حادثة تحطم المروحية، التي كانت تقل الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، هي من النوع الذي يتفلت فيه وقعها وتداعياتها عن تقصي الأسباب. بل لعلها من النوع الذي يصير فيه الحدث علة لنفسه شيئاً بعد شيء. ويغدو السبب بلا طائل لأنه لا سبيل إليه. فيختلط النقص في المعلومات مع تزاحم الاحتمالات وتشتتها. ويحضر شبه اليقين من أن معرفة ما حصل على وجه الدقة ليست بالمتناول، مع المكابرة على المجهول، والمبادرة لتجيير هذا المجهول سواء إلى «غيب» أو إلى «عدم».
هي من جملة الحوادث التي ليس للتحليل السياسي الصرف، ولا للتحليل التقني الصرف، الكثير ليقوله بصددها. ليس سوى تكرار تثاؤبات «ربما» وأخواتها. قضاء وقدر؟ عبث الأقدار؟ سكرة اللعنات؟ امتحان وشدة؟ حظ سيء؟ اغتيال؟ مكيدة؟ تأخر تكنولوجي؟ تسيب إداري؟ الموساد؟ جهاز آخر؟ جناح ضد جناح؟ المعارضة المسلحة؟ تقاطع؟ ربما… ربما.
لكن السؤال هو بالأحرى عن الحمولة الزائدة من «الربما» هذه، بكل مندرجاتها، الحمولة الزائدة الذي يستوجب على إيران تدبرها من الآن فصاعداً. أي ما يحويه الحدث من قنبلة موقوتة، قنبلة من الريبة والارتياب، من وعي الهشاشة التي تنتاب الهيكل كله، والمبادرة رأساً الى محاولة طمسها، أو تأجيل استحقاق صيانتها.
تفكيك قنبلة الارتياب هذه ليس بالأمر السهل. ثمة رئيس، ووزير خارجية، فُقِد أثرُهما في شواهق الجبال ليلة كاملة، وذهبت الأمور إلى الانقباض وحبس الأنفاس هنا، أو إلى الهرج والمرج هناك. ومع هذا، ما شعر الناس في دولة رئيس الجمهورية هو رأس سلطتها التنفيذية من الناحية الدستورية، بأي فراغ مؤسسي.
ليس لأن دولة القانون والحقوق والمؤسسات «كاملة من مجاميعه» فيها، بل لأن ثمة مؤسسة «فوق مؤسسية» بطبيعتها، هي ولاية الفقيه، وثمة قائد هو فوق الرئيس منزلة، إمبراطور في ثوب رجل دين (أو العكس) هو «المرشد».
من ناحية اللعبة الدستورية، أو كما كانت تُسمى في تاريخ أم الثورات الإيرانية مطلع القرن الماضي: «المشروطة» وهذه تعريب أو تفريس للفظ الذي يفيد الميثاق في اللغات الأوروبية، يلاقي المعنى العربي للشرط.
العقد الدستوري بهذا المعنى مجموعة من الشروط المتبادلة. والحكم ضمن هذا العقد مشروط بموافقة هذه البنود والتقيد بها. من هنا، عنت «المشروطة» أنصار الحراك الدستوري في مقابل «المستبدة» أي أنصار الحكم المطلق. وبعد أن حارت إيران طيلة القرن العشرين، هل تذهب إلى «المشروطة» أو إلى «المستبدة» خرج النظام الإسلامي فيها بنموذج له طابقان: السفلي متروك للمشروطة، والعُلوي للمستبدة.
تخيل كيف كانت الحال لتكون في أي بلد آخر، ليس فوق نطاقه الدستوري (المشروطة) من نطاق متروك «للمستبدة». أو يميل نظامه إما لهذه وإما لتلك. تخيل في الحالتين أن يفقد هذا النظام رئيسه ووزير خارجيته في الجو فجأة فوق منطقة نائية أو وعرة. كان ليكون الاضطراب أوسع لو حدث الأمر في أي بلد آخر، لو كان ديمقراطياً أو ديكتاتورياً نظام الحكم فيه.
بوفاة إبراهيم رئيسي اكتملت نماذج القادة المحافظين الإيرانيين المعاونين للمرشد
تخيل لو اختفى هكذا نارندره مودي في الهيملايا، أو شي جينبينغ في الصين، أو ايمانويل ماكرون في فرنسا رفقة وزير خارجية مع كل واحد من هؤلاء أيضاً. بالتالي: في إيران الأمر تحت السيطرة أكثر. لا قلق بالمباشر. ثمة المرشد وثمة الحرس الثوري. لا فراغ في إيران ولو فُقد رئيسها ووزير الخارجية ليلة كاملة قبل النجاح في تحديد موقع تحطم الطائرة.
في معجم الحداثة السياسية، رأس السلطة التنفيذية يُفترض تخيله على أنه كائن، «اعتبارياً» لا ينام. بل «يسهر على أمن الوطن وسلامة أراضيه». في إيران، حتى ولو جاء رئيس الجمهورية ووزير الخارجية من النخاع الشوكي للنظام، فإن مجاز «السهر السيادي» هذا، متروك من الأساس للمرشد والحرس.
بالتالي، السؤال عمّن يخلف إبراهيم رئيسي اليوم لم يعد محصوراً بمن يجيزه المرشد ومن لا يسمح له بالترشح للسباق، بل يتصل مباشراً بمن يخلف رئيسي في إثر لحظة ظهر فيها أن مؤسسة الرئاسة في إيران ورأس الدبلوماسية فيها يمكن إضاعتهما في الجبال ليوم كامل دون أن يعيش البلد فعلياً تجربة «فراغ» من أي نوع.
عدم قدرة إيران الخمينية (أو «ما بعد الخمينية» لأنه ربما يكون قد آن الأوان لتمييز الخامنائية كتجربة مزمنة تتصف بمحددات مغايرة) على عيش الفراغ الدستوري فعلياً، ولو فقد رئيسها ووزير خارجيته ثم جرى التثبت من مصرعهما، هو من جملة ما يزيد من شحنة الارتياب في القنبلة الموقوتة.
لقد قدّم النظام الإسلامي المنبثق عن الثورة الإيرانية – أو المستند بالنسبة إلى السردية الأخرى الى تحوير مسار هذه الثورة – نفسه على أنه قادر على الجمع بين لغتين، واحدة دنيوية الثقل وثانية أخروية الوجهة. واحدة يضمنها تعريفاته لنفسه كثورة جماهيرية ومن بعدها كنظام منبثق منها للحفاظ على تركتها ومكاسبها والمضي بها قدماً، وكجمهورية لها دستور يوزع السلطات والصلاحيات، ولها رئيس منتخب، بالاقتراع المباشر، وبرلمان، وثانية يضمن فيها هذه التعريفات ما يربط، في منظاره العقائدي، الأرض بالسماء، والظاهر بالباطن، والدنيا بالآخرة، الغيبة بالظهور.
لم يبخل الواقع في المقابل بتحديات فرضت على قدرة هذا النظام إجادة لغتين في وقت واحد. حادثة الطائرة واحدة من أخطر التحديات في تاريخ هذا النظام. وعلى مستوى اللغتين الواقع هذا، وذاك الآتي.
كما أنها حادثة جاءت ترمز إلى انقضاء أجل أربعة نماذج من المحافظين أيديولوجيا في إيران: فبعد انقضاء نموذج المحافظ الشعبوي، مع محمود أحمدي نجاد، والمحافظ المعتدل مع حسن روحاني، والمحافظ البونابرتي مع قاسم سليماني، حضر نموذج «المحافظ الدوبل» إنما غير الشعبوي، ولا البونابرتي، ولا المازج محافظته بأي مسحة اعتدال، ولقي حتفه في سهوة طائرة عن مناخ، أو مناخ عن طائرة.
من التسرع منذ الآن تسليط الضوء على نجل المرشد، مجتبى وحظوظه في الوراثة. فالسؤال بات الآن، أكثر من ذي قبل: وراثة ماذا بالضبط؟ فالثورة الإيرانية من عام 1979 قامت أساساً ضد سلالة لم يتعاقب عليها سوى إثنين: رضا بهلوي، ثم نجله. ثمة وازع «جمهوري» يفترض، حيال محاكاة هذا التكرار الشاهنشاهي. بالتالي هل الحديث عن وراثة الجمهورية أو عن وراثة البهلوية نفسها، ولو في ثوب حرسي؟ مجتبى إنْ ورث لن يرث أباه فقط. سيرث الشاهية أيضاً.
قبل الانصراف إلى حديث الخلافة: هل فعلاً سوف يكون من مرشد ثالث بعد خميني وخامنئي؟ لا بأس هنا بافتراض متروك للسنوات المقبلة: مصرع رئيسي يزيد من صعوبة استمرار المؤسسة فوق المؤسسية في إيران بالشكل الذي عرفناها فيه منذ أربعة عقود. التحول في معنى الإرشاد والولاية هو الاستحقاق الذي لن يكون بمستطاع إيران دوام تأجيله.
بوفاة إبراهيم رئيسي اكتملت نماذج القادة المحافظين الإيرانيين المعاونين للمرشد. ليس من الاستحالة «طباعتها مجدداً» وإن كان الراجح الاتيان بوجوه باهتة أكثر. يمكن وصم رئيسي بكل شيء، لكنه لم يكن باهتاً. كان متشدداً نعم، قمعياً بضراوة لأحرار إيران، نعم. لكنه لم يكن باهتاً. مع ذلك فلحظة وفاته ألحقت البهتان بنموذج الجمهورية الثيو – حرسية القائم في إيران ككل.
من الصعوبة بمكان إيجاد طابع مختلف للمحافظة، غير نجاد وروحاني وسليماني ورئيسي. من الصعوبة اقناع أخصام المحافظين في إيران من أن سقوط الطائرة ليست «كلمة سر تاريخانية» معطاة لهم للتحرك مجدداً في وثبة انشقاق جديدة.
كاتب من لبنان
مقال يحمل تحليلا دقيقا…… والحقيقة أن إيران هي مثل (إسرائيل) تماما في إنتاج الكذب بكميات مهولة، تصنع لنفسها أعداء كثر، تحتقر الآخرين خاصة من المستضعفين، وفي اللحظات الحاسمة تفشل في حماية رموزها وتطلق النار على رجليها. واللهم لا شماتة!
امريكا فقدت F35 و بعد يومين وجدتها و الجبال كانت ضبابي و الطقس ما يسمح الطيران و بعد طلوع الفجر مسيرات ايرانية و لاغير وجدت حطام المروحية اما السيد رئيسي كان مقبول من قبل الشعب و زادت شعبيته بعد شهادته أما الحديث عن استخلاف مجتبى خامنئي فهذه الكلام ليست صحيحة و الكلام كلام قنوات ضد ايرانية و من يعرف نظام الحكم في ايران يدرى هذه الكلام كلام فاضي
شكراً أخي وسام سعادة. دكرني بشدة حادث تحطم طائرة رئيسي بحادث السيارة الذي أودى بحياة ابن حافظ الأسد باسل الذي تم تحضيره يومها بعناية لأن بكون “ولي العهد” في الجمهورية! التي تسلط عليها حافظ الأسد. في الحقيقة التشابه كبير كالتحضير لخلافة خامئني مثلاً، ويوم حادث باسل كان المفروض أن يعود التظام السوري والأسد نفسه إلى الذات واتخاذ طريق الرشد لأن الأقدار عادة تعلم الناي الكثير من الحكمة. وكما نعلم تشبث النظام والأسد بقرار الخلافة وهذا كما تبين فيما بعد حماقة مابعدها حماقة أوصلت إلى تدمير سوريا وحرقوا البلد!. السؤال بالطبع ماذا سيفعل النظام الإيراني وهل ستغلب الحكمة على النظام الإيراني بعد ماحصل وإن كنا لانعلم هل ماحدث هو تدبير أو اغتيال أم بالفعل حادث! كما يبدو حتى الأن.
الثابت في المتن و المتحرك في الحواشي. أما متى ينهار المتن،؟ لاشيئ يبقى للابد حتى الابد نفسه . لكن الأرجح أنه ثابت وأثبت من الأنظمة المجاورة له.