قبل حوالي عامين نشرت في «القدس العربي» مقال تحت عنوان: «معارك غربية حول الحريات الجنسية». الفكرة كانت أن رفض ما يسمى بـ»القيم الغربية»، التي باتت ترتبط بتشجيع الميول الجنسية المنحرفة والغرق في الإباحية، لا يقتصر على دول الجنوب والشرق المحافظة، بل إن هناك في الغرب من يرفض وجود مظاهر منحرفة كنوادي التعري وبائعات الهوى وحانات المثليين.
بعد قرابة القرن من تبني مشاريع الحداثة، المتعلقة بجعل كل الانحرافات مباحة، فإنه ثبت لكثيرين، أن هذه الإباحية لا تحقق السعادة، ولا تجعل المجتمعات أكثر أمناً، بل لا تعمل حتى على تخفيض نسبة الجرائم المتعلقة بالانتهاكات الجنسية والاغتصاب، إنما يساهم هذا «التساهل» في تشويه الوعي، وفي التشجيع على ارتكاب مزيد من الجرائم بحثاً عن إشباع لا يتحقق. في يومنا هذا، وفي مدن أوروبية مختلفة، تتعرض النشاطات المتعلقة بالجنس والبغاء لتضييقات، لم تعتد عليها من قبل ناشطين محليين، لا يخفون استياءهم منها وعداءهم لها. هؤلاء الناشطون لا يتفقون مع الرأي القائل إن السياحة الجنسية، وقدوم عشرات الآلاف من الزوار لمدنهم بحثاً عن شراء المتعة أمر يدعو إلى الفخر، بل يعتبرون، على العكس من ذلك، أنه أمر مشين ومسيء لصورة أحيائهم.
سياسيون كثر وضعوا في صلب برنامجهم التحكم في هذه النشاطات ومحاولة لجمها طمعاً في كسب تعاطف الناخبين «الأخلاقيين»، الذين تتزايد أعدادهم عاماً بعد عام. يحاول هؤلاء الناخبون أن يصنعوا بعض الضغط، لكنهم يجدون أنفسهم محاصرين ما بين التشريعات المتساهلة والمشجعة، وأصحاب رؤوس الأموال، الذين ينفقون الملايين في سبيل تثبيت الأوضاع الحالية، مكونين لوبيهات قوية وداعمة لكل ما ارتبط بمجال الترفيه الجنسي من «بزنس». انتقاد هذه الإباحية المفرطة لا يأتي فقط من الأخلاقيين والمتدينين، ولكنه يأتي أيضاً من مدافعين عن المرأة. هذه الفئة، التي تضم شرائح كثيرة من ضمنها نساء اختبروا هذه المجالات من قبل وعرفوا دروبها، ترى أن هذا «التسليع» والاستغلال لا يمكن أن يكون مقبولاً في دول تعلن احترام النساء والسهر على حقوقهن.ىساهم ذلك كله، مضافاً إليه العبث المتعلق بالتحول الجنسي، والتعامل مع الأطفال كعناصر محايدة وقابلة لتغيير نوعها عند البلوغ برغبة الوالدين أو من دونها، إلى ضخ دماء كثيرة في التيار اليميني، الذي تردد دعايته، التي تجلب المزيد من المقتنعين بها كل عام، أن العالم الغربي يبدو في جموحه، الذي تخطى كل الحدود، أشبه بمن باع نفسه للشيطان.
لما كانت في بداية تسلمها السلطة قالت رئيسة الوزراء الإيطالية الحالية جورجيا ميلوني عبارتها الشهيرة: «لا لأيديولوجيا الجندر» (مصطلح ظهر في نهاية القرن الماضي ويجمع كل الأفكار المتعلقة بالقيم الجديدة). هذه الكلمات كانت كافية لتحقق لها شعبية، ولتجذب لها آلاف الأصوات المستاءة من ذلك الانتكاس، الذي يسعى للتلاعب بمفاهيم الرجولة والأنوثة ولتفكيك الأسرة وإعادة تعريفها بادعاء البحث عن المساواة أو عن حرية المرأة. يتمدد التيار الرافض لما يسمى بـ»أيديولوجيا الجندر» في مساحات واسعة من الدول الأوروبية، بما فيها تلك الدول، التي كانت تظهر بشكل أكثر انفتاحاً وليبرالية. هذا التيار، مع كل هذا، ما يزال يجد مقاومة كبيرة، تحول دون مساهمته في تغيير صورة أوروبا. ليس أدل على ذلك من كون أن ميلوني نفسها، التي كان شعار حملتها الانتخابية: «الرب، الوطن، العائلة»، لم تستطع أن تنفذ وعودها بمجرد فوزها بالانتخابات، كما كانت تقول في خطاباتها الدعائية، ما أظهر أن الأمر مواجه بعقبات عدة. في أوروبا تعتمد مقاومة هذا التيار الأخلاقي على أصوات الملايين المتوزعين بين المستفيدين من الشكل المتهتك الحالي للمجتمع الأوروبي، أو المقتنعين بأن أي أضرار جانبية هي مجرد فواتير إجبارية يجب دفعها في سبيل الحفاظ على حريات الناس، التي يجب عدم المساس بها.
بعد قرابة القرن من تبني مشاريع الحداثة، المتعلقة بجعل كل الانحرافات مباحة، فإنه ثبت لكثيرين، أن هذه الإباحية لا تحقق السعادة، ولا تجعل المجتمعات أكثر أمناً
يستفيد معارضو هذا التيار أيضاً من كونه مربوطاً باليمين المتطرف، وهذا أمر كاف لتشويهه وجعل الناس ينفضون من حوله. لسوء الحظ، فإن برنامج «المحافظين» الأوروبيين لا يقتصر على المسائل الأخلاقية ومحاولة استعادة الوجه المتدين لأوروبا، وهي أمور كان بإمكانها أن تجلب اتفاق الكثيرين، لكنه يشمل أيضاً الانكفاء ومعاداة الأجانب والتحالف مع دول ينظر إليها كثير من السياسيين الأوروبيين بتشكك، كروسيا. مع ما تشير إليه الاستطلاعات من اقتراب الرئيس دونالد ترامب من العودة للبيت الأبيض، يخشى كثيرون من أن يمنح ذلك الكثير من الدعم للتيار اليميني الأوروبي، الذي يتشارك مع جمهور ترامب في السعي لاستعادة المرأة لصورتها القديمة، كأم وكربة منزل، وهي الصورة التي يأملون أن تحل محل المرأة الحداثية، التي تجبر على العمل من أجل كسب رزقها. من المشتركات، التي يمكن أن يحدث فيها تنسيق بين اليمينيين في شطري الأطلسي موضوع المثلية، التي أصبح دعمها وتشجيعها جزءاً من السياسات الغربية، التي لا تكتفي بأن تكون متبناة داخلياً، بل تمتد أكثر من ذلك لتصبح من أهم سمات السياسة الخارجية، خاصة بالنسبة لأوروبا، التي تمارس دولها ضغوطاً لا تخفى في هذا الإطار على حكام دول الجنوب.
التأثر بالناشطين والمؤثرين الرافضين لـ»القيم الغربية» لم ينتظر وصول ترامب، حيث تجد أسماء ناشطة في مجال نقد الأفكار النسوية الملايين من المتابعين، كما أنه يظهر بين يوم وآخر المزيد من الأسماء الجديدة، التي تعرض قضايا ملحة من قبل الفوضى الظاهرة في تصنيف النوع تحت مسوغ حرية الاختيار. اليوم يمكن لأي رجل أن يدعي أنه امرأة بغض النظر عن مظهره الخارجي، فيمارس الرياضة منافساً السيدات، أو يطلب أن يسجن في سجن النساء، من دون أن يمنعه أحد، وفق قاعدة تقول، إنه ليس من حق أحد أن يمنح الآخرين تصنيفاً، وإن هذا التصنيف هو أمر خاص وشخصي ولا ينطلق إلا من تعريف كل شخص لنفسه. من المسائل الأخرى، التي تشهد حرباً ضروساً بين المعسكرين الأخلاقي/ اليميني والليبرالي/اليساري مسألة الحق في الإجهاض، فبينما يرى الفريق الأول أن الإجهاض ليس سوى جريمة قتل، يرى الفريق الثاني أن من حق النساء اختيار أن يكن أمهات أو لا. في دول أوروبية مثل بولندا وإيطاليا، التي ما تزال القيم الدينية فيها تحظى ببعض الاحترام، تظل مسألة الإجهاض مرفوضة ليس فقط شعبياً، ولكن أيضاً سياسياً. في قمة مجموعة السبع الكبار الأخيرة أعلنت الإيطالية ميلوني رفضها الموافقة على ما يسمى الحق في الإجهاض، ما أثار حنق مسؤولين آخرين من أبرزهم الرئيس الفرنسي ماكرون.
تذكر حركات الرفض الأوروبية بما يحدث في الولايات المتحدة، حيث يتجمع ناشطون رافضون أمام عيادات الإجهاض معبرين عن استيائهم. في تلك التجمعات يتحدث بعض المتدينين بميكروفونات بصوت عالٍ منددين بهذا الفعل «الشيطاني»، المتعارض مع القيم المسيحية، وناعتين بكل الصفات النساء اللواتي يدخلن إلى هذه العيادات مع رفع لافتات من قبيل: لا تقتلي طفلك. موضوع الإجهاض يظل على رأس الأجندة الانتخابية في الولايات المتحدة، ويمثل أحد الفوارق بين دونالد ترامب، الذي يمثل المحافظة والقيم الدينية الرافضة، وكامالا هاريس، التي تمثل الليبرالية وقيم اليسار الجديد المؤيدة لخيار التخلص من المواليد.
كاتب سوداني
السينما، كقوة ناعمة مؤثرة، قد لا تكون بعيدة عن اللوبيات الداعمة لأيديولوجيا الجندر، إذ يبدو أنها استجابت لها بتبني سرديات جديدة تعكس هذا التوجه. فشخصيات ال Manly man التقليدية في السينما استُنفِدت إلى حد كبير، حيث لم تعد تثير الحماسة بنفس القدر كما في الماضي، ويبدو أن هذا النقص في الجديد القابل للتقديم قد أعطى اللوبيات الداعمة للتوجهات الجندرية مساحةً لتعزيز أيديولوجياتها، لتجد الصناعة السينمائية نفسها أمام خيارين: إما الاستمرار في إعادة تدوير شخصيات مستهلكة، أو الانتقال نحو نموذج يعكس التوجهات الجندرية الحديثة. ومع هذا التحول، تجد اللوبيات الداعمة لأيديولوجيا الجندر فرصة لدفع سردياتها إلى واجهة المشهد الثقافي، عبر توجيه الجمهور نحو أدوار جديدة تمثل التنوع والشمول. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا التوجه يعكس بالفعل طلبًا جماهيريًا حقيقياً، أم أننا أمام حالة تضخيم لموجة عابرة تخلق انطباعًا بتغيير مجتمعي واسع؟ هذا الريبراندينغ للشخصيات السينمائية، بدافع سد فراغ إبداعي وإيجاد جمهور جديد، قد يكون ناجحًا تجاريًا، لكنه لا يعكس بالضرورة نزعة اجتماعية عامة.
…فتصور الجمهور لل “Manly Man” لم يتغير بشكل جذري، وما يزال هناك تقدير كبير لشخصيات “الرجل الرجولي” التي تتمتع بالوسامة، والقوة، والكاريزما. ومع ذلك، قد يكون هناك تحدٍ في العثور على ممثلين يتناسبون مع هذه الصفات في الوقت الحالي. في فترة سابقة، كان هناك شعور واضح بالفرق بين الممثلين مثل فان دام وستالون وسيغال، حيث كان لكل منهم أسلوبه الخاص وشخصيته الفريدة. لكن في الوقت الراهن، قد يكون من الصعب تحديد تلك الفروق بوضوح، مما يجعل من الضروري للممثل الجديد أن يقدم شيئًا مميزًا يجعله يتفوق على الآخرين…(تتمة)
…يمكن أن نأخذ مثال شخصية جيمس بوند، التي تمثل نموذجًا كلاسيكيًا للـ “Manly man” في السينما. أصبح الجمهور اليوم أكثر انتقائية وصارمًا في اختياره لمن يمثل بوند المقبل، فكل ممثل جديد يُطرح للدور يخضع لعملية فحص دقيقة: فهذا وجهه يبدو طفوليًا، وذاك صوته ناعم لا يليق بشخصية بوند الصلبة، وآخر يفتقر للجاذبية الكاريزمية التي تُعتبر من أسس الشخصية، ثم هناك من لا يُتصور وهو يؤدي مشاهد القتال، بينما يُرفض آخرون لميولهم الجنسية. هذا المستوى العالي من التطلب يعكس فعلاً عمق ارتباط الجمهور بنموذج “Manly man” الذي اعتادوه في بوند، ويضع صناع السينما في تحدٍ حقيقي، إذ ليس سهلاً العثور على ممثل يحقق التوازن بين الأناقة، والقوة، والحضور الجاذب، والمهارات القتالية، وربما مهارات أخرى تبهر الجمهور وتضيف للشخصية، بينما يبقى أيضًا وفيًا للجوهر التقليدي لشخصية بوند المعتادة…(تتمة)
…في ظل صعوبة تحقيق التجديد و الابتكار في تقديم هذه الشخصيات بشكل جديد ومتميز عن غيرها، يصبح نموذج “Manly man” في خطر. إن عدم القدرة على تزويد هذه الشخصيات بسمات جديدة تبرز تفردها يفتح المجال لللوبيات لدفع التوجهات المجتمعية نحو جعلها أقل تطلبًا في مواصفات “Manly man”. هذا التحول قد يؤثر على كيفية تصوير الشخصيات الرجولية في السينما، مما قد يساهم في تقليص المعايير التي اعتاد عليها الجمهور.