عن سوريا التي تعرفت عليها من بعيد

حجم الخط
8

لم أزر سوريا ولا مرة، كما كان الحال مع كل البلدان التي تحكمها الأنظمة المتوحشة، على غرار العراق وليبيا، التي كان قائدها يبعث طائرة كل سنة في الأول من سبتمبر إلى الجزائر لجلب جامعيين جزائريين لحضور احتفالات ما كان يسمى بعيد الثورة الليبية ، يستمع له القوم وهو يخطب عليهم، ثم الحصول على ساعة يد بصورة القائد في نهاية الزيارة التي تتكرر كل سنة.
سوريا التي بدأت القراءة حولها بعد الاستماع إلى شهادة بعض الزملاء من جامعة الجزائر، الذين توجهوا نحوها لإنجاز دراسات عليا في جامعاتها في تخصصات متنوعة. استمروا في التعبير عن حب كبير لسوريا وشعب سوريا، رغم هذا النظام الدموي الذي يحكمها، كانوا شهودا على مجازره في حماة في بداية الثمانينيات عندما وصلوا إليها. حب وجدته حاضرا لدى كل العرب الذين التقيتهم وهم يتحدثون عن سوريا الشعب والثقافة، ونوعية الاستقبال الذي يجدونه فيها.
ليكون كتاب نيكولاس فاندام السفير الهولندي الأسبق في دمشق، «الصراع على السلطة في سوريا»، من الكتب الجدية التي جعلتني أبدأ فهم الأوضاع في سوريا كنظام وتسيير سياسي لحالة طائفية، اعتمد عليها نظام الأسد لحكم البلد كل هذه الفترة الطويلة، بالحديد والنار. الكتاب الذي تحصلت على نسخة منه في القاهرة من مكتبة مدبولي الشهيرة، التي كان يبيع صاحبها الكتاب بشكل شبه سري، اقترح عليّ نسخة منه، بعد أن شك في أن أكون سوريا وهو ما جعله يرافقني إلى شقة يملكها بالعمارة المجاورة، يخفي فيها الكتب الممنوعة في المنطقة العربية. وهي التجربة نفسها التي حصلت معي في صنعاء اليمنية، بداية الثمانينيات عندما اقترح علي تجار سلاح يمنيين شراء أسلحة، عرفت في ما بعد منهم أن بعض السوريين – من الإخوان المسلمين– كانوا يسافرون لليمن في تلك الفترة لاقتنائها من السوق المشرعة الأبواب، في جبال اليمن السعيد، غير بعيد عن عاصمة البلاد!

ليس هناك مجتمع خال تماما من العنف، ولا مجتمع مكتوب عليه العنف بالسليقة، بل هناك شروط موضوعية وذاتية تفسره وتجعله يختفي ويظهر كما بينته الحالة العربية

لتتنوع قراءاتي مع الوقت حول سوريا، اطلعت فيها على مؤلفين سوريين، كما كان الحال مع الصديق جمال باروت، الذي فهمت من كتاباته العلاقة الخاصة جدا التي لا نملك ما يشبهها عندنا هنا في الجزائر، بين الريف والمدينة ونحن نستمع للسوري يتكلم عن ريف دمشق وريف حلب، بكل ما يحيل إليه من أدوار للمدن في علاقتها بالجهات المختلفة في البلد.
سوريا الذي بدأ اهتمامي بها في الحقيقة قبل هذه الفترة عندما كان يدرسني السوسيولوجي برهان غليون في جامعة الجزائر، في منتصف السبعينيات. فترة شاركت خلالها مع الكثير من الطلبة في مظاهرات ضد التدخل العسكري السوري في لبنان، في وقت زاد فيه عدد الطلبة اللبنانيين في الجزائر هروبا من بلدهم، توجهوا في اغلبيتهم نحو فرنسا، بعد استراحة قصيرة في الجزائر. سوريا التي زاد ارتباطي بها وتعرفت عليها أكثر بعد التحاقي بمبادرة الإصلاح العربي، التي كانت تديرها الصديقة بسمة قضماني، رحمها الله. بسمة التي كانت دائمة المقارنة، في أول معرفتي بها بين الوضع في الجزائر وسوريا، وهي تطرح عليّ هذا السؤال كلما التقيتها. لماذا لم يطلق عليكم الجيش النار في الجزائر، كما حصل عندنا في سوريا؟ من دون الانتباه إلى ما يميز الحالتين من نقاط اختلاف جوهرية. في نقطتين مركزيتين على الأقل. التركيبة المتجانسة للمجتمع الجزائري طائفيا، عرقيا ودينيا، عكس ما هو حاضر في سوريا، وما يميز الجيش في الجزائر من طابع وطني وشعبي، عكس الحالة السورية. سوريا التي ما زالت حاضرة رغم هذه الاختلافات كمجال للمقارنة مع الجزائر، عادت بقوة هذه الأيام لدى الإعلام والرأي العام في الجزائر، الحالة السورية التي لم تكن غائبة عند الجزائريين نتيجة القرب العاطفي بين البلدين، منذ هجرة الأمير عبد القادر إليها، ولا عند السياسي الجزائري الرسمي، الذي استعمل هذا القرب لتهديد المواطنون بتكرار تجربتها العنيفة في الجزائر، إذا أصروا على الخروج للشارع، في بداية الحراك سنة 2019. كما جاء على لسان رئيس الوزراء الجزائري في تلك الفترة أحمد أويحيى الذي حاول إخافة الجزائريين وهو يذكرهم بأن المسيرات في سوريا بدأت سلمية هي الأخرى، لكنها تحولت إلى حرب أهلية. عندما شاهد بأم عينيه السلمية الكبيرة التي ميزت حراك الجزائريين، ليغادر الرجل منصبه نحو السجن ويحافظ الحراك على سلميته.
المقارنة التي طفت بقوة على السطح هذه الأيام، بعد هروب الرئيس السوري «لتهديد» النظام السياسي الجزائري هذه المرة، بأن «دوره قد جاء «دون مراعاة لشروط التغيير السياسي وما يميز الحالتين الجزائرية والسورية من اختلافات نوعية – رغم بعض التشابه الطفيف الذي يجمعها مع كل التجارب العربية الأحادية القديمة، التي كان وراءها الحزب الواحد – الذي يبعد الحالة السورية العنيفة والقمعية عن الحالة الجزائرية، التي أظهرت استفادة كبيرة للجزائريين من مرحلة العنف التي عاشوها خلال عقد التسعينيات، لم يكونوا مستعدين لتكرارها حتى لو أدى بهم الأمر إلى التنازل مؤقتا عن مطالبهم، التي أجلوا تحقيقها، لوقت مقبل. درس لم يحفظه المواطن الجزائري فقط، بل المؤسسة العسكرية والأمنية كذلك التي أدت أداء نوعيا متميزا، طول فترة الحراك وهي تقوم بتدخلاتها اثناء المسيرات، رغم الإجهاد الذي تعرضت له طول الفترة الطويلة للحراك على مستوى كل التراب الوطني لعدة شهور وهو يقترن بحالة فوضى مست النظام السياسي ومؤسساته. لم تجد فيه المساعدة المطلوبة من النخب السياسية الرسمية، في إيجاد التوافقات المطلوبة، التي كان يمكن أن تثمن مخرجات الحراك. تسمح للجزائر بإنجاز قفزة نوعية في حل معضلاتها السياسية، بدل حالة الإنكار التي ميزت سلوكها .
تجربة تؤكد لنا من جديد أن العنف كظاهرة سوسيو- سياسية لها قوانينها التي تتحكم في ظهورها واختفائها، فليس هناك مجتمع خال تماما من العنف، ولا مجتمع مكتوب عليه العنف بالسليقة، بل هناك شروط موضوعية وذاتية تفسره وتجعله يختفي ويظهر كما بينته الحالة العربية، التي ركنت إلى العنف كمعطى تتم تغذيته عبر التدخلات الإقليمية والدولية، التي تريد استغلال هذا الظرف لفرض موازين قوى على المديين المتوسط والطويل على الشعوب، كما تفعل إسرائيل في سوريا وفلسطين هذه الأيام، مستغلة الأبعاد الدولية المواتية لها بعد عودة ترامب وتيار اقصى اليمين الشعبوي إلى البيت الأبيض والعالم.
*كاتب جزائري

.

.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول دانيال غالفان:

    كل مطابقة بين النموذج السوري والنموذج الجزائري تبوء بنتائج تزيد من حجم القلق. المعارضون الجزائريون، وخصوصا منهم الذين لم يحملوا قط السلاح في وجه النظام الجزائري، يسألون السلطة اليوم لماذا السير المتعمد عكس حركة التاريخ والإصرار على استضافة التاريخ على جانبه السيء، باعتماد التسيير الأمني، وهو ما لم يكن يريده الحراك. وإذا كان الحراك قد سكت لإعطاء الفرصة للثنائي تبون – شنقريحة، فهذا من باب منح الفرص وليس لشراء الوقت لأي طرف من الأطراف. الأمين الأول لجبهة القوى الاشتراكية يوسف أوشيش كان يدرك -وهو يتحدث في مؤتمر الجبهة بالأمس- أنه يلامس عصبا حساسا. حتى عندما تجنب التلميح المباشر للتشابه بين النظامين الجزائري والسوري، فإنه يذكر الغضب الشعبي المتزايد ليس فقط على الوضع الاجتماعي والمعيشي، بل أيضا على موقع البلاد المتراجع إقليميا مع بيئتها الطبيعية في شمال أفريقيا والساحل، وبالامتداد نحو البحر المتوسط وجنوب أوروبا، وخصوصا فرنسا وإسبانيا.

    1. يقول Bob:

      و ماذا يا دانيال عن حراك الريف؟ و معتقليه ؟

  2. يقول ربيع:

    تختلف الأنظمة السياسية في مدى اعتمادها على القمع المفرط أو وسائل أكثر اعتدالاً في إدارة شؤونها وضبط معارضيها. فمن منظور سوسيولوجي وكذلك من منظور علم النفس السياسي، يمكن فهم استخدام القمع المفرط من قبل الأنظمة التي ينحدر منها أفراد من أقلية حاكمة مثلا، مثل نظام الأسد في سوريا، على أنه آلية دفاعية لحماية هذه الأقلية. تاريخياً، قد يشعر أفراد الأقلية الحاكمة بأنهم مهددون من الأغلبية، وبالتالي قد يلجأون إلى “القمع الوقائي” للحفاظ على سلطتهم وأمنهم. هذا القمع قد يُعتبر وسيلة لحماية هويتهم ودورهم في الدولة، حيث يكونون واعين بالمخاطر التي قد تتهدد وجودهم السياسي والاجتماعي في حال فقدانهم السيطرة. كما أن هذه الأنظمة قد تدرك أن المجتمع الدولي حساس للغاية بخصوص حقوق الأقليات، وبالتالي فإنها قد تستخدم هذه الاستراتيجية لضمان دعم خارجي أو على الأقل لتجنب الانتقادات. لكن المفارقة هي أن الثورة والشعب السوري لا مناص لهما من تجاوز أخطاء الأقلية العلوية خلال الحقبة الأسدية من أجل تحقيق الاستقرار والسلام الداخلي، و أيضا دفعا للضغوط الدولية التي تدفع نحو المصالحة وإعادة بناء سوريا بعد سنوات من القمع والحرب…(تتمة)

  3. يقول ربيع:

    …كذلك، نفس السياق ينطبق على إسرائيل التي تعتمد على القمع المفرط ضد الفلسطينيين والعرب كوسيلة لحماية نفسها وضمان بقاء الأقلية اليهودية في المنطقة في سياق غياب الاستقرار الإقليمي.

  4. يقول أيمن:

    عندما يكون النظام في بلد ما “نظاما قلقا”، يتوجس بشكل مفرط من تأثير مواقع التواصل الاجتماعي سواء داخليًا أو خارجيًا، ويخشى من فقدان السيطرة على السرد العام في البلاد (خاصة في ظل تزايد التفاعل الشعبي على هذه المنصات التي أصبحت أداة قوية للتعبير عن الرأي والاحتجاج) فإن رد فعله الطبيعي على أي تهديد للاستقرار هو استخدام الأساليب القمعية الأكثر صرامة.

  5. يقول Jean Baroche:

    من خلال التجربة السورية وخاصة أحداث حماة وما تلاها من تنكيل ممنهج استمر عشرات السنين. يتبين أن المحاسبة عن المجازر والقمع والاختطاف هي من الأمور المؤجلة التي سيأتي ميعادها في وقت من الأوقات ولن تنفع أساليب المراوغة السياسية والاعلامية في ابعادها نهائيا. خاصة وأن المسؤولين عن المجازر لازالت أغلبيتهم في مركز القرار.

  6. يقول زلاطي بشير:

    المقاربة في الاسباب ليست كالمقارنة في النتائج .محاولة جعل ما حدث في سوريا مطلوب ان يكون له مثيل في الجزائر مغالطة كبيرة ,لان الاسباب هنا متباينة جدا بين النظامين القائمين و تركيبة الشعبين -اجتماعيا ثقافيا سياسيا-.
    اما مقارنة النتائج فليس هناك فرق بين تسلط عسكري و تسلط مثقف او متسلط ملتح يلبس عمامة ان اعتلى منصة الحكم .واكاد اجزم ان تسلط العسكري قد يكون هو الارحم في الحالات الثلاث .

    1. يقول Bob:

      أو متسلط ورث الحكم اب عن جد في مملكات تقدس شخصه أكثر من الإله و يعيش المجتمع في حالة غادرتها المملكات الاوروبية ب

اشترك في قائمتنا البريدية