يجري فيها من فظائع، ونقلت معظم أجهزة التلفزة والمرسلات الإعلامية اهتمامها إلى إيران. وقالت إن الدمار مستمر رغم دعوات الغرب والأمم المتحدة لخفض التوتر بين إسرائيل وإيران. وقالت إن شهود عيون وصفوا في يوم الثلاثاء كيف أطلق الجنود الإسرائيليون النيران على المنتظرين أمام مراكز توزيع الطعام، قائلة إن هذا الرصاص ليس طائشا ونتاجا لفوضى الحرب ولكنه نتيجة لنظام جعل المساعدة موتا. وأعلنت منظمة أطباء بلا حدود هذا الأسبوع أن ما يحدث في غزة هو «تدمير متعمد للأنظمة التي تحفظ الحياة»، بما في ذلك المنازل والأسواق وشبكات المياه والمستشفيات، مع استمرار استهداف الرعاية الصحية. وفي الأسبوع الماضي، وجدت لجنة تابعة للأمم المتحدة أن أكثر من 90 في المئة من مدارس وجامعات قطاع غزة قد تضررت أو دُمرت على يد القوات الإسرائيلية باستخدام الغارات الجوية والحرق والقصف والهدم المتحكم فيه. ما يحدث ليس أضرارا جانبية للضرورة العسكرية، بل هو برنامج إبادة مدنية. وفي مثل هذه الظروف، يصبح الكلام دون فعل أسوأ من أن يكون بلا معنى. ولا يمكن للقوى الغربية أن تدين جرائم الحرب والإبادة الجماعية بينما تزود جهات أخرى بالأسلحة التي تسببها. وتعلق الصحيفة أنه إذا كانت الدول الغربية تؤمن بالقانون الدولي، فعلى دول مثل بريطانيا أن تتحرك لدعمه. فالقانون ليس قانونا ما لم يطبقه أحد. فإسرائيل هي القوة المحتلة في غزة، وعليها واجب واضح بموجب اتفاقية جنيف الرابعة بضمان حصول السكان على الغذاء والماء والرعاية الطبية. بدلا من ذلك، فرضت حصارا وأخرجت العمليات الإنسانية للأمم المتحدة. ودعمت مؤسسة غزة العالمية التي ينسق عملها الجيش الإسرائيلي ويحرسها مرتزقة أمريكيون. وألغت إسرائيل بناء على مزاعم غير مثبتة 400 مركز لتوزيع المساعدات تابعة للأمم المتحدة. واستبدل كل هذا بأربعة مواقع عسكرية تابعة للمؤسسة الغامضة التمويل. وقتل أكثر 300 فلسطيني منذ بدء العمل بهذا النظام قبل أسابيع. ووصف مسؤولو الأمم المتحدة، تحول المساعدات إلى «مصيدة موت». وحذر مركز الحقوق الدستورية ومقره أمريكا من أن مؤسسة غزة الدولية ستكون محلا للمقاضاة بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومع ذلك تدرس إدارة دونالد ترامب منحها 500 مليون دولار. وتشير الصحيفة إلى أن الوزراء في بريطانيا يقولون إن مزاعم الإبادة الجماعية هي من اختصاص المحاكم للبت فيها، بينما يؤكد محامو الحكومة في المحكمة عدم وجود إبادة جماعية. وهذا ليس مجرد مراوغة أخلاقية، بل تناقض تكتيكي، يهدف إلى دعم مبيعات الأسلحة والغطاء الدبلوماسي، ولهذا النفاق عواقبه. فمن خلال حماية إسرائيل من المساءلة في غزة، وتأييدها الآن لهجومها غير القانوني على إيران، فإن الحكومات الغربية ليست متواطئة فحسب، بل إنها تفكك النظام القانوني الذي تدعي الدفاع عنه. إنها تتماشى مع محاولات ترامب لتقويض المؤسسات المصممة لمحاسبة الجهات الفاعلة القوية، واستبدال القواعد القانونية بغطاء سياسي. وكما قال جيريمي كونينديك، المسؤول السابق في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، لو كان صندوق التنمية العالمي مشروعا إنسانيا حقيقيا، لأوقف مجازر يومية. وتقول كاثرين ويلكنز من مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي إن مؤسسة غزة العالمية تفرض قيودا صارمة على الغذاء، وتخضع المدنيين لتدقيق بيومتري متطفل وتوزع المساعدات تحت تهديد السلاح تحت سيطرة إسرائيلية، في انتهاك واضح للقانون الدولي. وما ينهار في غزة ليس البنية التحتية فحسب، بل مبدأ أن للحرب قواعدها. وعندما تسقط هذه القواعد عن الحلفاء، لا أحد في مأمن، تقول «الغارديان».

الهروب للأمام

وهذا يقودنا إلى العملية الإسرائيلية ضد طهران، فهي بمثابة هروب للأمام كما تقول المعلقة نسرين مالك، ففي مقال نشرته صحيفة «الغارديان» (16/6/2025) رأت فيه أن الحرب الإسرائيلية ضد غزة أدت لتشويه سمعة إسرائيل حول العالم، ومن هنا فحربها ضد إيران هي محاولة لاستعادة ثقة الحلفاء والأصدقاء. وقالت إن إسرائيل دمرت غزة وجنوب لبنان واحتلت المنطقة العازلة في جنوب سوريا، وها هي تضرب إيران، مزعزعة سلاما هشا قام بسبب وجود دول الخليج كوسطاء، وتقاربها مع إيران مدفوعا بالتجارة أو مشاعر الأخوة، بل بالحاجة العملية إلى الاستقرار. وفي الوقت نفسه، تجاوزت بعض دول الخليج خطا أحمر تاريخيا، فاعترفت بإسرائيل إما بتوقيع اتفاقيات إبراهيم أو بدأت عملية تطبيع. والآن تجد هذه الدول نفسها عالقة بين طرفين متناحرين، ومعرضة لخطر عزلة الحليف الرئيسي لإسرائيل، الولايات المتحدة، التي تربطها بها علاقات عسكرية واقتصادية وثيقة. وفوق كل هذا فقد اعتمد الاستقرار الهش، على قمع الحقوق الفلسطينية بدرجة كانت محل رضا الجميع، وباستثناء الفلسطينيين بالطبع. بمعنى ما، تم أيضا تحييد القضية الفلسطينية.
وعندما بدأ الهجوم على غزة، كشف عن آراء إسرائيل ونواياها للعالم، ما أثار شبح نكبة جديدة. وهو ما دفع إيران ووكلائها، حزب الله والحوثيين في اليمن، إلى لعب دور المدافعين عن الحقوق الفلسطينية. وبمجرد أن دخلت إيران في الإطار، وشعرت إسرائيل بالقدرة على التصرف دون تردد أو لوم، لم يعد هناك مجال للتراجع.
كما انكسر شيء آخر، فقد تجاوزت مبررات أفعال إسرائيل المعقول. وبذريعة حماية وجود إسرائيل، منحتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الآخرون حرية مطلقة لأن تهاجم. وما حدث أيضا أو انكسر هو أن العلاقات التي تقوم على الثقة زعزعها رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو، حيث استغل الحرب لتعزيز الدعم الشعبي لمسيرته السياسية.
لكن غزة وضعت العلاقات الإسرائيلية، مع الحلفاء الرئيسيين على المحك. فمع تزايد الضغط الشعبي من داخل الدول الغربية، الذي يتابع صور الأطفال الجائعين والمستشفيات المتفحمة وصفوف تلو صفوف من أكياس الجثث، كان فتح نتنياهو جبهة جديدة والاشتباك مع عدو آخر، فرصة استعادة بنود اتفاقها مع رعاتها والتأكيد على الرواية التاريخية بأنها الضحية. وبضرب إيران، اختفت قصص الموت جوعا في غزة أو قتل الجياع في طوابير الطعام، من عناوين الأخبار. وتراجع الهجوم المتواصل على الضفة الغربية وتوسع المستوطنات غير الشرعية عن الأنظار. واستبدل الضغط الذي بدأ يتزايد على إسرائيل للسماح بدخول المزيد من المساعدات والالتزام بوقف إطلاق النار بنفس الحجج الواهية التي رأيناها في الأيام الأولى لحرب غزة، بالإضافة إلى نفس الهراء الداعي إلى «ضبط النفس». لقد أعيد ضبط الساعة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية