منذ بدء حرب التعذيب الإسرائيلية في غزة قبل أربعة أشهر ونصف، سيطرت المقاربات الحقوقية لتمثيل أوضاع القطاع المنكوب، فصار يجري الكلام على جينوسايد أو على جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، ترتكبها إسرائيل بحق فلسطينيي غزة (والضفة الغربية). وهذا أمر مفهوم لأنه يتوافق مع الاستناد إلى القانون الدولي ضد المعتدين، ويساعد في حشد الانفعالات المضادة للجرائم الإسرائيلية. وبينما لا تستبعد اللغة الحقوقية حتماً تضمينات سياسية لجولة الصراع الجارية، ويتكلم كثيرون اليوم على حل الدولتين أو قيام دولة فلسطينية من نوع ما، فإن هناك مفهوما سياسياً، أنسب لشرح ما يجري دون أن يكون غير حساس حقوقياً: مفهوم الفاشية. ما نراه في غزة هو الحل الفاشي، التدمير الكلي لمجتمع تجاسرت قطاعات منه على توجيه لطمة قوية للسادة أصحاب الامتيازات الذين يحظون باستثناء مستمر من العدالة والقانون الدولي، منحه لهم أصحاب امتيازات أرسخ قدماً، أهمها امتياز السيادة في تقرير الاستثناء أو تعليق القانون (كارل شميت): القوى الغربية. الفاشية هي الحل الذي يلجأ إليه السادة أصحاب الامتيازات في مواجهة تمردات التابعين الذي يزعمون أن لهم حقوقاً ويطلبون المساواة. والإبادة مكتوبة سلفاً في أي مشروع فاشي من هذا الصنف، وإن أخذت شكلاً ممتداً وبارداً، وليس حتماً مشتداً وساخناً مثل أشهر الإبادات المعروفة. بوصفها سيادة ممتازين رافضين جوهرياً للمساواة، تتضمن إسرائيل في كيانها بالذات إبادة الفلسطينيين.
يحدث أن نقول إن إسرائيل لن تنجح قط في سحق الفلسطينيين، وأن مقاوماتهم مستمرة بعد 76 عاماً من إقامة الكيان، وأزيد من قرن من بدء المشروع الصهيوني. هذا بطبيعة الحال ليس خبراً طيباً لإسرائيل وشركائها، لكن هناك خبرا ليس طيباً للجميع في العالم إن لم يكن ذلك صحيحاً، أي إن تمكنت إسرائيل من سحق مقاومات الفلسطينيين وتحويلهم إلى نثار بشري بائس، دون السياسة ودون الحقوق؛ ومضمون هذا الخبر هو أن الفاشية تنجح، أن المشروع الفاشي فعال وناجع، بل أنه الحل. ألم نر ذلك في سوريا يا ترى؟ لقد كان الحل ناجحاً ومضى بلا عواقب، رغم أنه جرى بأسلحة محرمة دولياً وباستهداف نسقي للمدنيين والمرافق المدنية، حتى أن إسرائيل بالذات تتمثل به، وتجد في أن يحظى ركيك مثل بشار الأسد بمثل هذه الرخصة، وينكر عليها هي شيء مماثل، أمراً شاذاً (في واقع الأمر، إسرائيل بالذات كانت وراء الرخصة للحكم الأسدي، مفضلة إياه على أي بديل، بشهادة دورها في الصفقة الكيماوية الأمريكية الروسية في أيلول 2013).
ما يجعل خبر نجاح الفاشية الإسرائيلية سيئاً للجميع هو إمكانية تعمم الحل الفاشي عالمياً في مواجهة أزمة الديمقراطية الليبرالية المتفاقمة وفي غياب بدائل تحررية، تعالج أزمة الديمقراطية من يسارها
وما يجعل خبر نجاح الفاشية الإسرائيلية سيئاً للجميع هو إمكانية تعمم الحل الفاشي عالمياً في مواجهة أزمة الديمقراطية الليبرالية المتفاقمة وفي غياب بدائل تحررية، تعالج أزمة الديمقراطية من يسارها. نرى منذ سنوات تراجع تيارات الوسط أمام صعود اليمين القومي والديني والحضاري في بلدان الغرب المركزية. الاستراتيجية التي تعتمدها هذه التيارات في مواجهة اليمين المتطرف هي تبني عناصر من لغته وبرنامجه المضاد للمهاجرين واللاجئين، من أجل الفوز عليه في الانتخابات. المحصلة هي انزياح السياسة بمجملها نحو الانتخابات، وانزياح المشهد الانتخابي بمجمله نحو اليمين، دون النجاح بعد هذا كله في إضعاف قوى اليمين التي تصير بالعكس جزءاً طبيعياً من المشهد السياسي، بعد أن كانت على هوامشه البعيدة المتطرفة. وهذا لأن قوى اليمين هذه هي المدافعة الأصلب عن نظام الامتيازات داخل بلدان الغرب ضد المهاجرين والملونين الباحثين عن فرص حياة، النظام الذي تعمل من ضمنه تيارات الوسط ويسار الوسط على الصعيد العالمي، وتغيب مساءلته بقدر كبير من أفق التفكير والممارسة. التناقض البنيوي لعالم اليوم يتمثل في أن نظام القوى القائدة في العالم يقوم على الامتياز لا على الحق، وعلى الاستثناء لا على القانون، وهو ما يثير مقاومات تمثل غزة مثالاً مُوضَّعاً، مخبرياً تقريباً، عنها، وعن الحل الفاشي في مواجهتها. من شأن اتساع مقاومة نظام الامتيازات، وهذا غير مستبعد لأن مئات ملايين البشر يجدون أنفسهم مهمشين فيه، أن يدفع إلى تفجر الكوامن الفاشية في النظام على يد تيارات اليمين الصاعدة، أو على يد قوى «المينستريم» ذاتها. ولا يبدو أن ذلك يواجه اليوم بمعارضات تحررية نشطة، رغم أصوات فكرية وأكاديمية شجاعة. بالعكس، إذا كانت غزة مثالاً يستأنس به، فقد رأينا نموذجاً غير مشرف للوقوف صفاً واحداً وراء حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، دون أن يشعر أحد بضرورة قول شيء مماثل عن الفلسطينيين ما دام الأمر يتعلق بحق، وما دام جوهر الحق هو عمومه أو قابليته للتعميم. ذلك أن ما لا يقبل التعميم، ما يقتصر على بعض الأطراف، هو امتياز وليس حقاً. وهذا ما نقوله، وما نقول إنه نظام وقاعدة مستقرة، وليس استثناء أو حدثاً طارئاً. ولأنه كذلك فإن الفاشية والحكم بالإرهاب أقدر على الدفاع عن هذا النظام من ديمقراطية لا تكف عن التراجع إلى آلية انتخابية، وتضمحل فيها الفروق السياسية بين التيارات المختلفة.
أوضاع عالم اليوم تبدو قريبة من أوضاع ما بين الحربين، وبخاصة بعد أزمة أواخر العشرينيات الاقتصادية، والصعود الفاشي الذي أعقبها. قد نكون في وضع مماثل بفعل الأزمة الذاتية للديمقراطية الليبرالية في بلدان الغرب، والمثال الفاشي الذي تضربه إسرائيل (والهند قبلها) وصعود انفعالات عالمية مضادة لعالم الممتازين بشهادة التضامن المتصاعد مع فلسطين في كل مكان، والقضية التي رفعتها جنوب أفريقيا على إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.
ولا وجه لأن يقال إن النجاح في تدمير المجتمع الفلسطيني غير ممكن، فنحن نراه بأعيننا، مرعياً من قبل القوى الغربية بالسلاح والمال والإعلام، والمشاركة البشرية والتكنولوجية المباشرة. وليس إلى جانب الفلسطينيين سند عربي فاعل، بل هو أقرب إلى سندان، ينحشرون بينه وبين المطرقة الإسرائيلية. ألم نر للتو تقريباً تدمير المجتمع السوري؟ ألا نراه مستمراً اليوم؟ صحيح أنه يقف إلى جانب فلسطين متضامنون دوليون، بمن فيهم دول بعيدة، وهذا بحكم كون أعداء فلسطين عالميي العالم، سادته وأكابره ونجومه، خلافاً لأعداء السوريين الذين يبدون للبعض، بالأحرى، جبهة ضد أولئك السادة (وهذا في غاية البطلان). لكن جبهة داعمي فلسطين الدولية، على أهليتها الأخلاقية الرفيعة، ليست في وضع يؤهلها لوقف التدمير الجاري للمجتمع الفلسطيني.
منطقتنا التي تشكل حقل تجريب للحل الفاشي مدعوة مثل غيرها على الأقل إلى المساهمة في مواجهة عالم الامتيازات وأزمة الديمقراطية الليبرالية على أساس من عمومية الحق، وليس مواجهة نظام امتيازاتهم بنظام امتيازاتنا نحن مثلما هو طابع مقاومات الإسلاميين، ومثلهم وأكثر الروس والإيرانيون، المسؤولون أكثر من غيرهم عن تدمير سوريا.
لسنا في وضع طيب من أجل مواجهة عالم السيادة والامتيازات. الواقع أننا في أسوأ حال منذ الحقبة الاستعمارية أي خلال قرن، ويبدو إقليمنا بالأحرى خاوياً من طاقة التجدد الروحية والأخلاقية، أي طاقة الحرية. وهذا ما يحكم على أي مقاومات جسورة من جهتنا بأن تبقى عقيمة، أو حتى أن تندرج في ترسيخ أوضاع التعفن والإفلاس الفكري والسياسي والأخلاقي الذي نغرق فيه. لكن هذا موضوع آخر، ويدعو إلى مناقشة أخرى.
كاتب سوري
تحليل ممتاز
شكرا
شكرًا أخي ياسين الحاج صالح. في الحقيقة وضعت النقاط على الحروف. مايدور في ذهني مع ذلك لقد تغاضى أوباما، وربما يعتبر تواطئ بالنظر لدعمه الإحتلال الروسي، عن فاشية النظام السوري أو بالأحرى فاشية بشارون أسدوف وربما كما يرى الكثيرون ضماناً لأمن إسرائيل مما أدى إلى انتصار ترامب في الإنتخابات الرئاسة الأمريكية وصعود الفاشية، وبايدن يعيد “الخطأ” ذاته إن صح التعبير وترامب يرى نفسه أنه سيعود إلى الرئاسة، فهل سيعود! سيكون ذلك ضربتين على الراس مما يقول المثل. من جهة أخرى وبكل أسف نرى أن معظم الأنظمة العربة ترى نفسها أنها تنتمي إلى عالم الأمتيازات وليس عالم الحقوق! وأصبحنا نرى في جنوب أفريقيا ودول أفريقية وجنوب أمريكية أكثر تمثيلًا لنا كشعوب في هذا العالم.
بوركت أيها المفكر الكبير ياسين. فكتاباتك تتسم دائما بالعمق و الدسامة وبعد النظر، و هذا ينم عن شخصية واسعة الإطلاع، و عن تجربة كبيرة في دهاليز الفكر و السياسة