يقتنع المتلقي بفرادة التجربة الشعرية لدى هذا الشاعر أو ذاك، على ضوء استشعاره تلك الرجة الجمالية، التي تعصف بثوابت مرجعياته، مستحثة إياه للبحث عن مرجعيات مغايرة، يستطيع على ضوئها فهم واستكناه دواعي ومسببات هذه الرجة. إن حضور الوعي بالفرادة والتفرد لدى شاعر معين، يعني بشكل أو بآخر، تميزه عن التجارب الشعرية المتزامنة معه، والسابقة عنه. وهذا التميز الذي هو في حد ذاته قطع ضمني مع السائد والمألوف، لا ينحصر في صيغة الكتابة، بقدر ما ينسحب إلى جانب ذلك، على المفاهيم المعتمدة عادة في بناء شعرية النص. خاصة حينما يتعلق الأمر، بذلك الاختلاف الجذري الذي يظهر عليه العمل المتفرد، وقد بدا متجاوزا حدود التنويعات الخارجية، إلى جدلية اختلاف، تطال جوهر بناء العمل، حيث يحدث تلقائيا نوع من الانقلاب الجمالي الشامل، مستهدفا أهم مقومات العمل الشعري، وأكثرها إثارة للجدل والنقاش.
لكن قبل ذلك، تنبغي الإشارة إلى أن الاختلاف الجذري في الكتابة الشعرية، باعتباره نتاج قطع مع التجارب السابقة والمحايثة، هو الأصل في الكتابة الشعرية. ذلك أن الاستناد على نمط محدد ومقنن سلفا في ممارسة فعل الكتابة، هو في حد ذاته امتداد لممارسة مغلوطة وهجينة، لا تتوقف عن إفساد وتشويه الكتابة الشعرية جملة وتفصيلا. فالكتابة الشعرية لا تعترف بالنمط وبالنموذج، إلا ضمن اعترافها بقدرته على هدم النمطية وتفكيك النمذجة، وبمدى توسيعه للمساحة الفاصلة بين ما كان وما ينبغي أن يكون. وهذا هو الأصل في محدودية الأسماء، التي تدين لها الذاكرة بإحداث تلك الرجات القوية والعنيفة في مفاصل الكتابة الشعرية.
وبالنظر لما تتميز به هذه الرموز الاستثنائية من جاذبية وسحر الفرادة والتفرد، فإنها تتحول إلى قبلة يشد إليها الرحال جيش عرمرم من المتشاعرين. علما بأن التهافت المجاني على هذه النماذج من كل حدب وصوب، ومن مختلف الجغرافيات اللغوية، من شأنه أولا، طمس سؤال الفرادة الشعرية، وثانيا من شأنه تكريس قوالب ثابتة، لا تلبث أن تتحول إلى قوانين، تهدر أجيال متتالية من المتشاعرين طاقاتها وأزمنتها في إعادة إنتاج ما تم إنتاجه بصيغة مغرقة في الفجاجة. ذلك أن التراكم المجاني لكتابات تفتقر إلى الحد الأدنى من المقومات الشعرية، يؤدي حتما إلى تحجيب النصوص الكبيرة /المتفردة، سواء على مستوى جمالياتها، أو على مستوى مرجعياتها النظرية، كما أنه ينحرف بالمساءلة والمقاربة نقدية، من سياقها الطبيعي والموضوعي إلى سياق قوامه الادعاء والخواء.
ومن المؤكد أن هذا السياق التحريفي، يستفيد في تحصين « شرعيته» من مقولات حق يراد بها باطل. من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، مقولة التمرد على سلطة النصوص التأسيسية، إلى جانب مقولة جدوى الاجتراح الذاتي والشخصي للمسارات الشعرية، فضلا عن تصعيد هاجس التفجير الحر واللامشروط للغة الكتابة الشعرية، إلى غيرها من المقولات التي تصب في تيار التصورات الحداثية المستبعدة للجاهز وللمكرس.
والملاحظ أن هذه المقولات الموظفة في غير سياقها الطبيعي، تمتلك مستوى الظاهر، ما يكفي من شروط الإقناع بدعوى إلى انتمائها إلى مرجعيات تتمتع بصلاحيتها الإجرائية، ذلك أن المتلقي البسيط الذي يفتقر إلى العدة المعرفية المطلوبة، يكون ضحية سهلة لهذا التدليس النظري، الذي يتحول بفعل سهولة سريانه وتداوله، إلى واقع حال من الصعب تعريضه إلى شمس المراجعة والبحث. ما يؤشر إلى عمق تلك الهوة التي تفصل بين مضمون المقولة المثقلة بحمولتها التحديثية ، وبين تمظهرها الشعري، الذي ينعدم فيه ما قل ودل من هذه الحمولة المفترى عليها.
وهي الظاهرة المهيمنة في أغلب الكتابات المجاملاتية المتواطئة مع هذه المسوخ اللاشعرية، ذلك أنها تحرص على استدراج القارئ الساذج والبسيط، عبر عملية نصب تنظيري، يوهمه بأنه مقبل على الاستمتاع بتجربة شعرية، تنتمي إلى سلالات الرموز الكونية الكبرى والذائعة الصيت. غير أن الأمر يختلف جملة وتفصيلا بالنسبة للقارئ المتخصص، الذي سيصاب فور شروعه في تفحص المادة المعنية، بخيمة أمل عظمى، نتيجة ما يلمسه من إسفاف فظيع في هذه الكتابات، التي ليست في واقع الأمر سوى تنطعات لغوية لا أكثر ولا أقل.
وبالنظر لاستفحال الأمية الإبداعية تنظيرا وممارسة، فإن هذه الظواهر ستستمر في اكتساحها للمشهد الشعري، وسيظل كل حديث موضوعي عن التجارب المتفردة ضربا من تحصيل حاصل، خاصة ونحن على بينة من الأعطاب المزمنة التي تعاني من تداعياتها المعرفة الشعرية بالعالم العربي ككل. وفي مقدمتها أعطاب توصيلها بيداغوجيا. ونخص بالذكر في هذا السياق، أسلاك التعليم بكل مستوياتها، حيث يسجل انعدام أي هاجس فكري وإبداعي لدى الجهات الوصية، من شأنه تحفيز التلميذ، أو الطالب الجامعي على امتلاك رؤية علمية وجمالية في آن، لمفهوم الكتابة الشعرية، بما يتيح له إمكانية مقاربة الشعرية العربية القديمة والحديثة، على ضوء المعطيات المعرفية التي ما فتئت جماليات التلقي تراكمها.
لذا، فإن كان ثمة حديث عن اليتم المعرفي الذي يعاني منه فن ما، فهو فن الشعر. حيث يترك الحبل على الغارب للمؤطرين، كي يستمتعوا بمنهاجيتهم المزاجية في تعاملهم مع النص الشعري. وسيكون من الضروري في هذا السياق التلميح إلى الكراهية المجانية التي يضمرها هؤلاء المؤطرون إلى الشعر الحديث، إما بالنظر لكون الأغلبية الساحقة منهم ذات تكوين سلفي تقليدي، أو بالنظر لافتقارهم إلى الإواليات المعرفية التي تخول لهم استكناه ما أمكن من أغواره، التي تبدو لهم مغرقة في غموضها، وفي تمنعها على الفهم والاستيعاب، فيعكفون على اختزالها في معادلات جاهزة، وطبعا وفق ما اتفق.
في ظل هذه الوضعية المقرفة، تتفاقم معضلة الجهل بالحد الأدنى من المقومات الشعرية، التي تنعكس تداعياتها السلبية على أجيال متعاقبة من الشعراء والنقاد على السواء، حيث يتعذر معها الحلم باستيفاء شروط إطار معرفي، يليق بمفهوم التجربة الشعرية الحديثة، ويساعد على استيعاب علاقاتها بمرجعياتها، وبامتداداتها المتشعبة والمتنوعة.
ولعل من أخطر هذه التداعيات، إفراغ التجارب الكونية من حمولتها الدلالية، وتحويلها إلى جثث محنطة يتم استحضارها بشكل عشوائي في سياقات هجينة، لا صلة لها من بعيد أو قريب بالجوهر الشعري. أيضا من سلبيات هذه التداعيات، إنتاج خطابات مغلوطة حول خصوصية المشهد الشعري ومكوناته، فضلا عن انحراف المفاهيم عن وجهتها المعرفية، كما هو الشأن بالنسبة لمفهوم القطيعة، والحساسية الجديدة، ومقولة التمرد على المقومات الشعرية المهيمنة، وغيرها من المفاهيم التي يؤدي توظيفها في غير ما وضعت له، إلى اختلاط حابل الشعر بنابله، وإلى استحداث مشهد لقيط، لا علاقة له مطلقا بخصوصية الكتابة الشعرية، قديمة كانت أو حديثة.
شاعر وكاتب من المغرب
كما جاء في متن النص، /في ظل هذه الوضعية المقرفة، تتفاقم معضلة الجهل بالحد الأدنى من المقومات الشعرية، التي تنعكس تداعياتها السلبية على أجيال متعاقبة من الشعراء والنقاد على السواء/ … انتهى
جزيل الشكر للأخ الشاعر رشيد المومني،
أذكرُ، في هذه القرينة، قولا تشاؤميا لافتا للشاعر أدونيس (والدي) بما معناه –
العرب لآيلون، إن لم يكونوا قد آلوا أصلا، إلى الانقراض الحتمي بالمعنى الحضاري لهذه الكلمة، لا على هذا المستوى الشعري خاصّةً فحسب، بل كذاك على ذاك المستوى الثقافي عامّةً وما إليه –
بيد أن المشهد العربي الكميد لا يخلو من بعض الشعراء المبدعين هنا وهناك وعلى الأخص في حياة التغرُّب دون ذكر الأسماء: إذ العقل مصباحٌ في الرأس، منهم من يحملونه مضيئًا ومنهم من يتركونه منطفئًا، على حد ارتئاء ابن طفيل /
مع التحية
الأستاذة المحترمة نينار
تحية عالية لعمق ودقة ما ورد في كلمتك ، خاصة و أنها جاءت مرصعة بلآلئ والدك الغالي شاعرنا الكبير أدونيس. فلكما معا خالص مودتي و تقديري.