في أعقاب وقف إطلاق النار في غزة الذي دخل حيز التنفيذ الأحد الماضي، وسمح على إثره ببدء وصول النازحين إلى المناطق التي انسحب جزئيا منها الجيش الإسرائيلي، تكشف حجم الدمار الهائل الذي أصاب مناطق سكنية كاملة، كما تكشف خلال تفقد المواطنين لمنازلهم وجود عشرات الجثث بجانب البيوت وفي الطرقات العامة، وكانت غالبيتها متحللة، ما أصاب المواطنين بالذهول نتيجة المشاهد القاسية. مدينة رفح أقصى جنوب القطاع ومنطقة شمال قطاع غزة، كانت أولى المحطات التي يسمح للنازحين منذ بدء العملية البرية في المدنية مطلع أيار/مايو الماضي، بالعودة إلى بعض المناطق البعيدة عن تمركز الجنود الإسرائيليين، سواء على محور فيلادلفيا ومنطقة إيرز أقصى الشمال، حيث مسحت أحياء كاملة، وغالبية البيوت تحتضن بين ركامها رفات أعداد كبيرة من الشهداء.
فرق الدفاع المدني التي خرجت منهكة من حرب الإبادة، بعد تعرض عناصرها ومعداتها وسياراتها و17 موقعا للاستهداف المتعمد خلال الحرب، بدأت وبامكانيات متدنية عملية البحث والنبش بين البيوت المهدمة عن جثث الشهداء، فمنذ اليوم الأول انتشلت الطواقم أكثر من 47 جثة عبارة عن هياكل عظمية، جميعها كانت في الطرقات وبين الأزقة، وهناك أعداد كبيرة تحت ركام المنازل، ويجري البحث عنها بأدوات بدائية لعدم توفر الامكانيات.
منطقة شمال قطاع غزة مخيم جباليا ومدينة بيت لاهيا وبيت حانون، تعرضت لإبادة وتدمير غير مسبوق، بعد أن شن الاحتلال الإسرائيلي عملية كبيرة ضمن ما يعرف خطة الجنرالات، تم على إثرها تدمير جميع هذه المناطق، وقتل السكان وتجويعهم واتباع سياسة التطهير العرقي بحقهم، فبعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، توجه النازحون إلى تلك المناطق، وأحزنهم ما شاهدوه، حيث جثث الشهداء تتناثر في كل مكان شمال القطاع، وعشرات المنازل لا يزال تحتها الكثير من المفقودين، بعد أن استهدف الاحتلال كل منزل في مدينة بيت لاهيا التي شهدت مجازر دامية بحق السكان الذين هربوا من مخيم جباليا إليها.
في مدينة رفح تخرج فرق الدفاع المدني في كل صباح حتى حلول المساء برفقة أهالي المفقودين، للبحث عن أبنائهم وأقاربهم، وكذلك الحال في باقي مناطق القطاع التي انسحب منها الجيش جزئيا، وفي كل يوم يتم انتشال بعض الجثث التي تكون في أماكن يسهل انتشالها، بينما تحاول الفرق باستخدام الجرافات نبش الركام للوصول إلى الجثث أسفل البيوت المهدمة، في مهمة إنسانية مخيفة وشاقة.
خلال مرافقة مراسل «القدس العربي» فرق الدفاع المدني في حي تل السلطان غربي مدينة رفح بعد دخول الهدنة ساعاتها الأولى، بدأت الفرق انتشال أعداد كبيرة من جثث الشهداء من بين منازل المواطنين المهدمة، لاسيما منطقة الحي السعودي، حيث تناثرت أشلاء الشهداء بفعل القصف العنيف في كل مكان، وعثر على هياكل عظمية لا يمكن معرفة هويتها، ما زاد الأمر تعقيدا بالنسبة للجهات الصحية، التي تجد صعوبة في معرفة هوية وأسماء الشهداء.
وتعمدت إسرائيل استخدام أسلحة محرمة دوليا، وكشفت الجهات الطبية عن استخدام قذائف تعمل على إذابة أجساد المواطنين، وهذا ما سرع من وتيرة تحلل جثث الشهداء وأخفى ملامحهم، وصعب كشف هويتهم.
يقول الضابط في جهاز الدفاع المدني وحيد جودة، «منذ الساعات الأولى للهدنة بدأنا بالتوجه إلى مدينة رفح لتفقد الأحياء ومحاولة إنقاذ من هم على قيد الحياة من المحاصرين داخل المنازل، وانتشال الجثث التي تركت لأشهر في الشوارع وتحت ركام البيوت المدمرة.
وأضاف لـ«القدس العربي» أن رفح تحولت إلى مدينة أشباح بعد الدمار الكبير الذي حل بأحيائها، فلم يعد هناك منزل إلا ودمر سواء بشكل كامل أو جزئي، وهناك عدد كبير من المنازل تحت أنقاضها مئات الجثث لمواطنين تم قصف البيوت فوق رؤوسهم دون سابق إنذار، وكنا على علم بتدمير تلك البيوت، لكن كنا غير قادرين على الوصول إليهم، رغم المناشدات للصليب الأحمر من أجل التنسيق لإنقاذ العائلات، لكن الاحتلال كان يرفض أي محاولة للدخول وإنقاذ الجرحى».
وبين أن «هناك مناطق يمنع الجيش الإسرائيلي المواطنين دخولها وهي قريبة من محور فيلادلفيا، ومنها مخيم الشابورة والبرازيل وغيرها، ولا تزال شوارعها تعج بالشهداء، وحاولنا الدخول إليها لكن قناصة الاحتلال والدبابات القريبة من هذه المناطق تطلق النار تجاه كل من يحاول الاقتراب منها».
وأشار إلى أن جهاز الدفاع المدني في غزة يعاني منذ سنوات طويلة من حصار خانق في المعدات والآلات، حيث أن الاحتلال يمنع دخول المركبات وقطع الغيار إلى غزة منذ عام 2006 وهذا شكل عائقا كبيرا أمام مهام الطواقم العاملة في الميدان.
ويقول مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة، «بعد توقف حرب الإبادة التي امتدت على مدار عام ونصف، نواجه معاناة قاسية وألما لا يوصف أمام مشاهد الدمار والقتل والخراب، الذي تعمد الاحتلال ارتكابها سواء في مدينة رفح وشمال قطاع غزة وباقي مناطق القطاع».
وأوضح لـ «القدس العربي» أن تقارير عمل جهاز الدفاع المدني مقلقة في أعقاب الانتشال المستمر لجثث الشهداء والمفقودين من بين المنازل المدمرة، ولا يعرف هوية هؤلاء الشهداء الذين هم عبارة عن بقايا عظام، مبينا أن هذا الأمر يحتاج إلى خبراء من الطب الشرعي يمكنهم فحص الجثث ومعرفة هويتهم وإبلاغ ذويهم الذين باتوا على أمل بعودة أبنائهم يوما ما.
وأكد الثوابتة أنه بعد انسحاب الجيش بشكل كامل من غزة خلال المرحلة المقبلة، سيتكشف دمار ووجع أوسع، كون أن هناك مناطق سكنية دمرت على من فيها من سكان ولم يتمكن أحد من الوصول إليهم، حيث سيتم الكشف عن مجازر طالت آمنين في منازلهم.