عنف الكلمات

حجم الخط
15

شاهدت بالصدفة فيديو لجامعية فرنسية تدرّس في جامعة ستانفورد الأمريكية هي سيسيل أولدي Cécile Auldy استضافتها القناة الفرنسية الأولى لتقديم كتابها الذي يحمل عنوان Quelle langue parle Eric Zemmour أي: أيّة لغة يتحدّث إيريك زمّور؟
إيريك زمور هو سياسي فرنسي من اليمين المتطرف، بدأ حياته في الصحافة المكتوبة في صحيفة «يومية باريس» Le Quotidien de Paris ثم في الفيغارو ولكنه عرف أكثر حين اشتغل في الإعلام في بعض القنوات الفرنسية؛ ترشح للانتخابات الفرنسية لسنة 2022 ولم يحصد إلا سبعة في المئة من الأصوات. عُرف بتصريحاته العنيفة التي كان لها منحى عنصريّ.
ما يشدك في عنوان الكتاب، الذي استمعت إلى الأستاذة تقدّمه، أنّه يوحي إليك بأنّ لكلّ إنسان لغةً يمكن أن تميّزه في خطابه الرسمي أو الشخصي مع الناس. نحن لا نتحدّث هنا عن الأسلوب في قولة جورج بيفون الشهيرة: «الأسلوب هو الرجل نفسه»؛ بل نتحدّث عن أن الإنسان وهو يبني كلامه اليومي يمكن أن يعتمد طريقة في الكلام، يختار لها جيشا من العبارات وتساعده أثناء النطق، النبرة التي يوجّهها الوجهة التي يريدها ويستعملها في سياق معيّن أو في أغلب سياقات كلامه. على سبيل المثال العبارات التي يكثر زمّور من استعمالها هي «رهط بشريّط، «ديكتاتوريّة» «حرب أهليّة» «عدوان» «انفجار العنف» وغيرها ممّا شابهها من العبارات الباعثة على التخويف والترهيب من جاليات أجنبية بعينها (نحن نسكت عن تسميتها عمدا حتى لا ننخرط في الخطاب نفسه)؛ وهي عبارات تجعلك على حدّ قول مؤلّفة الكتاب تفكّر في لزوم بيتك، تغلق عليك باب خزانتك وفي يدك سلاح ولا تفكّر في أن تغادر ركنك ذاك البتة، لأنّ الخارج مليء بالمخاطر.
العبارة اللسانية التي نسمّي بها استعمالا فرديا مخصوصا هي Idiolect أي لهجة فرديّة، وتعني الطريقة التي يتكلم بها شخص ينتمي إلى جماعة لغوية في لحظة معينة وفي سياق معين. لنقل مثلا أن زمّور وهو يخوض حملته الانتخابية في حزبه الصغير، وحتى يبالغ في خطاب التطرف اليميني ويجاوز الحدود التي وضعها الشهير جان ماري لوبان، أو ابنته مارين لوبان استعمل هو عبارات أشدّ إيلاما وأذية في الانتقام من الجاليات الأجنبية المعنية بالإيلام والتشنيع. وقد أشارت الكاتبة إلى هذه المسـألة حين قالت، إن زمور يستعمل عبارات ثقيلة وعنصرية أكثر من تلك التي كان يستعملها لوبان. التطرف في اليمين له إذن درجات يمكن أن تعبّر عنها اللغة، ولنقل إن لهجة لوبان الفردية باتت على شدّتها مهذبة ومألوفة، ولم تعد تقنع، فيريد زمّور أن يجد لنفسه مكانا لهجيا فرديّا فريدا داخل هذا الخط اليميني الذاهب إلى أقصاه.
اللهجة في معنى من معانيها هي أداء جماعة لسانية صغرى لغة كبرى بشكل مختلف واللهجة الفردية هي أداء فرد داخل لهجة أداء يميّزه، إلاّ أن السّياسيّين لا يمكن أن يبتدعوا لهجة مهما اجتمعوا، لأنّ اللهجة شأنها شأن اللغة ملكٌ غير سياسي هي ملك اجتماعي لأداء لغوي معيّن، بيد أن السياسيّ يمكن أن يصطنع له هنا وهناك لهجة فرديّة تميّزه.

في الخطابات التي شاهدتها لرؤساء السبعينيات من أمثال المرحومين بورقيبة والحسن الثاني والسادات، يمكن أن تظفر ببعض سمات لهجية فرديّة. لم يكن خطاب هؤلاء عنيفا، رغم هول لحظة الصراع مع تحدّيات التنمية أو مخاطر الجوار، لكنّه كان خطابا فيه لهجات فرديّة مميزة تكثر فيها العبارات المكررة بعينها، ويطغى عليها أحيانا البعد المحلّي والإقليمي، الذي يتناول في كلامهم بشيء من السخرية المرّة، أو بشيء من العقلانية والحجاج المبالغ فيه لوضوحه. ويمكن أن نجد في لغاتهم الفردية مستويات، فعلى سبيل المثال إذا تحدّث بورقيبة عن كفاحه ضدّ فرنسا استخدم عبارات فيها تركيز على سجنه وملاحقة الاستعمار له ولأصحابه بشكل من الانفعال المؤثّر، إلى درجة بكائه؛ ولكنّه حين يتحدّث عن التنمية الداخلية والصراع من أجل بناء تونس حديثة كان يستخدم عبارات جاهزة، كالأمثال وعبارات مستحدثة يختلط فيها الديني بالوطني، من نوع الجهاد الأكبر والأمة التونسية وغيرهما من العبارات التي نحتها بورقيبة لنفسه.
يمكن القول إن خطاب العنف في اللهجة الفردية للسياسيين كان عبر التاريخ يمرّ بموجات، ولم يكن عادة مستهلكة أبدية. فاللغة الفردية التي يصنع العنف سماتها الأساسية هي لغة تضع صاحبها في خانة اجتماعية أو سياسية، عادة ما تريد التجييش ضدّ جماعة أو فئة أو فكرة أو أيديولوجيا؛ وبناء عليه فإنّ عنف زمور اللفظي، ليس حالة اجتماعية وإنما هو حالة سياسية تريد خلق حالة نفسية وجمهرة اجتماعية تنتصر لفكره وربّما لأدائه. لكنّ عنف الكلمات يمكن أن يكون سمة من سمات لغة فردية لكثير من الأفراد في المجتمعات. عنف الكلمات يمكن أن يلحظ في كثير من سلوكنا اليومي، لكنّه لا يمكن أن يمثل لهجة فرديّة إلاّ حين يكون في نظام كامل من العنف. العنف الاجتماعي الذي يمكن أن يلحظ في اللغة ليست له أهداف واعية أو مرسومة ما قبليا كما هو الحال في العنف اللفظي ذي الأهداف السياسية. يمكن أن يكون العنف اللفظي اصطفافا في خانة يقدّر أصحابها مثلا أن العيش في سلام، ومن غير مشاكل لا يمكن أن يتمّ إلاّ إذا ادّعى الشخص أنّه قويّ ولا قوة إلا بالعنف. كثير من الشباب اليوم في بلاد عربية كثيرة لهم هذا التصوّر: حتى أثبت وجودي ينبغي أن أكون عنيفا. يبدأ العنف برفع الصوت في السياقات التي لا تتطلب رفعه. رفع الصوت هو ضرب من العنف، الذي يراد به الهيمنة على المنطقة.

الهيمنة على المنطقة سلوك حيواني طبيعي وغريزي عند بعض الحيوانات كالكلاب، أو الدّببة، إذ يريد الذكور منها أن تكون المنطقة التي هو فيها تحت هيمنته الذكورية، حتى إذا دخل ذكر آخر الدائرة وشمّ الرائحة غادرها تاركا المكان لفحولة واحدة. العنف اللغوي عند الشباب أو عند من لم يعرف أن الشباب غادره ليتركه أمام أبواب الكهولة، مأتاه من هذا السعي الغريزي للهيمنة على المنطقة التي يكون فيها.
أبرز مظاهر عنف الكلمات لدى الشباب أن يستعمل الكلام الفاحش أو النابي، دون خجل، بل يتباهى باستعماله للدلالة على أنّه لا ينضوي تحت المنظومة الأخلاقية المألوفة، أو الكلاسيكية، هو ضرب من الخارجيّة، ولكنّها خارجيّة لغوية لها مآل أخلاقي: أنا لا أعترف بأخلاقكم أريد أن أتهتك لغويا ولكم أن تقتصوا مني إن أردتم. لساني سيفي وسأبيدكم بسلاح لساني لأنّي أنوي أن أشتتكم وأبعدكم عنّي ولن أبقى في الساحة إلا أنا ولساني. لعنف الكلمات بعد اجتماعي في العلاقات المغلقة التي يكون فيها التواصل محدودَ الأطراف، محاصرا في نطاق علاقيّ ضيق هو نطاق الأسرة، أو علاقات الصداقة، أو علاقات العشق، أو غيرها؛ في هذا الإطار يمكن أن ينفرط عقد العلاقة لسبب سطحيّ، أو عميق، وعندها يبدأ عنف الكلمات فتعوّض العبارات العادية بالألقاب النابزة، أو بالتسميات المزعجة، أو بالكلمات النابية، أو بوسم المخاطب حضورا، أو غيابا بأبشع النعوت. يصبح الخطاب كاسرا لكلّ اتفاق هادما لكل انسجام. في الخصومات الحادّة يصبح الكلام صفعا وركلا وضربا وأحيانا قتلا بسهام العبارات، ويموت الطرف الذي لا يستطيع أن يصمد أمام هذه الطعنات أكثر من غيره. لا يموت مرّة واحدة، بل في كلّ مرّة يذكر فيها ذلك الكلام السهام الذي انغرز فيه. في عنف الكلمات العائلي ينهدّ جدار الاحترام أو الطاعة أو الحبّ، وحين ينهار يصبح بإمكان المرء أن يطلب الرحيل والطلاق والهجرة والعزلة والانفراد، حتى لا يصاب أكثر بعنف الكلمات. لا صباح الخير ولا مساء الخير ولا يا حبيبي كم اشتقت إليك ولا يا أبي أنت جنتي ولا يا أمي أنت روحي ولا يا ولدي يا قرة عيني.. يموت النداء السليم المسالم في الحناجر ويسأل المعتدى والمعتدى عليه لماذا أنادي من كنت أنادي بهذا الشكل السليم المسالم؟

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    ببساطة من وجهة نظري، لأن عقلية (العالة) ضد الإجتهاد، هذا أولاً،

    ثم لغة القرآن وإسلام الشهادتين تنفرد بمفهوم لفظ (الله)، عن كل بقية اللغات والألسن الإنسانية، بمعنى أن الله خالق أو رب الأرباب والألهة، وليس هو رب أو إله من بقية الأرباب والألهة، كما فهم أو تعامل من علّق عليهم المصري، مثله مثل الشيخ (د يوسف القرضاوي)، في موقفه من (سيد قطب) أو كتاب (في ظلال القرآن)

    الإشكالية، التي لم تستوعبها، يا م سمير الخزرجي أن السّامريّ خلق (رب/إله) في إنتاج (البقرة)، من أموال (اليهود)، بوجود الأنبياء هارون وموسى،

    إنشاء دولة، لا يختلف عن إنشاء شركة، أو إنتاج أسرة، تحتاج إلى عقد بلا غش أو فساد، ليتحمّل مسؤولية، كل طرف تجاه الآخر،

    أي تجاوز عقلية من يضحك على من، أو من أخبث/أذكى مِن مَن، ليصعد على أكتاف أو أكل حقوق الآخر،

    كما يفعل (اليهود) في ديمقراطية (الكيان الصهيوني) عند إنشاء كل (كيبوتس) على حساب أهل (فلسطين) كوسيلة إلى الإنتاج (الإيرادات) تحت حماية شفاعة ومحسوبية أو واسطة أي رشوة (المال السياسي) من أصحاب حق النقض/الفيتو بعد تأسيس الأمم المتحدة في عام 1945، لتقليل تكاليف إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الأولى والثانية من خلال مفهوم (عولمة الإقتصاد)،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    بمعنى آخر لتقليل تكاليف إعادة الإعمار في عام 2024، من وجهة نظري، يجب شكر فضائية DW وبرنامج أحمد البشير

    https://youtu.be/bie5eSZyOik?si=pXpbSR7kLLMWEzn3

    في استضافة د حارث حسن، ود مهند سلوم، لتلخيص إشكالية عقلية الكيان الصهيوني، في بناء نموذج دولة الحداثة أو آلة الإنتاج الأحدث،

    أو بمعنى آخر سبب فشله في إدارة وحوكمة، نموذج الدولة الديمقراطية، أو نظام أسلوب فرّق تسد، من أجل السيطرة، وفق مفهوم قياس الذكاء بالقدرة على التحايل بشكل أفضل، أي سياسة من يضحك على من أو من أخبث/أذكى مِن مَن،

    بمعنى آخر الإستمرار في زيادة مفهوم الهدر في الجهد والوقت والمال، الذي ثبت فشله يوم 7/10/2023، أو يوم 11/9/2001، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، أليس كذلك، أم لا؟!

    أي ما حصل يوم 9/6/2014 أو نموذج داعش (ليس الحل)،

    بل الحل (السبي البابلي/الكفيل) بدل (الهولوكوست) الألماني أو (محاكم التفتيش) الإسبانية، كما ثبت نجاحه على أرض الواقع، في كل نموذج إقتصاد من نماذج دول مجلس التعاون، بعد فشل سيطرة جهيمان على مكة يوم 1/1/1400 والحمدلله، ممثل مدرسة تسريع عودة (المهدي/المسيح) المُنتظر، والتي هي نفس فكرة إنشاء (الكيان الصهيوني)،

  3. يقول S.S.Abdullah:

    تحرير فلسطين، يعتمد على تطوير مفهوم (السبي البابلي/الكفيل) وليس تقليم أظافره كما حصل بعد خزعبلات (صدام حسين) يوم 2/8/1990، والتي زادت بعد إثبات فشل (الموظف/المسؤول) خريج مناهج دولة الحداثة يوم 11/9/2001، خصوصاً وأن (نتنياهو) لن يستطيع تنفيذ أسلوب جورج بوش الإبن، من ليس معنا، فهو ضدنا، بعد 7/10/2023،

    والسبب أدوات الأتمتة أو AI أو ChatGPT في التعامل (عن بُعد OnLine) من خلال الآلة الروبوت التي في يد أي إنسان (ة) أو أسرة أو شركة بل وحتى الدولة، بعد بداية تسويق مبادرات (الصين) لإنقاذ الإقتصاد العالمي، بعد هزة 2008،

    (العراق) وقع معاهدة (المقايضة) وطرح مشروع (طريق التنمية)، من خلال مفهوم (التكامل وليس الصراع أو منافسة) مع مبادرة طرق وحزام الحرير الصيني لأتمتة إدارة وحوكمة أي دولة بداية من عمود الكهرباء، عكس ممر بايدن من (الهند) الذي تم طرحه من G-20،

    ونحن، شركة دولة أعمال ومقاولات سوق صالح (الحلال) في تسويق مشروع صالح (التايواني)، لتغيير مناهج تعليم أي لغة وأي ترجمة،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    طرحنا مبادرة (الكهرباء الأرخص) لمن يريد منافسة نجاح أي نموذج من نماذج دول مجلس التعاون الإقتصادية، أو نموذج ثقافة جملكو ( أكل لحم الجمل (الحلال)) كمنافس إلى ثقافة ماكدونالدز (أكل لحم البقر، غير الحلال)، أي تغيير مناهج تعليم أي لغة وأي ترجمة لتكون مناهج التعليم تعتمد على معنى المعاني وهيكل لغة القرآن وإسلام الشهادتين، من أجل خلق ضمير إنسان حي، بعد تحويل مهنة/وظيفة إلى مفهوم شريك داخل الأسرة أو الشركة وبالتالي الدولة التي تعتمد على تَعدّد الزوجات الحلال، بكل مسؤولية،

    ولذلك أنا مع الحل السنغالي، 🤭🫣🤣

    بدل تَعدّد العلاقات من خلال المتعة أو العرفي أو المسيار بلا أي مسؤولية أو تدوين في سجلات الدولة كما يحصل في ثقافة مدرسة (آل البيت) أو ثقافة مدرسة (شعب الرّب المُختار)، على أرض الواقع.🤨🤨
    🤑🙈🙊🙉📟📓🇺🇳✒️

  5. يقول الدكتور جمال البدري:

    من وحيّ مقالك أشيرعجالة إلى أنّ تغيير الأسلوب الكلاميّ والخطابيّ وحتى النثريّ المكتوب؛ لهي سمة طبيعيّة في الإنسان.ففي القرآ ن الكريم نجد ثلاث سور ذات ترتيب في النزول وفي ترتيب المصحف كذلك هي سور: الشّعراء والنّمل والقصص.ففي كلّ واحدة منها نجد خصيصة لغويّة؛ قلما ألتفت إليها أهل الاختصاص.وهي أنّ سورة الشّعراء ( من اسمها ) تناولت الشّعر…لهذا جاءت فيها التفعيلة الأساس بقوله: { وفعلت فعلتك التي فعلت }(19) وسورة النّمل تناولت النثر المكتوب؛ كما في كتاب سيدنا سليمان إلى بلقيس…وسورة القصص تناولت الخطابة في القول؛ بسبب تعلّم سيدنا موسى النبيّ فنّ الخطابة من النبيّ شعيب في مدين ( والنبيّ شعيب هو خطيب الأنبياء كما في الحديث النبويّ ) وليست هي من قصّ القصص: الحكايات.ألم تقرأ قول البحتريّ: { قصّة التّلّ؛ فاسمَعوها عُجَابَهْ…….إنّ في مِثْلِها تَطُولُ الخَطَابَهْ }.زدنا مما لديك يا دكتور؛ فالعلم منهل الحياة للبشر…مع التقدير.

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية