وصل جيلبير سينويه، واسمه هنا في الرواية كريم جوهر، إلى القاهرة في 29 يناير/كانون الثاني 1911، وقت مناسب للبدء برواية. لحظة مفصلية بين ماضي المدينة الذي كان أقام فيها سينويه يافعا وحاضرِها المتفجّر. أما الداعي لتلك الزيارة فمسألة أخرى: أن يلتقي حبيبته مريم بعد غياب عنها طال لما يزيد عن أربعين عاما. ذلك من أجل أن يتسلسل السرد ويكون له موضوعه ، حيث لا تكفي شذرات من تذكّر عالم الطفولة لصنع رواية. هي ليلة واحدة جرى تعداد كل ما جرى فيها، حاضر ما يجري في القاهرة وما كان قد جرى في ماضيها، من لحظة خروجه من المطار بدأ بوصف ما غيّرته السنوات الأربعون. سائقو التاكسيات وسياراتهم المنهكة. الطريق ولون الأبنية وتهالكها، ثم الزحمة غير المحتملة حيث أبلغه السائق، بعد مفاوضة على الأجر، أن الوصول إلى الفندق سيستغرق أكثر من ثلاث ساعات، بسبب التظاهرات الجارية حول الميدان. ولم يتأخر الإرهابيون، أولئك الذين نشطوا على هامش التحرك الكبير، في الاهتداء إليه بعد أن كان السائق قد تركه وحيدا على مقعده. لم يُفد معهم قوله أنا مصري، أنا ولدت هنا. في قاعة خالية بدأ استجوابه. كان ذلك أشبه بنقاش بينه وبين المستنطِق السبعيني الكاره لما فعله الغرب ببلده.
لكن سريعا ما أخليَ سبيله، مع توالي أسئلة التحقيق وإجاباته تذكّر الرجل السبعيني أنه كان قد عمل عند والد مخطوفه طبّاخا. لم تطل مدة ذلك الاختطاف الذي لم يزد عن كونه فاصلا حدثيّا عابرا لكن إيراده ضروري في اللوحة التي وصفها الكاتب لأحوال بلادنا التي يعرفها. كروائي، كتب سينويه عن مصر كتبا كثيرة يلزم لتأليفها هيئة كتّاب كاملة. في روايته هذه «ليالي القاهرة» أفاض في تعتاد ما يتذكّره من عيشه فيها، بل مما سبق عيشه، بدءا من 1952 حين انتقلت قيادة البلد إلى الضباط الأحرار، بل إلى ما قبل ذلك، إلى 1869 مع الخديوي إسماعيل وشقّ قناة السويس وإلى جانبها القصر الذي أقامه الخديوي لضيفته، أو لمعشوقته، الإمبراطورة أوجيني.
الرواية، في جانبها الأعرض، توليف سردي لمحطات بارزة من مصر وتاريخها. أكثر ما عاد إليه الكاتب في تذكّره معروف وشائع، سواء تعلّق الأمر بالسياسة، من طريق الحكي عن جمال عبد الناصر والأخوان المسلمين، وعن أنور السادات وحسني مبارك، كما عن تغيّر هيئة القاهرة، والإسكندرية تاليا، بعد رحيل اليونانيين والإيطاليين والإنكليز المحتلّين إثر معارك حرص الكاتب على وصف وقائعها ونتائجها. كما استطرد الكاتب ذاكرا أحداثا ووقائع غير مصرية، هي أيضا من قبيل ما هو شائع ومعروف، مثل مواجهات الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين، وأيضا رحلة المناضلة الفلسطينية ليلى خالد بطائرة اللد التي اختطفتها وحلّقت بها فوق تل أبيب وحيفا قبل أن تجبر قائدها على الهبوط في دمشق. وقد ذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك، مستخدما ربطا غير محكم لاستجراره وتعليقه على مسار الرواية، أعني ما ذكره عن حكاية المجنون قيس الذي قتله عشقه لليلى.
وعلى الدوام نقرأ مقابلة الحاضر بالماضي الجميل، حيث عاش لورنس داريل وكفافي وداليدا وجورج غيتاري ودميس روسوس، وحيث غنى جاك بريل وشارل أزنافور. بين مقاصد عديدة للرواية، وهي خارجية أو برانية كلها إذ لم يتطرّق الكتاب إلى ما يتعدى استعادته لوقائع من ماضي مصر. كل شيء موصوف من خارج، أو مؤلَّف على نحو ما تتراكب قطع الليغو بعضها فوق بعض. ذلك يسم حتى المقاطع، أو المصادفات التي لقيها الكاتب في رحلته الليلية، ومنها لقاؤه بصديقه القديم جورج الذي ساءله المؤلّف كيف جرى أنه بقي مع امرأته نيفين هنا في القاهرة بعد خروج الجميع منها. هكذا يخيّل لقارىء الرواية أنه يقرأ تاريخا للمدينة سبق له أن ألمّ به. حتى ما هو شخصي كان قد كُتب عنه في وكيبيديا، في صفحة التعريف عن الكاتب الروائي، أعني ما خصّ ذلك المركب الذي كان الملك فؤاد قد أمر ببنائه وورثه عنه ابنه الملك فاروق لينتقل أخيرا إلى ملكية والد الكاتب الذي حوّله إلى مطعم فخم. الوقوف عند ما هو شائع ومعروف، وعما جرت كتابته من قبل بأقلام كتاب عالميين وعرب، لم يوصل إلى النوستالجيا التي سعى الكاتب لإنهاضها. وهو كان قد نشر كتبا كثيرة عن مصر، لذلك لم تعد هناك بقية تكفي لإثارة الحنين. في الكتابة، يكفي لذلك كتاب واحد، لكن على الرغم مما قد يقوله قرّاء يصعب إرضاؤهم، لا بد أن الكتاب هذا لقي إقبالا واسعا من قرّائه الفرنسيين، على غرار ما علّق به موقع البحث غوغل حول اتساع دائرة قرّاء رواياته، الموصوفة بالـ»بست سلر» دائما.
رواية جيلبير سينويه «ليالي القاهرة» نقلها إلى العربية شكير نصر الدين لمنشورات الجمل في 150 صفحة- سنة 2022.
كاتب لبناني
وصل كريم جوهر يوم 29 يناير 2011 وليس 1911،كما أن كريم جوهر باعتباره شخصية وساردا ليس بالضرورة هو جلبير سينويه، لأن الأمر يتعلق بتخييل للتاريخ وليس بسيرة ذاتية.