طالعت المقال الذي نشره الكاتب نذير عبد الله ملكاوي في «القدس العربي» بتاريخ الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول المنصرم، بعنوان «حرب فاتنة بين سارة الشمري وإبراهيم نصر الله» موجهاً لي فيه انتقاداتٍ كثيرةً على مقالي «نموذج النسوية بين التنميط والتعميم والتعامل الفئوي. إلى سارة الشمري. ماذا لو هدأتِ قليلاً؟».
قرأت المقال أكثر من مرة، لم أنزعج أبداً من كمّ السخرية الهائل الذي وجهه لي الكاتب، المقترن بالاستعراض الثقافي الواضح، والاستحضار التاريخي للتراث في كل موضعٍ، سواء اقتضته الضرورة أم لا. قلت لا بأس. ربما الرجل مغرمٌ بالتاريخ، أو التراث، وهذه هي «الأسلوبية» التي تفرق بين كاتبٍ وآخر في النهاية. لم أغضب من قوله «الحقيقة أنك (يقصدني) لم تقرأ في حياتك أي دراسة نسوية، ولا أي كلمة». إنما اندهشت فقط، من مدى اليقين الجازم الذي يصدر به الأحكام، وقطعيته المطلقة في ثقته بما يرى في تخطئةِ الآخر، على عكس ما يفترض التحليل العلمي والمنهجية المحكمة في تناول أي ظاهرة، وهو ما أحاول سلكه دوماً في قراءاتي النقدية وتحليلي للنصوص والأفكار معاً بقدر الإمكان.
يقول الكاتب «شعرتُ بأن «هستيريا النساء» تلبستني دونما إرادة مني. دبت الحماسة فيّ، ثم تساءلتُ ما الذي يمكن أن أضيفه لتستمر جذوة هذه الحرب الفاتنة بالاشتعال». هذا الاعتراف الذي بدأ به مقاله يكشف مسبقاً أنه لا ينتصر لقضية أو لموضوع، إنما فقط يريد أن تبقى هذه «الحرب» مستمرة! والحقيقة أنني أرى أن مجرد حضور الـ«هيستريا» يلغي الطرح المنطقي المتراتب لتحليل القضايا الثقافية التي يفرضها الواقع العربي، فالمفترض أننا نناقش قضايا وظواهر بعينها، وكذلك ونحن نقوم بهذا الفعل «الثقافي» ـ نحلل جوانب المجتمع والعوامل المؤثرة في الفرد، وقد تتغير الآراء أو يتم تعديلها «وفق الموضوعية المتبعة» باعتبار أن الهدف هو البحث عن الحقيقة تبعاً للمنطقية الحاكمة، وليس إظهار طرف أنه على صواب مقابل «تسفيه وشيطنة» الآخر. أظن أن علوم واتجاهات النقد الحديث تجاوزت هذا المنطق البدائي ـ صواب رأي شخصٍ يعني خطأ الآخر ـ منذ إقرار أبي حنيفة النعمان «ها هو التراث حضر أيضاً». إن رأيه صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب، ومن ثم فإنني أؤكد ترحيبي بأي حوار أو نقاش في إطار الموضوع، والقضية الرئيسية التي بدأ منها الحوار بين إبرهيم نصر الله وسارة الشمري، الذي في سياقه جاء ردي عليهما؛ حيثُ يتحاورُ جانبٌ منهُ مع فكرة «هل الدفاع عن النماذج السيئة يعدُ نضالاً عن قضايا المرأة؟» أما غير ذلك فخارج دائرة الفكرة التي اشتغلت عليها، ولا أتصور أنه يدخل في دائرة اهتمامي.
ما يمكن استخراجه من مقال نذير ملكاوي، أربع نقاط جوهرية، سأختار أكثرها إدهاشاً بالنسبة لي لأحاول تحليلها (أو فهمها على الأقل) النقطة الأولى في قوله: «إن العالم الإنساني الذي تسعى وراءه (يقصدني) خارج نطاق رؤيتك. ليس ثمة سوى هذا العالم، وهو عالم مليء بالساقطات والمدمنات، التي تود إقصاءهن عن الأدب، كي لا يُتنازَلَ «عن القيمة الفنية الأدبية في بنائية العمل». أنتَ تؤسس لعالم مليء بالقيم والأخلاق والإنسانية، لكنه عالم ليس فيه سوى الرجال. لم تحرق النسويات فحسب عزيزي حمزة، أنتَ أحرقتَ النساء قاطبة، بل حتى أحرقتَ رجالًا كما تولستوي، الذي كتب «آنا كارينينا». لا أعرف إن كانت نساء عالمنا العربي سيقبلن وصف (نذير) لهن بتمثلهن في الأعمال الروائية ـ قاطبةً ـ بأنهن حفنة من الساقطات والمدمنات؟ ولا أعرف إن كان هذا هو ما تسعى إليه النسويات العربيات أن يظهرن النساء العربيات؟ لكنها ليست الصورة التي عند نوال السعداوي، ورضوى عاشور أو سحر خليفة؛ فلو أنك أكملت في هذا الخط يا سيد نذير، فأنت في الحقيقة تحرق المجتمع العربي كله، وتحرق نفسك أيضاً، كنت أظن أننا نتحدث عن المرأة المنتجة والمخترعة والعالمة والمناضلة والمناصرة لقضايا وطنها العربي، والباحثة عن حرية المجتمع، وعن حقوق الإنسان، وعن إتاحة الفرصة «بعدالة» أمام النساء حتى يحققن ذواتهن، أو حتى عن المرأة المظلومة التي اضطرت لبيع جسدها لتقتات، أو حتى المفتقدة للحب وغير القادرة على تحقيقه، بسبب القهر والقسر والعنف، أو غيرها من الصور العديدة للمرأة وهي واقعة تحت الظلمِ الاجتماعي الذكوري.
اتضح لي هنا أن النسوية التي أعرفها غير التي يعرفها الأستاذ ملكاوي! فالنسوية التي أعرفها هي التي تنتقد فيها مارلين فرينتش الأدب الإباحي، وتنتقد تصوير المرأة بوصفها شبِقةً باحثةً عن الجِنس، وهي التي توضح فيها جوليا كريستيفا ضرورة المساواة بين الرجل والمرأة في استخدام الصور والشيفرات والعلامات والدلالات في أدبِ كُلٍ منهما.
كنت أظن أننا نحاول أن نجعلهنَّ يُحقّقنَ ذواتهن في خدمة المجتمع، لا في الدعارة والإدمان، ومثل كل القضايا والأفكار في الكون من حولنا.. أعرفُ أن كل ما في العالم من ظواهر نسبي، وأن هناك في هذا الكون الرائعات، وهناك الساقطات، والمدمنات، لكن أظن أن واجب الكاتب أو المفكر أن يحاول انتشال المدمنات من الإدمان، والساقطات من التجارة بالجسد، بالمناسبة: أليست المرأة الساقطة هي أيضاً ضحية مجتمع ذكوري؟ وحتى لو كانت ساقطةً من أجلِ مُتعتِها، أليسَ النظام الذكوري (فكراً وتطبيقاً وترسيخاً مؤسسياً) هو الذي لم يوجِد لها العدالة التي تمكنها من الحصول على متعتها بشكلٍ لا يجعلُها آثمة؟
اتضح لي هنا أن النسوية التي أعرفها غير التي يعرفها الأستاذ ملكاوي! فالنسوية التي أعرفها هي التي تنتقد فيها مارلين فرينتش الأدب الإباحي، وتنتقد تصوير المرأة بوصفها شبِقةً باحثةً عن الجِنس، وهي التي توضح فيها جوليا كريستيفا ضرورة المساواة بين الرجل والمرأة في استخدام الصور والشيفرات والعلامات والدلالات في أدبِ كُلٍ منهما، وهي التي تدعو فيها الكاتبة كاثرين سيمبسون إلى مواجهة منابع الإحباط والقهر والضياع التي تعانيها المرأة، وهي التي ترى فيها ناعومي وولف أن تصويرَ المرأة بوصفها مصدراً للمتعة، أو حتى مصدراً للجمالِ والفتنة، هو خدعةٌ أوجدها الرجال لغواية النساء، والنسوية التي أعرفها هي التي ترفض فيها كاثرين موراي ميليت رؤية النساء بوصفهنّ مُحباتٍ للصفاتِ السلبية والسيئة، بل ترى فكرةَ أن الرجال محبون للسلامِ وللأخلاقيات العظيمة، بينما إظهار السيدات كمُحباتٍ للحروب وللفتنة والإغواء وغيرها من السماتِ السلبية، هي من الأمور التي يجب مناهضتها بشدة في الأدب، سواء أنتجه الرجال أو الذكور. النسوية التي أعرفها أيضاً هي التي تدعو فيها الناقدة إيلين شولتر إلى مراجعةِ الصورة التي يكتبها الرجال عن النساء، وهي التي تحذر فيها ماري إيغلتون من اعتمادِ النصوص التي قد تعجب المرأة، في حين أنها قد تشوه صورتها، على أنها نصوصٌ نسويةٌ أو مطالبُ نسويةٌ حتى لو أعجبت بعض النساء ذاتهن.
هذا ما أعرفه عن النسوية، بينما أنت يا أستاذ نذير تطالب باستيعاب صورة المرأة على أنها ـ لم أجد لها توصيفاً غير ذلك ـ منحلةٌ ومدمنةٌ وساقطةٌ (على طول الخط وفي معظم تجلياتها الواقعية في الحضور الروائي) وأتصور أنه من حقي أن أتساءل: من هي كاتبة النسوية في النظرية الغربية التي طالبت أن يتم تصوير المرأة على أنها ساقطة ومدمنة؟ وأن هذا يُعدُ انتصاراً لها على الرؤية الذكورية؟ وأياً منهن قالت إن مثل هذا الفعل يقضي على نظرية «حسد القضيب» ويعيد للمرأة صورتها الطبيعية كإنسان لا «كرجل منقوص»؟ أليست هذه هي ذات الرؤية الذكورية للمرأة التي نناهضها جميعاً؟ ربما أناهضها من منظورٍ إنسانيٍّ عام وليس نسوياً، لكن الأدب ـ الذي أعرفه والثقافة التي أعرفها ـ يؤسسانِ لعالمٍ سَوّيٍ، عالم تسودُ فيه الأخلاق والقيم الإنسانية، وإلا لماذا نكتب من أساسه؟ الإدمان والدعارة ليسا بحاجةٍ إلى كتابةٍ وأدبٍ وثقافة لينتشرا، وأظنهما نقيضي الثقافة والتحضر والمدنية. وهذا تصوري على الأقل.
أليست النظرة للنساء على أنهن ساقطات هي ما ترفضه النسويات في مبررات المتحرشين! فماذا أيضاً عندما يصبحن مدمنات؟ مجرد سؤال سوسيولوجي.
النقطة الثانية عندما يقول الكاتب «إن هناك أدباً كاملاً اسمه أدب السخرية» فأنا أراه ذريعةً يُقدمها لاستمرار الطابع الساخر، بل والمستهزئ للأسف، لمقاله، أظننا في القرن الواحد والعشرين قد تخطينا ذلك اللون من الأدب، في عصر التحليل المنطقي المستند إلى الأسس الموضوعية، ولا أراه مناسبا لثقافتنا الراهنة. وكم تمنيت لو وجدت في المقال ما يُقدّم تحديثاً أستفيد منه في نظرية النسوية تنظيراً أو تطبيقاً، أو حتى إيراداً لرأي أيٍّ من الكاتبين، مناط مقالي السابق، للإضاءة – وفق نظر الكاتب- على وجهة نظريهما في تناول النموذج النسوي في أعمالهما، سيميائياً أو تداولياً أو واقعياً أو سوسيولوجياً، أو دحضها من أصلها وفق مرجعية ضابطة.. غير أنني لم أجد.
أما النقطة الثالثة ففي قوله: «لو لم تكن قد قرأت الجملتين مجددًا فاقرأ هذا التساؤل معهما: «فهل كل المطلوب مجرد تغيير نظرة الرجال للسيدات السيئات؟». سأقول لكَ ما لم تقله سارة الشمري: علينا، نحن الرجال، أن نتوقف عن النظر».
وأقول للكاتب: إذا كان هذا ما تؤمن به، فلماذا لم تتوقف أنت عن النظر؟ لماذا كتبت هذا المقال إذن؟ إذا كان طلبك أننا كمعشر الرجال علينا أن نخرج أنفسنا من دائرة النظر للمرأة، ونترك للمرأة أن تحدد لنفسها النظرة المطلوبة، ودائرة الممارسة التي تراها، فبأي صفة ترد أنت ووفق أي اعتبار؟ ومن أي وجهة نظر تتحدث؟ إنني أؤمن بأنّ تحديد النظرة لأي فئة اجتماعية، توجهها عوامل كثيرة غير تحديد طبقة لطبقة أو فئة لفئة، فهناك دائماً تداخل بين الثقافات الداخلية والهامشي والرئيسي، غير أن هذا الموضوع ليس نطاق الخوض فيه هنا، كان يمكن (بكل موضوعيةٍ وتجرُّد)أن أتناول ذلك لو جاء ردي على مقالٍ علمي منهجي لا أدباً ساخراً.
النقطة الرابعة في قول الكاتب: «ليس المُراد الاستعراض هنا، بل تأكيد ما جاءت به سارة الشمري في مقالها، والذي لا أفهم كيف له أن يكون بهذه الصعوبة: سواء أكتبتَ «شخصيات (نسائية) رائعة بكل معنى الكلمة» في رواية، أم كتبت شخصيات نسائية «سيئة من المنظور الاجتماعي» في رواية أخرى، فالأمر سيان، الخلاف أن تفرض صورة واحدة براقة للمرأة، في الوقتِ ذاته الذي تتساءل أنت فيه: «وهل يعقل أنه عندما يطرح أي أديب أو كاتب نموذجاً سيئاً لفئةٍ اجتماعيةٍ ما، أن يتم التعامل مع هذا النموذج على إنه إساءة وإهانة لجميع عناصر هذه الفئة؟ ألا يوجد في كل الفئات الجيد والرديء؟» والحقيقة إنني أقف هنا مندهشاً من الكاتب.. ألهذه الدرجة يتمُ ليُ عُنقِ الكلام؟ هل يفترض أن القارئ لمجرد أنه وجد بعض تطعيمات بأسماء كُتّابٍ من التراث يفترض أن يُشكَل عليه الأمر أو يُخدع؟ لماذا هذا الاستخفاف بعقلية القارئ؟ إذا كنت تقر أنه يجب عدم فرض صورة محددة للمرأة ـ رغم أنك فرضت الإدمان مثلاً ـ والمهم أن نكتب عن معاناة المرأة وليس وصفها بصورة واحدة، فلماذا تنتقد مطالبتنا بذلك؟ وكان الروائي إبراهيم نصر الله قد نبّه في مقاله إلى خطأٍ تقع فيه بعض النسويات؛ أنهن حتّى لا يقبلنَ إظهارَ نموذجٍ للمرأة غير التي يردنها؟
أقول للكاتب نذير: في نقطتك الختامية هذه هدمت كامل مقالك وناقضت أفكارك، ربما تتوقع ألا يقرأ القارئ المقالات السابقة لكلٍ من الكاتبين إبراهيم نصر الله وسارة الشمري (ومقالي أيضاً السابق التنويه به) وسيُصدّقك، لكنك تقدم أمراً «مبهراً في التناقض» داخل مقالكَ نفسه لا تخطئه العين.
ما أود توضيحه أخيراً، أنني لست مستعداً لمواصلة النقاش سوى حول (جوهر الموضوع) النسوية، وتجلياتها، وتطبيقاتها، وانزياحاتها المعيارية، وتاريخها ودراساتها المقارنة، وفق «مرجعية ضابطة» وأسس مفاهيمية موحدة أكاديمياً ومعرفياً. أما ما سوى ذلك فلا أراه مما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
شاعر وأكاديمي مصري