عن «نجيب المانع»… بعد أن أكلته الحروف!

حجم الخط
1

على مدى أكثر من سبعمئة صفحة، يطوف بنا محمد بن عبد الله السيف، في حياة الأديب العراقي الراحل نجيب (عبد الرحمن) المانع، فهو يقدم لنا استجلاء وافيا عن حياة المانع وأدبه، وتصرفات الحياة إزاءه، وما اعتور حياته من مطبات ومثبطات، موضحا أن نجيبا هذا كان يفحم مدرسه في العربية محمد الصانع، فضلا عن مدرسه في التأريخ في العديد من أسئلته.
وبعد أن أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية في البصرة، ولأن البصرة لم يكن فيها وقتذاك، سنة 1943 جامعة، إذ لم تكن في العراق سوى جامعة بغداد، فلهذا قرر التوجه إلى بغداد لغرض مواصلة دراسته الجامعية، إضافة إلى عدد من أبناء مدينته الزبير منهم، عبدالله العنيزي، الذي عمل طبيباً في أحد مشافي بغداد، وكان عبد اللطيف الشواف، الذي كان قاضياً للصلح في محاكم البصرة، ممن حدبوا على المانع لأنه كان صديقاً لعمه الوجيه عبد العزيز المانع، يقول الشواف «لقد التقيت بنجيب بعد عودته إلى البصرة، عندما تخرج محاميا، وأزمع العمل في محاكم البصرة» لكن لم يأتلف مع العمل في المحاكم والمحاماة، فغادر نحو بغداد للعمل في مديرية الأموال المستوردة، إلى جانب عدد من العناصر المثقفة مثل عبد اللطيف الشواف، وبدر شاكر السياب، وما لبث أن غادر بغداد نحو كركوك للعمل في شركة نفط العراق، ولأن الدولة كانت تعمل على تعريق المؤسسات النفطية، فإنه يعين مديرا عاما لمصلحة توزيع المنتوجات النفطية صيف عام 1959، ليكون أول عراقي يتولى هذه المؤسسة الحيوية، وإذ يكتب مقالاً في جريدة «الأهالي» الناطقة بلسان الحزب الوطني الدمقراطي، بزعامة كامل الجادرجي، انتقد فيها أحكام الإعدام الصادرة عن المحكمة العسكرية العليا الخاصة، التي كان يتولى رئاستها العقيد فاضل عباس المهداوي، ضد عدد من الضباط المشاركين في تمرد جحفل لواء المشاة الخامس، ولاسيما الزعيم الركن ناظم الطبقجلي، والعقيد رفعة الحاج سري، واصفا نجيب المانع هذه الأحكام بالقسوة، ما أثار حفيظة الزعيم عبد الكريم قاسم، ففصله من المنتجات النفطية، وفصله ثانية من وزارة الخارجية التي التجأ إليها أيام كان يتولاها الوزير هاشم جواد، ولا ريب في أن بقاء نجيب المانع من غير عمل أو وارد مالي، أثر في نفسيته، لأن هذه المثبطات في حياة أديب يحترم نفسه، لا ريب في أنها تكون عاصفة ومؤذية.

ينتقل بنا محمد بن عبد الله السيف، ليحدثنا عن الصداقة الوطيدة التي ربطت بين المانع، والشاعر بدر شاكر السياب، وقد عصفت بحياة بدر هذه المنغصات، ولاسيما الإغفال المتعمد وعدم تناول شعره، من لدن النقاد الذين كانوا وقتذاك في غالبيتهم من جماعة اليسار، وكان أشد ما يؤلم بدرا، أنهم كانوا يفضلون عبد الوهاب البياتي عليه، وهو لدى المقارنة بينهما، لا يكاد عبد الوهاب يشكل شيئا إزاء الشاعرية الثرية لبدر. يقول المانع «فما قتل السياب عدم إنصافه نقديا من جانب أولئك الذين كانت بيدهم السوق الثقافية في العراق آنذاك». وكان لعبد اللطيف الشواف دور في مساعدة بدر أثناء مدة مرضه، فهو الذي عرض الأمر على الزعيم عبد الكريم قاسم في أن يسهل أمر سفره، لغرض المعالجة في بريطانيا، لكن بدراً يقابل هذا العمل الصالح، يقابله بعمل شائن، إذ ما إن سمع وهو على فراش المرض في أحد مشافي لندن، بالانقلاب على الزعيم حتى كتب قصيدة متشفية شائنة عنوانها- كما أتذكر- (عبد الكريم) لم تضف إلى الرصيد الإبداعي لبدر شيئا، بل أكلت من جرفه، ويظل بدرا كتلة من التناقضات.

الهجرة إلى لندن

بعد أن أمضى نجيب المانع سنوات عدة في بغداد، تنقل فيها في عدد من الوظائف المهمة، منها مدير الترجمة في وزارة الإعلام، لكن لأسباب شتى يصاب المانع بجلطة قلبية عام 1979، فتقترح عليه شقيقته الأديبة سميرة المانع، وزوجها الشاعر الأديب صلاح نيازي، القدوم إلى لندن لغرض استكمال العلاج، فتجد هذه الفكرة في نفسه هوى، فيقرر التوجه إلى لندن والاستقرار فيها، ثم يعرض عثمان العمير، على المانع العمل في صحيفة «الشرق الأوسط» الصادرة في لندن، وكان عثمان العمير- إذ ذاك – رئيسا لتحرير الجريدة، كان ذلك سنة 1987، يسأل محمد بن عبدالله السيف عثمان العمير، عن بداية معرفته بنجيب، فيقول «إنها بدأت أولا من خلال مكالمات هاتفية حينما سمع عنه وعن ثقافته ومكانته في الترجمة من عدد من الأصدقاء المشتركين، خاصة صلاح نيازي والروائي الطيب صالح، وعددا من المثقفين والصحافيين العاملين في محطة BBC ، إضافة إلى ما كان يقرأه مما ينشره نجيب في مجلة « الاغتراب الأدبي». بدأ نجيب المانع الكتابة في صحيفة «الشرق الأوسط» بنشر(رسائل من لندن) وكان عام 1990 العام الذي شهد تألق نجيب المانع على صفحات جريدة «الشرق الأوسط» وكانت هذه المقالات تغطي المدة من بداية العام حتى شهر تموز/يوليو 1990، حيث كانت بداية شهر آب/أغسطس، بداية للغزو العراقي لدولة الكويت، ودخل المانع في طور التأزم، فهو يعرف ما الذي سيؤول بالعراق جراء هذا التصرف، وكان نجيب المانع – كما يقول السيف – وهو يتابع من لندن هذا الاجتياح «يعلم علم اليقين أن العراق سيواجه دوليا، مصيرا مأساويا، سيقضي عليه، طال الوقت أم قصر.

وفاة المانع

وقد تحدث صلاح نيازي، زوج سميرة – مَنَّ الله تعالى عليها بالعافية، إذ تعاني من مرض الزهايمر- شقيقة نجيب المانع في الحفل التأبيني، الذي أقيم إحياء لذكراه «كنت متيقنا بالهاجس إنه مات هذه المرة، نظرت إليه من الشباك، فاجأني بنومته على الكرسي، كان يضع ساقا على ساق كعادته، رأسه مائل إلى يسار وعلى صدره كتاب، يده اليمنى على فخذه الأيمن ويده اليسرى مرفوعة الى الأمام قليلا، وكأنه يهم بتناول سيجارة، انسجام تام بين جسده والصمت يجعل من الموت إغفاءة، خرج الطبيب وقال إنه كان ميتا منذ أربع وعشرين ساعة. ما من أحد يستطيع أن يوجز نجيب أو يختصره، إغفاءة ممتلئة بالسكون كتاب مقالات عن بروست على صدره، هذا هو نجيب كما اختصر نفسه».

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. حسين جبار:

    اعادت هذه المقالة الثرية بالمعلومات الغزيرة والاسماء الادبية والسياسية الكبيرة الى ذاكرتنا احداثا خطيرة وشخصيات مؤثرة فامتعتنا على الرغم مما فيها من مرارة محسوسة تركها قلمك وهو يجري مع تلك الحياة القاسية والمصير المؤلم الذي لاقاه نجيب المانع ورفاق آخرين لم يكونوا افضل حالا منه. احسنت ايها الاديب الرائع والناقد الفذ.

اشترك في قائمتنا البريدية