غزة: صمود وشهادة في وجه جرائم الاحتلال

في ضربة إسرائيلية واحدة يوم السبت الماضي استشهد أكثر من 100 فلسطيني ليقترب عدد الشهداء الفلسطينيين الذين قتلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر الماضي من 40 ألفا، والعدد يتصاعد يوميا بدون توقف. وحتى الآن فشل العالم في وقف هذا النزيف المروّع.
وبرغم المعاناة ما يزال أهل غزة يتحدّون الاحتلال ويعبّرون عن استعدادهم لاحتضان «الشهادة» كطريق لذلك. وتنقل وسائل الإعلام الدولية تعليقات الأمهات على فقد فلذات أكبادهن، وهنّ يعبّرن عن استعدادهن لتقديم المزيد من التضحيات من أجل فلسطين. هذه الروح المفعمة بالإيمان والكبرياء والتحدّي أذهلت العالم بمن فيه قادة الاحتلال. ففي 19 يونيو الماضي قال المتحدث باسم قوات الدفاع الإسرائيلية، دانيال هاغاري إن هدف تدمير قيادة غزة لا يمكن تحقيقه: «إن السعي لتدمير حماس، أو إجبارها على الاختفاء انما هو لذر الرماد في عيون الرأي العام» مضيفا: «إن حماس عقيدة وليست حزبا، وهي مغروسة في قلوب الناس، فمن يظن أننا سوف نجتث حماس مخطئ». وما ينطبق على حماس يصدق كذلك على حركات النضال الإسلامية والوطنية التي يؤمن قادتها بالتضحية طريقا للنضال من أجل تحقيق الأهداف. وينطلق هذا القول على أساس مفهوم «الشهادة» التي تمنح الشعوب قوّة هائلة تعادل، وربما تتفوق، على قوة سلاح الجهات الرسمية كالجيوش وأجهزة الأمن. وما أكثر ما بثته وسائل الإعلام في الشهور الأخيرة من تصريحات لأقارب الشهداء الذين لقوا ربّهم مضرّجين بدماء الشهادة بعد أن قتلتهم قوات الاحتلال المدعومة من الغرب خصوصا أمريكا. فبرغم شعور الأمهات بالألم الشديد لفقد فلذات أكبادهن فإنهن يتمتعن بإيمان راسخ مؤسس على أمور ثلاثة: أولها الإيمان العميق بالله، ومن ضمن ذلك اعتبار الشهادة طريقا للخلود في الحضرة الإلهية مع الشهداء والصدّيقين، ثانيها: حب فلسطين كوطن من جهة وكملتقى للرسالات السماوية وكقضية إنسانية لا يجوز التخلي عنها من جهة ثانية. ثالثها: الدافع الشخصي المؤسس على مشاعر العزّة والكرامة والحرّيّة. وقد قال المتنبي سابقا:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم
بين طعن القنا وخفق البنود
لهذه الأسباب أصبحت غزة تجسيدا لأكبر تحدّ عملي وواقعي للاحتلال الإسرائيلي الغاشم الذي مرّ عليه أكثر من ثلاثة أرباع القرن. والواضح أن لـ «الشهادة» دورا محوريا في تعميق الرغبة في التضحية من أجل ما يعتبره الإنسان مقدّسا، كالوطن والحرّيّة والحق المسلوب. وقد أصبح واضحا أن تضحيات أهالي غزة ينطلق أغلبها بدوافع إيمانية ودينية. إذ لا يمكن تفسير صبر الأم التي تفقد اثنين من أبنائها او ثلاثة وتبقى مستعدة للتضحية بالرابع، إلا أنه ينبعث من إيمان راسخ بأن مردود تلك التضحية يفوق قيمتها. وهناك بعد آخر لهذا الاستعداد الخارق للعادة للفداء والتضحية، وهو تجاوز قوات الاحتلال كافة الخطوط الحمراء الأخلاقية والإنسانية والقانونية في استهداف أهل فلسطين. ولا شك أن مشاهد الدمار الشاملة للأبراج الشاهقة وتمزيق جثث الضحايا خصوصا الأطفال، تؤجج مشاعر الرغبة في التصدّي لذلك. وذلك نابع عن عمق الشعور بالكرامة وعمق الهوّية لدى أهل فلسطين، وهي الأرض التي كانت ملتقى رسالات السماء، والمكان الذي هزمت فيه الجيوش الأجنبية الغازية. إذ ليس هناك تفسير لهذا الحجم من العطاء والاستعداد للتضحية إلا بوجود عوامل ذاتية مختزنة في اللاشعور الفلسطيني، وأخرى إيمانية تدفع الإنسان للتضحية بالنفس، وهو أغلى درجات الجود والعطاء.

أصبحت غزة تجسيدا لأكبر تحدّ عملي وواقعي للاحتلال الإسرائيلي الغاشم الذي مرّ عليه أكثر من ثلاثة أرباع القرن

صحيح أن مصطلح «الشهادة» مرتبط في الوجدان العام بالإسلام وأنها حظيت بنصوص قرآنية واضحة، ولكن المفهوم طرح في مواضع عديدة وبمصاديق عملية متعددة: «ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه» «وأتمّوا الشهادة لله» «ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله». وجاءت نصوص أخرى ترتبط بالقتل في سبيل الله، وهو ما يعتبره المسلمون مصداقا للشهادة: «ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون». «ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله». هذه النصوص لا تطلق صفة «الشهادة» على من يفقد حياته من أجل أهداف مقدسة، مع ذلك فقد أصبحت كتب الفكر الإسلامي تتحدث عن «الشهادة» للتعبير عن من يقتل في سبيل الله. ويتكثف الحديث عن الشهادة في أجواء الحرب أو النضال من أجل الحرّيّة أو التصدّي للانحراف والفساد بشتى أشكالها. وحتى من لا ينتمي لدائرة الإيمان الغيبي لا يخلو داخله من شعور بقداسة تضحيته من جهة وأنه سيلقى أجرا في مقابل ذلك سواء بتحقيق انتصار في الدنيا أم ضمان الأجر الإلهي في الآخرة.
ولسنا بصدد مناقشة المفهوم وكيفية الوصول إليه أو اعتماده كتوصيف لحالة قصوى من الفداء والتضحية والعطاء. بل الموضوع هنا محاولة قراءة دور «الشهادة» وفق هذا التوصيف في تغيير مسارات الصراع الذي يتخذ أبعادا عقائدية أو إنسانية.
فما الذي يدفع المناضلين من غير المؤمنين بالمفهوم الديني للشهادة، إلى الصمود والثبات. ما الذي دفع المناضلين الأيرلنديين الذين كانوا معتقلين بسجن «ميز» البريطاني في بداية الثمانينيات، للإضراب عن الطعام حتى الموت، واحدا بعد آخر؟ فقد يموت شخص بعد أن يضرب عن الطعام فترة طويلة، ولكن أن يستمر هذا الإضراب ليحصد أرواح عشرة يهرع كل منهم للامتناع عن الطعام بعد وفاة سابقه، فهذه ظاهرة لم تتكرر كثيرا. فما عمق إيمان هؤلاء بالشهادة بمفهومها الديني؟ الأمر المؤكد أنهم كانوا مؤمنين بقضيتهم ومستعدين للتضحية من أجلها حتى بأرواحهم. يضاف إلى ذلك أن اختيار طريق «الشهادة» يعني وصول أساليب التغيير او التصدّي الأخرى إلى انسداد كامل وغياب أي أفق للحلول إلا بتقديم «التضحية القصوى» أي بذل النفس.
وما أكثر ما قيل عن الشهادة ومكانتها. وقد حدّد رسول الله ذروتها بقوله: سيد الشهداء حمزة، ورجل رد على حاكم جائر فقتله». وقال الشاعر: لا تبكه فاليوم بدء حياته، أن الشهيد يعيش يوم مماته. فالحديث عن الشهيد كثيرا ما يؤكد خلوده بعد موته، وهو خلود معنوي وقيمي وفكري، وليس جسديا. فما أكثر ذكر المناضلين الذين ضحّوا بأرواحهم من أجل قضاياهم. هؤلاء يتحوّلون إلى أيقونات منيرة لغيرهم، خصوصا من انصهر في قضيته فأصبح لا يرى غيرها، ولا يعتبر لحياته قيمة إذا لم تنجح تلك القضية. هذه مشاعر المناضلين ضد الاحتلال الأجنبي لبلدانهم، والمتصدّين للظلم والاستبداد في أوطانهم، والناهضين من أجل الدفاع عن المحرومين والمظلومين وضحايا الاستغلال والاستضعاف. وتمثل غزة اليوم ميدانا حافلا بمن ينطبق عليه مفهوم «الشهادة» فعلى ارضها شعب مظلوم مستهدف من احتلال غاشم يمارس القتل الإجرامي الخارج عن القانون على أوسع نطاق. هنا يمكن استبدال كلمة الموت بالشهادة لكل من يفقد حياته بالصواريخ والمسيّرات الإسرائيلية. وبرغم انعدام توازن القوى بين المحتلين وأصحاب الأرض الأصليين، أصبح أهل غزة أكثر إيمانا بأن الشهادة أصبحت طريقهم للحرّيّة، وأصبحوا يؤمنون بشكل متزايد بحتمية انتصار الدم على السيف. لذلك تستمر المعاناة ومعها يتجذّر الأمل بحتمية تحرير الأرض ودحر المحتل. إنهم يرون في الشهادة سلاحا لا يمكن هزيمته، فالإنسان صانع النصر وليس السلاح المادّي فحسب. وما أشد التباين بين قناعات الأمهات بحتمية انتصار قضية شعبهن، وقناعات جنرالات الحرب الإسرائيليين الذين يصرّحون علنا باستحالة هزيمة المقاومة الفلسطينية ودحض ما يقوله نتنياهو.

كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فصل الخطاب:

    اللهم نصرا عزيزا مؤززا لأحرار غزة العزة و الصمود على حثالة الحلف الصهيو صليبي الأمريكي البريطاني الغربي الحاقد الغادر الجبان الذي عاث سفكا بدماء الفلسطينيين منذ 1948 ✌️🇵🇸☹️☝️🚀🐒🚀

  2. يقول هدهد سليمان:

    قطاع غزة المعجزة الاهية.
    جيب جغرافي صغير لا تكاد تراه على الخريطة ليس بدولة فلا جيش ولا ترسانة مع حصار ظالم مطبق من جيرانه مسلمي الزمان الرديء ونصرة وموالاة للعدو على عكس ما امرهم الله به تماما.
    ومع ذلك لم تستطع أقوى قوي الشر العاتية في هذا الزمان العربي الرديء، القوى الأشد فتكا في التاريخ منذ ادم والحية إلى يومنا هذا، لم تستطع كسره ولن تستطيع.
    لا استسلام، فنحن لا نوقع كما وقعت ألمانيا نحن افضل. لا استسلام فنحن لا نوقع كما وقعت اليابان نحن افضل. لا استسلام فنحن هامات عالية تناطح السماء لا مثيل لها في علوها وسط اقزام صغار.
    لا تنحني لكاءن ما كان. فقط تنتصر او تستشهد
    انه النصر الالهى المظفر بتوقيع جهاد نصر او استشهاد حيث هذا التوقيع هو عنوان النصر وتركيع امريكا واسراءيل، حيث الرصيف العاءم صنيعة أيديهم لم يستجب لهم وشارك في هزيمتهم.
    انها كلمة السر “جهاد نصر او استشهاد”

    1. يقول فصل الخطاب:

      كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ✌️🇵🇸✌️

اشترك في قائمتنا البريدية