لم يبق، إلا أن يجعلوا من الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية ذاتها، كذات الملوك، مصونة لا تمس، فإذا تجرأ أحد واقترب من رحابها الطاهرة، حلت عليه لعنة الآلهة، وحقت عليه العقوبة، وعومل كما لو كان تمضمض باللبن الحليب!
ربما في سائر الدول العربية يميزون بين اللبن والحليب، إلا في مصر، فاللبن في الإقليم هو الحامض في بعض الثقافات المصرية، أو «الرايب» في عموم القطر المصري، وفي تركيا فإن اللبن، أو «الرايب» يسمونه «أيران»، بينما ما يخرج من بين فرث ودم، يطلقون عليه «سوت»، وفي غربتي ظللت طويلاً أقع في الخطأ، فأشتري «اللبن» على أنه «الحليب»، إلى أن تمكنت بأعجوبة من حفظ أنه «الرايب»! وتبدو التسمية المصرية هي الأقرب إلى التسمية القرآنية، فالسائغ شرابه الذي يخرج من بين فرط ودم، لبنا لذة للشاربين، وفي الثقافة المصرية يحدث الدمج فيكون «اللبن الحليب»، وهناك تقدير له، في مجتمع يقدس كسرة الخبز، وكان الأولون إذا وجدوا كسرة على الأرض قبلوها قبل أن يضعوها بعيداً عن أقدام الناس، وفي طفولتي لم أكن أحب اللبن، وعندما كنت أعلن هذا كانت والدتي، رحمها الله، تصدني في كل مرة، لا تقل: لا أحب اللبن، ولكن قل: اللبن لا يحبني!
وإعلاء لقدر «اللبن الحليب» فإن المورث المصري، يطلق على من يخوض في سيرة الأطهار، وصفاً أو ذماً، إنه يتمضمض باللبن الحليب، وأحياناً يكون أمراً أو استنكاراً: لا تتمضمض باللبن الحليب. وقد فعلها الصحافي حمدي حمادة، فقامت الدنيا ولم تقعد!
عهد مختلف مع «الشركة المتحدة»
حمدي من الصحافيين الذين أيدوا مسار 30 يونيو/حزيران وما أنتجه من آثار، وسبق له أن هاجم معارضة الخارج، ولعله لم ينتبه أن هذا المسار أسقط حق النقد من الحسابات، ولو على القواعد التي كانت قائمة في عهد مبارك؛ هاجم الحكومة وابتعد عن الرئيس، أو هاجم هذا المسؤول ولا تهاجم ذاك، وكان من المعروف أن مسؤولين بعينهم كانوا في مقام الرئاسة، مثل كمال الشاذلي، وصفوت الشريف، وحبيب العادلي، وزكريا عزمي، وما دون ذلك فإن النقد مباح!
بيد أن وجود الشركة المتحدة، التي تهمين على المشهد الإعلامي والفني، كاشف عن أننا نعيش في عهد مختلف، فلم يكد «حمدي حمادة» يكتب عن ما تسرب إليه من معلومات حول الشركة المتحدة ورواتب أصحاب القسمة والنصيب فيها، حتى قيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء اقلعي، فلم تراعي الشركةالموقرة أنه صحافي كبير، وليس من معارضي نظام الحكم، فرزعته بلاغاً للنيابة العامة، لأنه تمضمض باللبن الحليب، واقترب من الذات المصونة، التي لا تمس!
وقد لا تكون المشكلة في البلاغ، ففي الأجواء العادية فإن ما كتبه يدخل في باب النقد المباح قانوناً، وينتهي التحقيق إلى الحفظ، وقد كتبت قديماً أنني أستطيع أن أمارس حقي في النقد، وأن أقول كل ما أريد، ولو في ظل قانون الغابة، شريطة أن يكون هناك قانون، لكننا ندرك أنه لا قانون الآن، ووجود هذه «الشركة المتحدة» يمثل مخالفة صريحة للقانون، على النحو الذي بينا في هذه الزاوية السبت الماضي! وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فقد وقعت في خطأ، عندما قلت إن الشركة المتحدة تملك 17 قناة تلفزيونية، منها ثلاث قنوات متخصصة في الدراما، وقد تبين لي أنهم أربع قنوات، حسب المنشور على موقع القناة، هي: «دي إم سي دراما»، و«سي بي سي دراما»، و«أون دراما»، ولم أنتبه إلى «الحياة دراما»، وفي مرحلة هي الأسوأ في تاريخ الدراما المصرية، وكل ما أنتج هو عبث، وقد وضعت معياراً لنجاح أي مسلسل يتمثل في تهافت قنوات الخارج على شرائه، وبأعلى سعر، فكم مسلسل من انتاج الشركة المتحدة بيع في الخارج؟!
حق الرد مكفول
وها أنا ذا أضع الأمر على سبيل التساؤل، وبعض ما كتبه حمدي حمادة كان تساؤلاً، عن خسائر الشركة وهل بلغت – بالفعل – عشرين مليار جنيه، وهل يتقاضى رئيس تحرير «روزا اليوسف»، ورئيس قناة «القاهرة الإخبارية»، ورئيس قطاع الأخبار في المتحدة، والمذيع في قناة «اكسترا نيوز»، مليون و800 ألف جنيه راتباً شهرياً على جملة هذه الوظائف؟!
وعلى ذكر القانون، فقد ألزم قانون الهيئة الوطنية للصحافة لسنة 2018، تفرغ رئيس تحرير الصحيفة القومية، تفرغاً تاماً، والاستثناء هو الحصول على إذن من الهيئة، فهل منحت الإذن بالعمل في كل هذه الأعمال، ولماذا؟ وماذا بقي له من وقت يقضيه لإدارة العمل في مجلته، والتي عومل فيها كما لو كان زعيماً سياسياً، تقوم محررة لديه بإجراء مقابلة صحافية معه، وفي سلوك لم تعرفه الصحافة المصرية في تاريخها كله.
ومما كتبه حمدي أن رئيس تحرير مطبوعة صحافية أخرى يتقاضى أكثر من ربع مليون جنيه نظير عمله في إحدى المحطات التلفزيونية التابعة للشركة المتحدة!
ومنذ أول قانون للمطبوعات في مصر سنة 1882، وإلى الآن، فإن قوانين الصحافة تكفل حق الرد، وقد قرأتها جميعها، وتنص على عقوبة في حال عدم النشر، فماذا لو اعتمدت الشركة المتحدة قواعد الشفافية وردت عليه وعلينا وعلى كل من ينشر معلومات غير صحيحة؟!
فالخبر الكاذب يصحح بالخبر الصحيح، والمعلومة التي تفتقد للدقة، يرد عليها بالمعلومة الدقيقة، لا باستخدام عصا السلطة، وهيئات الدولة، وإذا كان لا تثريب على الشركة المتحدة في البلاغ المقدم للنيابة العامة، فإن الأزمة في أن هذه الشركة، ورغم هيمنتها، ورغم تبعيتها واقعياً للسلطة، فإنها تعامل معاملة آحاد الناس، فينظر إلى جريمتي السب والقذف بمعزل عن الوقائع، وكأنك تطاولت على عابر سبيل في الشارع!
الشركة السيادية.. وشرطة أشمون
والأمر الآخر، فإن تداعيات البلاغ المقدم منها يؤكد أننا أمام نمط جديد من الشركات وهو الشركة السيادية نسبة للهيئات السيادية، فما أن قُدم البلاغ إلا وتحركت قوة من قسم شرطة أشمون، في محافظة المنوفية، للقبض على المتهم، وفي مسقط رأسه، وليس في مكان اقامته في القاهرة، وهذا انتهاك واضح ليس فقط لحرية التعبير، ولكن للقانون، وللأعراف المستقرة، فقانون نقابة الصحافيين لا يرتب الحبس الاحتياطي في ما نشر، وبالتالي لا يجوز القبض على الصحافي، ثم إن القانون لا يرتب دوراً للشرطة في قضايا النشر، فالبلاغ يقدم للنيابة، والنيابة تخاطب النقابة بحضور الصحافي المقيد في جداولها للتحقيق!
لو كان الحال غير الحال، لاعتبر هذا البلاغ رمية بغير رام، لمحاكمة الشركة المتحدة، واستجوابها فمن الملاك؟ ومن أين تمول الترسانة الإعلامية التي تملكها؟ ومن سمح لها بمخالفة القانون بعدم نشر ميزانياتها؟ وما هي خسائرها الحقيقية؟ وكم رواتب العاملين فيها؟ لا سيما رؤساء تحرير الصحف القومية الملزمون بتقديم إقرار ذمة مالية كل عام؟ ومن سمح لها باختراق القانون الذي ينص على عدم امتلاك الشركة الواحدة أكثر من سبع قنوات تلفزيونية، ولا يجوز أن تشتمل على أكثر من قناة عامة وأخرى إخبارية، بينما هي تملك سبع عشرة قناة تلفزيونية، تضم أكثر من قناة إخبارية وأكثر من قناة عامة، بجانب أربع قنوات للدراما، في زمن بدون دراما!
وقبل هذا وبعده ما هي الدوافع التي تدفع قوة بوليسية للتحرك، في أمر لا يقع ضمن اختصاص الشرطة ويمثل تجاوزاً لاختصاصها الوظيفي؟!
ولأن الحال غير الحال، فكان التعامل مع حمدي حمادة على أنه تمضمض باللبن الحليب، وتم اهدار القانون عياناً بياناً على هذا النحو، لعقابه على فعلته هذه! لماذا لا ينص القانون على أن الشركة المتحدة ذاتها مصونة لا تمس؟!
أرض – جو:
من العبث أن يتم الإقدام على انتاج فيلم «الست»، بطولة منى زكي، عن قصة حياة أم كلثوم!
فقد سبق لقطاع الإنتاج في التلفزيون المصري، أن أنتج مسلسلاً عن حياة سيدة الغناء العربي، بطولة صابرين، ولاقى نجاحاً كبيراً، وذلك في العصر الذهبي لهذا القطاع، وقبل تدميره لصالح مدينة الإنتاج الإعلامي، التي ولى زمانها واحتكرت الشركة المتحدة الإنتاج الدرامي!
وقد حدث تشبع للمشاهد، بدليل أنه في هذه الفترة عرض فيلم عن أم كلثوم من اخراج محمد فاضل وبطولة فردوس عبد الحميد، وفشل بشكل غير مسبوق، مع النجاح الهائل للمسلسل، وعندما يأتي من ينتج فيلماً جديداً في الموضوع نفسه، فإنه العبث بشحمه ولحمه!
أحياناً يستقر في وجداني أن القائمين على الأمر الآن مقطوعو الصلة بما قد سبق، فالدنيا تبدأ معهم، على النحو الذي يذكرني بأصدقاء من الإخوان المسلمين في المرحلة التي تلت الانقلاب، واستقرارهم في الخارج!
فقد كانوا يكتبون بانبهار عن أفلام شاهدوها خلال هذا الأسبوع، ومنذ زمن «أبي فوق الشجرة»، وكأنها في العرض الأول، مع أن هذا الأب نزل من فوق الشجرة ومات وشبع موتاً. قرأت أن تصوير فيلم «الست» أحيط بإجراءات سرية حتى لا تتسرب بعض الصور أو المشاهد، وهو سلوك يتصل بعمل الثكنة العسكرية وليس بأستوديوهات التصوير.
فمن أنتم؟ بصوت الأخ القائد!
٭ صحافي من مصر