يتساءل فيلسوف العقل الخالص قائلا «ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ وما الذي ينبغي أن أفعله؟ وما هي حدود آمالي؟ ومن هو الإنسان؟ على الرغم من أن سؤال ما الإنسان يأتي في المرتبة الأخيرة، بيد أنه يشكل غاية كل الأسئلة، لأن المعرفة لا توجد إلا بوجود الإنسان، وكل ما هو قابل للمعرفة تتم معرفته انطلاقا من العقل الخالص. هكذا يكون الإنسان، باعتباره حيوانا عاقلا هو مهندس الثورات العلمية، لكن من يمنعه من استعمال عقله يحرمه من هذه الثورات، ولعل الهيمنة السياسية عندما تقترن بالطاعة تقوم بإفراغ إرادة الفكر من محتواها وتحولها إلى إناء فارغ. والحكمة تقول «لا تعطي السكين للطفل». ومعنى ذلك لا تضع السلطة في أيدي العامة الرعاع، ومن المؤسف أن أغلب السياسيين عندنا يفتقرون إلى التعقل ويطغى على أرواحهم الكسل وجمع المال .فهؤلاء الجهل يمكن تسميتهم بالعائق الأبيستيولوجي الذي يقف أمام النهضة الفكرية، لأنه من الخطأ أن ننصب نفسا عديمة الفكر على رأس التعليم والبحث العلمي، لأنها ستكون سببا في تعميم الجهل ونشر كراهية الفلسفة والعلوم العقلية، مختفيا وراء العلوم الدينية والأيديولوجية الأصولية، ولعل ما يقع الآن عندنا خير دليل على ذلك. فهل يستطيع هذا الراعية الجاهل أن يبعد الفلسفة عن الجامعات؟ وكيف يمكن تفسير حملته الشرسة على الفلسفة؟ ولماذا الاعتماد على العصبية الحزبية في تعيين رؤساء الجامعات.
يمكن القول إن الجسر الذي يؤدي إلى الفلسفة قد تم تدميره من قبل زعماء التيار العدمي، ولذلك لم نعد ندافع عن الفلسفة فقط، بل أصبحنا نبحث عن تلك الأماكن الهادئة والمطمئنة من أجل متعة التفلسف، ولا نريد لهذه المتعة أن تتقطع بضجيج الخطباء الذين ينشرون الكراهية ويلوثون الأرواح بالحقد والعنف، وينشرون الرعب بين العوام. ومن الطبيعي أن يتم النفور من الفلاسفة، بل كراهيتهم، إلى درجة أنهم أصبحو غرباء في وطنهم وعظماء في الأوطان الأخرى. ولذلك فإن يومه منير فلا تبدأ في الطيران رغم أن الليل قد أرخى سدوله، ما دام أن بناء الواقع لم يتم بعد، فإبداع قوانين عظمة الإنسان مازالت تنتظر، وطال انتظارها، ومن المحتمل أن تندثر في النسيان، باعتباره تلبية لنداء العدم، لأن المسلمة المنطقية التي تقول إن الفكر هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، فبواسطته يتم إنتاج الوجود والمعرفة، لم يستوعبها العقل الأسطوري، مما حكم عليها بالسجن مدى الحياة في عتمة النسيان. هكذا أضحى الإنسان لا يتميز عن طبيعة الحيوان، لا يفكر ويحتقر الفكر.
الحقيقة الفلسفية هي مجموع الفكر أو شموله، وحرية الكل، وكذلك ضرورة الأجزاء الفرعية التي يشتمل عليها هذا الكل، لا تكن ممكنة إلا حين تنفرد هذه الأجزاء وتتميز.
وبما أن الحياة الخالية من التأمل حياة لا تليق بالإنسان، كما قال سقراط، فإن عدم اختيار هذه الحياة هو نفسه اختيار، لأن الذي لا تحققه إنسانيته، انطلاقا من جدلية العبد والسيد، يظل يتمتع بحرية وهمية تنام في أحضان العبودية، فإرادة الحرية لا تحقق ذاتها إلا بالقطيعة مع إرادة العبودية، ذلك أن الحرية ليست اختيارا، بل هي نفسها اختيار. والحقيقة تقول إنه ليس هناك فكر بدون حرية، فكلاهما يكمل الآخر «لأن ما يجمع عصرنا عصر عظيم هو امتلاكنا للحرية والفكر».
هناك حاجة إلى الحرية والفكر، بيد أن المجتمع الفارغ من الفلسفة، لا يمكن أن يحتضنهما، ذلك أن «الحقيقة الفلسفية هي مجموع الفكر أو شموله، وحرية الكل، وكذلك ضرورة الأجزاء الفرعية التي يشتمل عليها هذا الكل، لا تكن ممكنة إلا حين تنفرد هذه الأجزاء وتتميز». وما أحلى الحقيقة الفلسفية حين تحل بالمجتمعات وتحررها من الوهم والأساطير والعبودية، ولذلك فإن هيغل يشبهها بالفاكهة اللذيذة التي تقتات منها الروح. «فهل يرفض من له رغبة في تناول الفاكهة ما يقدم له من عنب وكمثري وكرز، على أساس أنها عنب وكمثرى وكرز وليست فاكهة»، لكن لماذا حرم الإنسان العربي من هذه الفاكهة؟ هل لأن العقل الأسطوري يروج لمقولة إن الفكر الفلسفي يلوث الشعور الديني؟ أم لأن أحزاب الأولياء والأضرحة تقوم بإقصاء الحقيقة الفلسفية والترويج للحقيقة الأيديولوجية؟
من الطبيعي أن تكون مهمة الفيلسوف شاقة، لأنه بدلا من الدفاع عن الفلسفة والتفلسف نجده يقاتل من أجل العيش في المدينة الجاهلة، هكذا ينصهر في الفلسفة، لأنه كما يقول هيغل «الفلسفة كلها تشبه بهذه الطريقة دائرة مؤلفة من عدة دوائر» تصعب مغادرتها، لأنه بمجرد ما نبدأ في التفلسف نتيه في المتعة وننسى أين نعيش، ومع من نقتسم الأرض، مادام أن تأملات السماء قد استحودت على الروح. الفيلسوف يضع نفسه رهن إشارة الفلسفة، وبذلك تصبح هي التي تتحدث عن نفسها من خلال الفيلسوف، لأنها تستوطن ماهيته وتحرضه على الاعتراف قائلا «لست أنا الذي يتكلم إنه اللغوس» حسب هيراقليط، بل إن الفلسفة تعلم الفيلسوف الإنصات والكلام بشكل جيد «وأسمى فضيلة هي أن نفكر بشكل صحيح، وتقوم الحكمة على قول أشياء صحيحة والتصرف حسب الطبيعة مصغين لصوتها». أمام كل هذا التردد وعدم القدرة على تقديم الأسباب الحقيقية التي كانت وراء تأجيل موعد الفكر مع الحرية، وأرغمت الفلسفة على التيه في عتمات الانتظار، لا بد من النظر إلى تاريخ الفلسفة كإبداع لأسئلة الحاضر، أكثر من إبداعها لأسئلة الماضي.
كيف يستطيع فيلسوف المستقبل أن يشيد أنطولوجيا الحاضر بدون حرية وفكر؟ ألا تكون الحقيقة حين امتزجت بالتراث قد تحولت إلى نسيان للفكر والوجود؟
كل فلسفة لا تستطيع مقاومة الزمان يتم تجاوزها، وبخاصة أنها لم تصل إلى الإقامة الشاعرية في أنطولوجيا الحاضر، التي تسعى إلى انتزاع الوجود من يدي النسيان. ولعل فيلسوف المستقبل يستطيع اختراق النسيان، انطلاقا من تلبيته لنداء الوجود واحترام الموعد مع الحقيقة، لأنه يجعل من الفكر والوجود الشيء نفسه «فالفيلسوف، كما يقول نيتشه، هو إنسان لا يتوقف عن الحياة والشك، وإنه يحلم باشياء رائعة «ولذلك نتساءل، هل هناك من لحظات رائعة أفضل من انتزاع الفكر والوجود من قدر النسيان الحزين؟ وكيف يستطيع فيلسوف المستقبل أن يشيد أنطولوجيا الحاضر بدون حرية وفكر؟ ألا تكون الحقيقة حين امتزجت بالتراث قد تحولت إلى نسيان للفكر والوجود؟
بإمكان هذه الأسئلة القلقة أن ترغمنا على السقوط في تلك البئر التي سقط فيها طاليس، وأصبح مصدرا لسخرية الخادمة، ولكنه استطاع أن يحرر فهم الوجود من يدي النسيان، حيث تناول إشكالية الوجود بمعزل عن الأساطير والخرافات، ولذلك استحق لقب أول فيلسوف يوناني، عندما قام بتحرير الفكر من الأساطير والخرافات، لأن رؤيته كانت أقرب إلى رؤية الحقيقة. هكذا قام بالصعود إلى العالم المعقول، منبع الحقيقة والمعرفة، ولن يستطيع أي كان حرمانه من النور الفطري، بل أضحى هو المحرر لتلك الأرواح الخيرة من كهف النسيان، ولذلك نجد سقراط يعتز بهذه المهمة قائلا «فلنفرض أننا أطلقنا سراح واحد من هؤلاء السجناء وأرغمناه على أن ينهض فجأة ويدير رأسه ويسير رافعا عينيه نحو النور …وسوف ينبهر إلى حد يعجز عن رؤية الأشياء التي كان يرى ظلالها من قبل، فما الذي تظنه سيقول إذا أخبره أحد بأن ما كان يراه من قبل وهم باطل، وأن رؤيته الآن أقرب إلى الحقيقة «، بيد أن هذه الشجاعة قد كلفت سقراط ثمنا غاليا، لأن أعداء الحرية والفكر حكموا عليه بالإعدام، فمن أين تأتي هذه النشوى بجمال الحرية؟ وما مصدر هذه الشجاعة التي تؤدي إلى الموت؟ ألا يكون الفيلسوف مجرد طفل يستهويه اللعب بالخطر؟ ألا تكون الحقيقة نفسها مجرد لعبة لتسلية الفلاسفة؟
٭ كاتب مغربي