هناك عدد من الخيارات بإمكان قادة الرأي بين يهود إسرائيل اعتمادها في تقييمهم لدولة الكيان الإسرائيلي التي أما ولدوا فيها أو هاجروا إليها.
بيد انه عموماً هذه الخيارات ربما بالامكان اختصارها في توجهات ثلاثة.
التوجه الأول هو ذلك الذي يرى بأن إسرائيل كيان مثالي وهبه الله للشعب اليهودي على الأرض المسماة فلسطين وبالتالي يجب الحفاظ عليه كما هو حالياً، بل يجب توسيعه بواسطة بناء المستوطنات والحروب المدمرة التي قد يُستخدم فيها خيار التطهير العرقي ضد سكانه الفلسطينيين والعرب في السعي لضم الضفة الغربية وغزة إلى الكيان السياسي الإسرائيلي بالقوة والتأكيد أن عاصمة هذا الكيان هي القدس بشطريها الغربي والشرقي، ومعتنقو هذا الخيار يعتبرونه خياراً يهودياً مقدساً.
ثانيا، هناك مثقفون وقياديون يهود إسرائيليون (خصوصاً بين الذين ولدوا على أرض فلسطين) يرفضون المشروع الصهيوني برمته ويتطلعون نحو العيش بمساواة وديمقراطية مع الفلسطينيين في أي قالب يتفق عليه الجانبان.
أما الخيار الثالث فهو منتشر إلى حد ما بين مثقفين يهود إسرائيليين بعضهم عاش في دول غربية منفتحة حضارياً حيث درسوا في جامعات تلك الدول وأصبحوا يحتلون مناصب مرموقة في مؤسسات أكاديمية أو في مؤسسات فاعلة أخرى وهؤلاء يفضلون الحل الذي يحقق دولتين متجاورتين أحداهما يهودية الانتماء الديني وديمقراطية الممارسة السياسية، والأخرى فلسطينية يقودها ساسة اختارهم الشعب الفلسطيني عبر الانتخاب الحر ليمثلونه أفضل تمثيل. أحد هؤلاء الأكاديميين المنتمين إلى الفئة الثالثة هو الدكتور غاي زيف الأستاذ في الجامعة الأمريكية في واشنطن في شؤون السياسة الخارجية والأمن الدولي والذي يركز دراساته على عمليات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين ودور الولايات المتحدة فيها وامكانية نجاحها.
صدَرَ عن زيف مؤخراً كتاب جدير بالمراجعة لكونه يطرح أفكاراً متطورة مستندة إلى عدد كبير من المقابلات والدراسات التي أجراها حول موضوعه مع سياسيين وعسكريين كبار في الدولة العبرية وخارجها.
عنوان الكتاب هو: «نتنياهو ضد الجنرالات: المعركة حول مستقبل إسرائيل» مقاربة هذا الكتاب الأساسية هي أن صراعاً نشب واستمر وما زال مستمراً بين خيارات وسياسات بنيامين نتنياهو منذ تسلمه رئاسة الحكومة للمرة الأولى في عام 1996 وحتى الساعة ضد قادة الجيش والاستخبارات الداخلية «الشن بيت» والخارجية «الموساد» وأن هذه المجموعة الأمنية الثانية في معظمها تفضل مشروع حل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، وعدم احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة وضبط عملية الاستيطان، بالإضافة إلى تقليص دور الايديولوجيين الدينيين في الحكومة وقيادات الأجهزة الأمنية تجنباً لقراراتهم المتسرعة المتطرفة والمتأثرة بالكتب والتعاليم الدينية اليهودية المتصلبة وضبطاً لتحريض بعض الحاخامات الذين يشجعون المنخرطين الجدد في الأجهزة الأمنية على اعتماد الوسائل العنيفة والمخالفة للشرائع الدولية بحجة أن الشرائع والتعاليم الدينية اليهودية التلمودية تبررها.
أساس المشكلة، برأي الكاتب، هي أن بنيامين نتنياهو تأثر منذ شبابه بتعاليم المفكر اليهودي المتطرف فلاديمير جابوتنسكي الذي كان صديقاً مقرباً من والد نتنياهو بنزيون خلال عيشهما في أمريكا حيث نشأ بنيامين وترعرع قبل هجرته إلى فلسطين. وبالتالي، لم يقتصر تحالف نتنياهو في قيادته للحكومات التي كان على رأسها على التعامل مع المنتسبين إلى حزب الليكود والأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى في تعاملها السياسي مع الفلسطينيين بل أدخل إلى حكومته وزراء من أحزاب دينية متطرفة جداً وكان بعض قادتها مطلوبين للعدالة لارتكابهم جرائم بشعة بحق الفلسطينيين ولاغتيالهم شخصيات بارزة قيادية إسرائيلية على شاكلة اغتيال رئيس الحكومة الجنرال اسحق رابين في خريف عام 1995 عقاباً له على توقيعه على قرارات اتفاقيات أوسلو التي وافقت على التخلي عن بعض الأراضي التي احتلتها إسرائيل والتي اعتبرتها تلك الأحزاب أراضي إسرائيلية مقدسة تقع في نطاق إسرائيل الكبرى (اريتز إسرائيل) وبسبب رؤية رابين المختلفة عن تلك الأحزاب في مجال توسيع الاستيطان بحيث أجرى حواراً حول طبيعته وامتداده مع القيادات الفلسطينية.
في مقدمة الكتاب، يقول المؤلف إن الهالة والاحترام الكبيرين اللذين كان يتمتع بهما الجيش والجهاز الأمني الإسرائيلي أمام شعبه انهارتا إلى حد ما بعد الأداء الضعيف نسبياً للجيش الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973 مقارنة بأدوار أقوى قام بها في حروبه السابقة (1948 و1967). كما أن عدم نجاح رئيس الحكومة العسكري السابق ايهود باراك في الاتفاق مع القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام الألفين الذي سبقه الإخفاق في اتفاقيات مدريد ومن بعدها أوسلو عندما كانت إسرائيل تحت قيادة عسكريين ثم فشل الجيش الإسرائيلي في حسم مواجهته مع حزب الله اللبناني في حرب الألفين وستة. وقبل ذلك اضطرار إسرائيل إلى الانسحاب من جنوب لبنان عام الألفين بسبب ضغوط المقاومة اللبنانية وعملياتها ضدها وضد حلفائها اللبنانيين في جيش لبنان الجنوبي.
كل هذه العوامل أفقدت برأي الكاتب مصداقية وفاعلية قيادات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بنظر الشعب الإسرائيلي وصار يفضل التصويت في الانتخابات الاشتراعية لمرشحين على شاكلة نتنياهو وحلفائه يقدمون إليه الوعود بتحسين الأوضاع عموماً فيأخذها بجدية أكبر من وعود القادة العسكريين الذين قرروا الانتقال إلى السياسة. وبالتالي، ما زال نتنياهو مع حلفائه يتقدم في الانتخابات الاشتراعية على منافسيه العسكريين السابقين حتى ولو استخدم حلفاء متطرفين عنصريين. مما لا شك فيه أنه هناك ملاحظات بالامكان طرحها حول هذه النظرية الواردة في الكتاب وفي طليعتها ان الطبيعة الديموغرافية للمجتمع الإسرائيلي تغيرت بسبب الهجرة الضخمة من الاتحاد السوفييتي ومن دول أوروبا الشرقية التي كانت تحت مظلته نحو إسرائيل لأسباب اقتصادية. وهؤلاء المهاجرون أغراهم مشروع الاستيطان غير المكلف مادياً وامتلاك المنازل الحديثة في مناطق زراعية خصبة كحلم. وبالتالي، يعتبرون أن هجرتهم ودخولهم في هذه المشاريع الاستيطانية سيحسنا أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وهذا ما وعدهم به نتنياهو وحزب الليكود والأحزاب الدينية المروجة للاستيطان وتوسيعه فصوتوا بكثافة لها. كما أن توجه الولايات المتحدة بالنسبة لدعم ومساعدة إسرائيل عسكريا أصبح أكثر ضخامة وخصوصاً تحت سلطة رؤساء أمريكيين لديهم بدورهم مشاريع نيو امبريالية توسعية اقتصادية واسعة في الشرق الأوسط كدونالد ترامب وجورج بوش الابن وحلفائهما من الأغنياء اليهود والانجيليين الصهاينة في أمريكا وفي دول غربية أخرى. وهكذا فكان تعاونهم مع نتنياهو أكثر ملائمة.
فعندما يعلن دونالد ترامب في خلال رئاسته أنه سينقل السفارة الأمريكية إلى القدس وسيغض الطرف عن الاستيطان الإسرائيلي وسيساهم هو وصهره في مشاريع اتفاقيات إبراهام التي تشجع الدول العربية الغنية والقوية على رفع مستوى علاقاتها مع إسرائيل مع تجاهل حقوق الفلسطينيين، فهذا الأمر من الطبيعي أن يقوي موقع سياسيين على شاكلة نتنياهو في إسرائيل على حساب سياسيين أكثر واقعية منه وأقل تطرفاً. كما أن المؤلف يذكر في أحد مقاطع الكتاب أن الممول الأمريكي اليهودي الأول لسياسات ترامب ونتنياهو كان مالك الكازينوهات الثري جداً في لوس أنجليس شيلدون اديلسون وزوجته مريم اللذان حضرا الاحتفال بإعلان القدس بكاملها عاصمة لإسرائيل في البيت الأبيض. كما أنه بعد وفاة شيلدون الذي (حسب ما قال الكتاب) كان قد وعد نتنياهو وحلفاءه بالمزيد من المساعدة المادية إذا تم ضم الجولان السوري إلى إسرائيل بفضل سياساته، تقوم زوجته مريم بتقديم وعد مشابه إلى نتنياهو إذا نجح في ضم الضفة الغربية كلياً تحت سلطة إسرائيل السياسية ومنع المقاومة في الضفة وغزة من إفشال هذا المشروع بالقوة العسكرية.
هذه العوامل مهمة جداً، بالإضافة إلى إخفاق الجيش والسلطات الأمنية في حروبهم الأخيرة وخصوصاً في عدم حسم عملية «طوفان الأقصى» لمصلحة إسرائيل بالسرعة التي كانت متوقعة أو في عدم المعرفة المسبقة بإمكان حدوثها. وهذا الأمر يستخدمه نتنياهو للمزايدة على قادة الأجهزة الأمنية فيما هو في الواقع كبير المسؤولين عن فشل ضبط عملية «طوفان الأقصى» وحالياً على فشل صفقات تبادل الرهائن، حسب قول الكاتب.
ومن المهم ذكر ما قاله زيف (المؤلف) إن عائلة اديلسون ساهمت في شراء صحف ومجلات إسرائيلية وضغطت على مؤسسات إعلامية أمريكية للمساهمة في إنجاح حملات نتنياهو وترامب.
ومن الأمور التي يطرحها الكاتب أن السبب في نجاح نتنياهو وأعوانه الحاليين انتخابياً على حساب كبار الجنرالات السابقين كبيني غانتز وغادي ايزنكوت وضد خصومه المنضويّن تحت مظلة يائير لابيد، كون «شلة نتنياهو» تستخدم الأيديولوجيا والدين فيما يستخدم خصومها الأمنيون أهمية العلاقة مع الولايات المتحدة ودول العالم ومطالبة هذه الدول الفاعلة بالتعايش بين شعوب وطوائف المنطقة من أجل مصالحها الاقتصادية.
ويشير إلى أن رئيس الحكومة السابق في إسرائيل آرييل شارون عندما قرر سحب القوى الإسرائيلية من غزة وإزالة المستوطنات في القطاع، كان نتنياهو عضواً في حكومته ووافق على قرار شارون. ولكن عندما تراجعت شعبية هذا الموقف، وبعد إنشاء شارون حزب (كاديما) تخلى نتنياهو عن تأييد ذلك المشروع. كما فعل نتنياهو الأمر نفسه في تعامله مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما إذ وعد بتجميد الاستيطان في بداية ولاية الرئيس الأمريكي الجديد ولكنه تخلى عن هذا الموقف لاحقاً وذهب وتحدى أوباما في عقر داره في البيت الأبيض وفي الكونغرس في واشنطن، وبدلاً من ان يحتقر مؤيدو إسرائيل هذه المواقف المخادعة اعتبروها قدرة وذكاء نتنياهو في ممارسة الدبلوماسية الفاعلة التي لا يملكها قادة الجيش السابقين والحاليين.
إذن، نجاح نتنياهو في استقطاب أصوات الناخبين الإسرائيليين لا يعود فقط إلى فشل القيادات العسكرية في كسب الحروب، بل إلى الدعم المادي والإعلامي والسياسي (في الكونغرس) لمواقف نتنياهو من جانب طغمة من أغنى أغنياء أمريكا والعالم تموله وتمول ترامب وتمول عدداً كبيراً من نواب وشيوخ الكونغرس ولا يهمها مصير فلسطين والشعب الفلسطيني.
وبالإمكان طرح سؤال على المؤلف برغم جدية موقفه والأبحاث التي قام ويقوم بها: لماذا يعتبر أن إنشاء دولة يهودية ديمقراطية إلى جانب دولة فلسطينية فاعلة هما الخياران الأفضلان لتحقيق الحل؟ فهناك خيار آخر في إنشاء دولة إنسانية تضم في أكثريتها سكاناً في جهة ينتمون إلى دين محدد ويرتاحون ان تكون هويتهم الأخلاقية والاجتماعية متماهية مع قيم وتعاليم ذلك الدين، وفي جهة أخرى دولة إنسانية أيضاً تضم في أكثريتها سكاناً ينتمون إلى دين محدد آخر ويريدون ان تكون هويتهم من ناحية القيم والعقائد مرتبطة بتعاليم ذلك الدين، ولماذا لا تعيش المجموعتان على تناسق في وطن واحد وتشاركان في ضمير جماعي مشترك؟
ربما ومن دون أن يذكر الكاتب مثل هذا التطور وامكان حدوثه في المستقبل، كان عليه أن يتعمق في طرح سؤال على نفسه: لماذا قبل اسحق رابين المولود في فلسطين فكرة التعايش مع فلسطينيين ولدوا في فلسطين وترعرعوا فيها مثله ولم يستطع نتنياهو وأمثاله من المهاجرين اليهود من الخارج إلى فلسطين «ابتلاع» مثل هذا الخيار فعاقبوا رابين بإعدامه؟
Guy Ziv: «Natanyahu vs. The Generals»
Cambridge University Press, Cambridge 2024
254 Pages.