«غزة الحلم»… أو المقاربة الثقافية للمقاومة

للتحليل الثقافي أهمية كبرى في فهم ما يمكن أن يساهم في التنوير وبناء وعي يشتبك مع ما هو إنساني يومي. والإبادة الجماعية في غزة غير بعيدة عن إمكانية وعي القضية ثقافيا، ووضع الإشكال الجوهري أمام الإضاءة التفاعلية للإنسان مع عناصر الحدث، باعتبار أن ما يحدث لا يمكن ألا يحدث إلا في إطار ثلاثي، التفكير والعلاقة والفعل، فالغزاوي جعل غيره يتساءل عن زمنية حدوث «طوفان الأقصى» وكيف تم التحضير للعملية ومنذ متى؟ ثم تحول التساؤل بعد ذلك إلى العلاقة بين العملية والهجوم البربري الصهيوني على البقعة المحاصرة، أي ما معنى أن يقوم الصهاينة بجرائم حرب مقصودة ضد المدنيين؟
ضمن الخريطة العامة لما يحدث في غزة ينبثق الفعل كعلامة ورمز لإنسان يتحدى كل ما يمكن أن يسحق أي إرادة، ويكشف عن وجه صلب لذات الإرادة الإنسانية الهشة تحت صدمات المشاعر.

ما يبدعه الحصار

يتأسس الموقف الثقافي مما يحدث في غزة انطلاقا من الإنسان، لا يمكن فهم ظاهرة المقاومة خارج الفهم لظاهرة «الإنسان الجديد» الذي لا يمكن إلا أن يكون صلة وصيرورة عبر مجال تاريخي تكويني لأجيال وضعت نصب أعينها «اللحظة الفارقة» التي سيكون لها وقع في مسار النضال الفلسطيني.
غزة تقع ضمن مدن الشريط الساحلي، والساحل هو الفصل المميز في «مخيال المغامرة» دوما تتحقق أخيلة طائر الرخ، الذي ورد ذكره شرقيا في «ألف ليلة وليلة» والذي حمل السندباد البحري إلى فضاءات بعيدة تؤسس في الوعي لإمكانية تحقيق المستحيل الذي يتشكل كحلم. فالغزاوي وغير بعيد عن وقوفه اليومي على الشاطئ، باعتباره محاصرا، وهذه أهمية الفكرة التي وردت في مخيال عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها «أحلام نساء/طفولة في الحريم» والمعنى في العنوان يؤول إلى نوع من حصارهن في فضاء الحريم، وكان محظورا عليها مغادرة غرفتها صباحا قبيل استيقاظ أمها، فابتكرت «التنزه جلوسا» ولكي تتحقق هذه اللعبة لا بد من توافر ثلاثة شروط للمرء، منها «أن يكون محتجزا في مكان ما» يفضي هذا الشرط إلى الرغبة في التحرر وتحقيق المستحيل على مستوى المتخيل، وهو ما يتوافق مع وقوف الإنسان الغزاوي أمام البحر، وتأمل امتداده في المطلق، وبالتالي الشعور بسقف الحرية غير المحدود، والعمل ضمن هذا الشعور واقعا، وإحساسه بالعيش محاصرا أدى به إلى إبداع صور الانفكاك من هذه الإعاقة، فكسر قيدها وهو ما تحقق على مستوى الأدوات الحربية التي أبدعها، من خلال تحرر المخيال وفق معطيات إلهام البحر، والحركة ضمن «مجال غزة» المحتل مع الرغبة في كسر الحصار النفسي والحصار الجغرافي.

روح الحلم وآلية النضال الرومانسي

كان مارتن لوثر كينغ يحلم بأن يتسالم السود والبيض في يوم ما، ولذلك أُطلق على خطابه الذي ألقاه عند نصب لينكولن «عندي حلم» والحلم هو المشترك الرومانسي بين نضالات كل الشعوب من أجل استرداد حقها في العيش والكرامة والحرية، والحلم في واقع الإنسان المستعمَر، يبدأ عند عتبة الإرادة فالمقاومة ثم حتما الحرية، والفلسطيني على العموم والغزاوي على الخصوص لا تخلو روحه من هذا «الحلم».. طبعا تختلف طبيعة الحلم من أمة إلى أخرى، لكن يبقى جوهره هو التحرر، وحلم الغزاوي يقف عند هذا المفصل الحاسم، ليؤكد فرادته في تاريخ تحدي الشعوب المناضلة لواقعها المشوه بظلم المحتل، لذلك أظهر بما يفوق أي تصور «شجاعة» أسطورية تغلبت على كل المشاعر، لتُنهض في إنسان غزة كل مقومات المحاولة الدائمة لعدم الخضوع وإنجاز «المعجزة».
يعي الغزاوي باعتباره إنسانا مقاوما ومناضلا من أجل التحرر، أن عليه أن يؤسس لسردية تتمثل في الشجاعة والشهادة وملازمة الأرض.. أسس لـ»حكاية» تُروى إلى الأبد، والإنسان على العموم يجيش في عمقه النفسي والجمالي هذا الإحساس بنسج حكاية من واقعه، لكنها ممزوجة بحلمه، فغارسيا ماركيز عاش ليروي حكايته، ولهذا كتب مذكراته بهذا العنوان «عشت لأروي». كتب إنسان غزة روايته بدمه عن حلمه بالشهادة وقوة تحكمه في مشاعره، الشهادة باعتبارها في عقيدته حياة، ولذلك ترى هذا التجاوز المعجِز للفقد، حين ترى عائلة بأكملها يؤبنها فرد تبقّى من عنقودها الوجودي، دون أن ترى تعابير وجهه عاكسة لعمقه النفسي، ما يوحي بأي علامة على الندم أو الحسرة.
حقيقة لا يمكن أن نجرد الغزاوي من مشاعره وضعفه كإنسان، وكجزائري عندما أقف أمام المقابلة التاريخية بين الثورتين أجد تلك الفظاعات الإجرامية التي ارتكبها الفرنسيون في حق الشعب الجزائري، وتجدني أحسب أعداد الشهداء، محاولا جمع تصور لمشاعر الجزائريين في تلك الحقبة، فلا أجد سوى الصبر والتجاوز، لأن تلك هي ضريبة التحرر.
إن «الحلم» باعتباره آلية نضالية رومانسية تضع الإنسان أمام مصيره نحو المستقبل، لأنه من غير الممكن إلا أن يحلم بغدٍ تشع فيه شمس الحرية، ولهذا وجدنا الغزاوي حتى وهو محاصر، تعكس سلوكاته فرح المتحرر في اتساع المكان الذي يشعر به ملكا له، ويؤكد ذلك، أنه بعد كل هدم تنهض غزة من رمادها، يبنيها حلم الغزاوي المكثف بالاستخلاف والعمارة.

ثقافية النفق بين البناء والحفر

عندما بنى إنسان غزة الأنفاق، لم يكن يبدع معمارا وظيفيا في خدمة المقاومة، وإنما كان يترجم بالدرجة الأولى دواخله العميقة، التي خزنت صورة للفضاء الغزاوي جمعت بين الحلم وإرادة الاستعادة. كان على وعي تام بأن ما ينجزه في باطن أرض غزة، هو صورة مثالية لظاهر الشكل الغزاوي، لأن المكان لا يغادر صاحبه، وبهذا تلتقي الأعماق النفسية لإنسان غزة بالمكان المادي، وهو ما يبني هوية الإنسان المقاوم داخل بوتقة الأرض التي يشعر ذاته حرا فيها، رغم كل قيود المحتل.
درجت السردية النضالية على تسمية سلوك إنسان غزة، وهو يحفر النفق ويهيئه بناءً، لأنه وهو يبدع هندسة النفق، إنما يتمثل ما فوق النفق، يسترجعه كمخيال يحمل بصمة الأرض التي يتوافق فيها الشكل مع المضمون، الظاهر مع الباطن، هو يشعر ذاته مالكا وصاحب سيادة تاريخية على الأرض/الوطن، لذلك جاء وصف البناء متوازنا مع توازن الشخصية في إنسان غزة الذي لديه حق في كل الأرض الفلسطينية، وبالتالي عندما يبني النفق فهو يبني التاريخ، جذر الأرض والإنسان والقضية، والنفق جذر عميق واستمرار للأرض التي فوقه، لا يشكل أي خطر عليها، لأنه يستهدف أساسا إعادتها إلى الوضع الطبيعي ما قبل الاحتلال المدعم بوقائع التاريخ وأحداثه ووثائقه. على العكس من وسم «البناء» في واقع أنفاق غزة، يشير الوعي الإنساني إلى سلوك الصهيوني النابش تحت أساسات المسجد الأقصى بـ»الحفر» لأن الصهيوني لا تهمه الأرض بقدر ما تهمه طرق السيطرة عليها، لأنه غير ثابت القدم فيها، فهو يبحث عن تاريخ مفقود وهمي تحت الأرض للبناء عليه، غير مدعم في متخيله بحلم الأرض الثابتة في الشكل الظاهر للجغرافيا الفلسطينية، والتاريخ العريق للإنسان وأثره عليها، لذلك وسم سلوكه بالحفر الذي يهدد ما فوق النفق، الذي لا يمثل جذرا له، هناك انفصال في البنية بين ظاهر الأرض الذي يمثل الجغرافيا، وباطنها الذي يمثل العمق النفسي للإنسان ومتخيله التاريخي المبني على البدايات المستمرة في الأرض كوشيجة تصل الفواصل بذاكرة تعي وتبني حلم الاستقرار وليس السيطرة، فالاستقرار قرار طوعي نابع من السند التاريخي، ولذلك نجد نيتشه يعيب على الفلاسفة افتقارهم إلى «الحس التاريخي» ويقرّ في كتابه «إنسان مفرط في إنسانيته» بأن «ما يلزمنا من الآن فصاعدا هي الفلسفة التاريخية» وعليه فنفق إنسان غزة تاريخي ذو جذر يثبت ظاهر الأرض، ومخيال الإنسان حولها، بينما نفق الصهيوني وظيفي يختلق التاريخ، تماما كما وصفه كيث ويتلام في عنوان كتابه «اختلاق إسرائيل القديمة/إسكات التاريخ الفلسطيني». وعليه فنفق الصهيوني خطر، لأن وظيفته الكذب على الأرض، ولذلك تنقطع أي علاقة بين النفق وما فوقه، وهو ما يهدد الواقع الجغرافي والتاريخي بالانهيار، وكل سرديات وسلوكات الصهيوني مآلها الانهيار كما تنهار أحلامه على أرضِ غزةَ النفق التاريخي.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية