مع أن القراءة كانت مشوّقة إلا أنني، وأنا بعد في الصفحة أربعين، أغلقت الكتاب مؤجّلا قراءة صفحاته الباقية. يرجع السبب إلى شعوري، ربما، بأن الكاتب حبيب عبد الربّ سروري، يدخلنا في ما نحسبه من اختصاص غيرنا.
كتاب علمي فضائي تكثر فيه التعابير والمعادلات والرموز العلمية والرقمية، وهو ليس مترجَما عن لغة أجنبية، بل هو مكتوب بنص عربي تكاد تبلغ فصاحته نسبة المئة في المئة. توقّفتُ عن القراءة، مؤقتا طبعا، بعد قراءتي لتلك الصفحات الأربعين إذن، لكون الطموح الذي دعا إلى مقاربة موضوع غزو الفضاء، أكثر جموحا مما يجب لكاتب عربي. أما الرحلة التي ستقوم بها مركبتان تحملان مسبارين عملاقين فلم يقم بها من سبقنا، أي أننا سنكتشف، نحن، ما لم يُكتشف من كواكب المجرة، وربما نذهب إلى ما بعدها. فجأة وضعَنا صديقنا عبد الرب في مضمار السباق العالمي على غزو الفضاء، ليس بما يخصّ قيامنا بالرحلتين إليه، بل بالتجرؤ على إثارة المخيّلة الأدبية لاقتحامه.
وباستثناء الاعتماد على ما جرى اكتشافه من أدوات وأسماء تتصل بها، تتصل الرواية في أغلبها على ما في مجتمعاتنا. أعني طاقم الرحلتين الذي كله من بني جلدتنا، عشرة أشخاص، نساء ورجالا يتوزعون على الرحلتين، يشتركون بتحصيل علمي وتوق لا حدّ له للمغامرات، ووسامة تكاد تجعل من هؤلاء العشرة آلهة بشريين. ذاك أن ما سيقتحمونه ليس فقط الفضاء، بل ستُستكمل مهمتهم في أن يلدوا، أو يلدن، فيه أطفالا سينشأون هناك، في بيئات القمر والمريخ، وما أمكن من كواكب أخرى. ومن أجل ذلك جرى احتساب الذكور والإناث على متن الرحلة الأولى XxxX00f ثلاث رجال هم جلال وسباسكي وفيشر (وهذان الأخيران استعير لهما اسما بطلي الشطرنج أيام الحرب الباردة) وامرأتان هما خولة ومنيارا. أما على متن المركبة الثانية Yyy41W فرجل واحد ومعه أربع نساء توزعت اهتماماتهن بين الشعر والبيولوجيا والفيزياء والتقنية. وهن بلا أسماء خاصة، حيث جرى الاكتفاء بالحرف الأول من اختصاص كل منهن على وجه التقريب. أما التفاوت في توزع عدد الذاهبين إلى الفضاء ليضعوا فيه ما سيلدونه فمردّه إلى حساب أرضي، عربي وإسلامي، قائم على إمكان زواج الرجل من أربع نساء.
لم يُراع هذا التدبير في الرحلة الأولى التي اتُّفق فيها على أن يترك للرواد أن يعشق بعضهم بعضا وهم في سياق الرحلة. لهذا عانت تلك الحسناء التي اسمها خولة من انصراف الرجلين سباسكي وفيشر عنها وانشغال كل منهما، عاطفيا، بالآخر بما يشير، أو بما يُلمح، إلى علاقة مثلية بينهما. لكن خولة لم تلبث أن وقعت في غرام جلال، الرجل الأخير على المركبة، تاركة منيار تتعرض للتوتر وافتقاد القوة على الاستمرار في أوكسجين مُعبّأ وبيئة بلا جاذبية أرضية.
لناحية التجهيز للرحلة، في الأجزاء الأولى من الرواية، جرى كل شيء تبعا لقانونه العلمي الأصلي، أي الغربي. وما تلا انطلاق المركبتين، الذي أغلبه تعيين المسافات الفاصلة بين الكواكب، والتغزّل المستمر بكوكب الأرض الأزرق هو من قبيل استعادة ما انشغلت به الصحافة العالمية من شعرية الوصف الذي قاله نيل أرمسترونغ في رحلته إلى القمر. هذا ما يتعلّق بالتأثّر بما قاله الرحالة الفضائيون السابقون. أما في الحياة الجارية في المركبتين فطغت المشاعر والشعائر المعروفة في بلادنا، وإن راعى الكاتب انسجام ذلك مع رحلة فضائية. ذلك الاختلاف عما ينبغي أن توصف به هذه الرحلات يزداد كلما تقدّمنا في القراءة. ما نظنه في البداية من أننا إزاء رواية خيال علمي، أو رواية من قبيل ما شاع في «حرب النجوم»، سرعان ما يستبعده ذاك التركيز الاسترجاعي، بين تفاصيل أخرى، على جزيرة سقطرة، الأرضية اليمنية. فالقاعدة المركزية، الأرضية، لمتابعة وقائع الرحلة هي هناك، في تلك الجزيرة، وكذلك نقرأ الجزيرة حاضرة باعتبارها المكان الأرضي الأجمل، لكن في أيام الجَدّ الذي يعود زمنه إلى أيام ما كان العيش في براءة الأرض وروعتها. أما في زمن الرحلتين، فكانت سقطرة قد صارت مساحة للأبنية المعدنية وناطحات السحاب. وقد بُذل في وصف ذلك التحول، الاستباقي، أسف كثير، وأدب كثير. وهو زمن استباقي لدلالته على أن الرحلتين انطلقتا في وقت متقدّم عن زمننا، بل أن الجد المُتذكّر ربما كان الراوية نفسه، ذاك الذين يشترك في إدارة الرحلة من الأرض، ويحزننا، في الوقت نفسه، جرّاء عبث الأزمنة.
«نزوح»، رواية حبيب عبد الربّ سروري صدرت عن دار الساقي في 255 صفحة، لسنة 2024.
كاتب لبناني