كلما ذكر البحر الأبيض المتوسط أمام العارفين بالجغرافيا، تتبادر إلى الأذهان بالأساس كل من تونس وإيطاليا، باعتبارهما قلب هذا البحر الأسطوري النابض ومن يشطره إلى حوضين، واحد شرقي وآخر غربي. وباعتبارهما المشرفين الوحيدين، من بين جميع البلدان المتوسطية، على هذين الحوضين وعلى كل أشكال التفاعل بينهما عبر مضيق صقلية التاريخي الذي شهد أهم صراعات قرطاج وروما.. ومثلما اعتبر هيرودوت الإغريقي أن مصر هي هبة النيل، قال غيره إن قرطاج أو تونس هي هبة المتوسط ولولاه لما كانت.
وقد لعبت الخضراء دورها كما يجب في البحر المتوسطي خلال العصر القرطاجي ونشرت حضارتها في ربوعه والشواهد ماثلة إلى اليوم في أكثر من مكان في الأراضي المحيطة بهذا البحر الأسطوري وخصوصا في شبه الجزيرة الإيبيرية وجنوب فرنسا وصقلية. وتفوقت قرطاج بداية على الإغريق في السيطرة على المتوسط تجاريا وعسكريا ولاحقا على الرومان وخاضت مع كليهما حروبا ومعارك لا تحصى، إلى أن تراجعت هذه «الجمهورية الإمبراطورية» القرطاجية ووهنت فاغتنمت روما الفرصة لإصابتها في مقتل فأجهزت عليها وهيمنت منفردة على الحوض المتوسطي.
وإذا استثنينا بعض الفترات المضيئة في تاريخ تونس على غرار عهد دولة الأغالبة في القيروان الذي أعاد فيه أسد بن الفرات جزيرة صقلية لسيادة بني الأغلب الذين بسطوا نفوذهم مجددا على المضيق، أو عهد حمودة باشا الحسيني في بداية القرن التاسع عشر والذي ركعت له البندقية وأجبرها على صلح مذل، وهيمن على حركتي الملاحة والقرصنة في قلب المتوسط، فإنه ومنذ سقوط قرطاج وتونس دولة «مفعول بها» في بحرها الأزوردي. فقد واكبنا مرحلة الصراع العثماني الإسباني على المتوسط في القرن السادس عشر للميلاد في ظل حكم الحفصيين ولم يكن لنا أي دور يذكر، بل تحولت بلادنا إلى مطمع للقوتين اللتين تكالبتا على احتلالنا من أجل المضيق بتعلات واهية. واحتلتنا فرنسا ذات ربيع مشؤوم أواخر القرن قبل الماضي من أجل موقعنا في المتوسط ورغبة في السيطرة على مضيق صقلية ومحيطه في بنزرت وغيرها..
واليوم يتصارع الأتراك واليونانيون والفرنسيون والمصريون والصهاينة وغيرهم على ثروات المتوسط، ويبرم بعضهم اتفاقيات الهيمنة والاستغلال على تخومنا، ونحن أهل الدار ومن يستوطن قلب هذا البحر النابض لا حياة لنا. وكأن المتوسط هذا هو بحر قصي لا يعنينا في شيء أمنه ولا ثرواته ولا صراعاته ولا ما يبرم من اتفاقيات بين الفاعلين فيه والقادمين من وراء البحار والمحيطات والراغبين في نهبه.
تونس نفسها بحجمها هذا دون زيادة أو نقصان وبثرواتها المحدودة وبعدد أقل من السكان كانت أكثر تأثيرا في محيطها الإقليمي وأكثر إشعاعا على الساحتين الإقليمية والدولية
ويذهب البعض إلى تبرير هذا الغياب التام للخضراء على الساحة المتوسطية بصغر المساحة وندرة الثروات الطبيعية وقلة عدد السكان تحركهم نظرة تقليدية في تقييم حجم الأمم عفا عنها الزمن خاصة مع بروز قوى هامة إقليمية ودولية تحدت المساحة الضيقة وضعف الثروات ومحدودية عدد السكان وباتت أمما يقرأ لها ألف حساب. كما يدرك القاصي والداني أن تونس نفسها بحجمها هذا دون زيادة أو نقصان وبثرواتها المحدودة وبعدد أقل من السكان كانت أكثر تأثيرا في محيطها الإقليمي وأكثر إشعاعا على الساحتين الإقليمية والدولية مع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة..
لقد كانت مواقف تونس بورقيبة من مختلف القضايا، في وقت ما، تستعرض في الإعلام الغربي مع مواقف الدول الكبرى وكان كثير من زعماء العالم يحجون إلى بورقيبة للاستئناس بآرائه ووجهات نظره فيما يتعلق بقضايا المنطقة ناهيك وهو المحامي الحائز على الماجستير من جامعة السوربون في باريس وبتفوق مع بدايات القرن العشرين في عصر يعتبر فيه الحائز على الشهادة الإبتدائية قد حقق أعظم الإنجازات.. ولم يأت نقل مقر جامعة الدول العربية إلى تونس بعد توقيع مصر على اتفاقية كامب دايفد من فراغ، حيث تحولت الخضراء في عصر بورقيبة إلى عاصمة للقرار العربي وكذا الفلسطيني مع قدوم منظمة التحرير الفلسطينية أيضا الى تونس..
أما افريقيا فكان بورقيبة من الفاعلين في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية حتى أن إمبراطور أثيوبيا أصر على أن يكون الزعيم التونسي حاضرا في المؤتمر التأسيسي لهذه المنظمة الجامعة للأفارقة لما له من قيمة اعتبارية في قارته ورصيد هائل في مساندة قضايا التحرر في إفريقيا. ومازال أصدقاء تونس في جنوب إفريقيا يشيدون بما قدمه بورقيبة لمساندة نضالهم من أجل الكرامة حيث استقبل الأخير نيلسون مانديلا المطارد وقدم له الدعم المالي والتدريب لعناصر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. وكان بورقيبة سباقا في الاعتراف باستقلال موريتانيا وضمها الى جامعة الدول العربية خلافا لارادة البعض ممن انزعجوا لسنوات من اطاحة بورقيبة بالنظام الملكي في تونس. وقدمت دولة الإستقلال يد العون لهذا البلد الشقيق من خلال الإستثمار المباشر في اقتصاده وبنيته التحتية ومن خلال تدريس أبنائه بالجامعات التونسية وهو ما جعل شعب المرابطين يكن مشاعر الود والإحترام والتقدير لتونس وشعبها ولرئيسها الذي قال عنه الجنرال ديغول في مذكراته أن «حجمه فاق بكثير حجم بلده».
ويرى البعض أنه لو وجد اليوم مشرفون على الديبلوماسية التونسية من طينة الحبيب بورقيبة، الذي احتفظ لنفسه بحقيبة الخارجية إلى جانب رئاسة الحكومة في أول حكومة تشكلت في تونس بعد الإستقلال، والمنجي سليم ومحمد المصمودي وغيرهم لكنا اليوم فاعلين في الملف الليبي الذي من المفروض أننا الأكثر قدرة على المساهمة في حله لأن لدينا فيه أوراقا هامة قد لا يتفطن إليها من امتهن السياسة في سن متأخرة ومن نشأ سياسيا خادما للأجندات والتنظيمات الخارجية. فشخصية القائد محورية وعلى غاية كبيرة من الأهمية في تقدير حجم البلد وليس فقط المساحة والثروات والسكان.
كاتب تونسي
بابا خويا هذاكة وقت كان نظام الحكم رئاسي وليس مشتتا مثل ما هو عليه اليوم حيث أن الذين أتوا بما يسمى نظام برلماني لو كانت نيتهم النهوض بتونس وبشعبها وبمكانتها المتوسطية والإفريقية والعالمية لما تاجروا بمعاناة بلد وبشعب من أجل مساومات رخيصة بمن وقع حلب أموالهم لتثري فئة قليلة؛ سيطرت بعدها على مفاصل الدولة؛ هي الآن تتفكك وتتنافر من بعضها بعضا فانقسمت ذاتيا ولن يدوم لها نظامها البرلماني الذي باتت تسبه ليلا نهارا.
كأنني أقرأ طعنا في قيس سعيد وتحميله مآلات الوضع الراهن برمته وحده دون غيره اكثر من اي اشادة بماضي تونس التليد..
ولا اعتقد ان رئيس الدبلوماسية التونسية الحالية قادر على احداث نقلة نوعية في وضع تونس الدولي بسبب ما هدمه قبله وما ورثه من أزمات متعدد الابعاد في علاقة تونس مع نفسها ومع محيطها القريب والبعيد..
لقد تم اختراق تونس وتقديمها للمحرقة كأغلب الدول العربية في زمن الوهن الذي نعيشه.. ولا يمكن لتونس ان تؤثر دون اعادة هيكلة نفسها وتنظيف ذاتها..
ساترك الحديث عن بورقيبة وسياسااه لاهل الاختصاص..
نعم كان لتونس شأن كبير …لانّ رجالها كانوا صادقين اما اليوم فشبهات الفساد و الانانية و الحزبية و الولاء للاجنبي تلاحق البعض منهم …