غزّة: حين تتواطأ الثقافة والسياسة

استعدتُ موقفين تاريخيين يوم بادرت كوكبة من المثقفين العرب إلى توجيه رسالة انتقادية، مصحوبة بعتب شديد إلى نظرائهم مثقفي الغرب، إثر الحرب الوحشية التي شنّتها «إسرائيل» على الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزّة.
الأول – بيان للمثقفين الأمريكيين الستين، الذي أعقب تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك (11 أيلول/ سبتمبر 2001) والذي راح ضحيته نحو ثلاثة آلاف إنسان من المدنيين الأبرياء. حينها، قُرعت نواقيس الخطر، وحشدت الإمكانات والدعاوى والحجج الأيديولوجية والسياسية للحديث عن «الخطر الإسلامي» بعد زوال «الخطر الشيوعي» الذي يهدّد الليبرالية، التي لن يهدأ لها بال ما لم يتم القضاء عليه سياسيا وفكريا واقتصاديا ونفسيا، إذْ بدحره يمكن للعالم «المابعد تاريخي» حسب فوكوياما، السير في طريقه نحو السعادة، وحسب هنتنغتون تطويع الحضارات الأخرى لإعلان ظفر الليبرالية نظاما سائدا ووحيدا للعالم الجديد.
والثاني – موقف منظمة العفو الدولية، بعد العدوان «الإسرائيلي» على غزّة أواخر عام 2008، حيث أصدرت تقريرا اعتبرت فيه الجاني والضحية في كفّة ميزان واحدة في خرق القوانين الدولية لحقوق الإنسان. وكنت قد وجّهت رسالة وكلمات عتب مملّح لها في مقالة نشرتها في صحيفة «العرب» (القطرية) في 9 آذار/ مارس 2009، دعوت فيه إلى حوار معرفي وثقافي وحقوقي، ومن المواقع ذاتها، خصوصا إزاء حساسية الضحايا وما يصيبهم وما يلحق بهم من أذى وانتهاكات لحقوقهم، مع تقديري لرصانة منظمة العفو الدولية ومهنيتها ودورها في الدفاع عن حقوق الإنسان.
ومثقفو الغرب الذين دعاهم بيان المثقفين العرب إلى الحوار واستنكار الجرائم المرتكبة بإعلان صريح، وتأكيد للحقوق الوطنية الثابتة للشعب العربي الفلسطيني، غضّوا النظر عن ذلك، فانحاز بعضهم إلى جانب المعتدي، أو تواطأوا معه، في الوقت الذي يتمّ فيه تجريف غزّة وترحيل أهلها، في إطار عملية ترانسفير شاملة، فضلا عن آلاف القتلى والجرحى. المشكلة لدى بعض المثقفين الغربيين تكمن في ازدواجية المعايير، إذْ لا يمكنهم التفريق بين شعب مهدور الحقوق والكرامة، ومجموعة إرهابية صغيرة مثل تنظيم القاعدة أو داعش وأخواتها، وهذه ليست حكرا على منطقتنا، فالكثير من الجماعات التي مارست العنف وأقدمت على عمليات إرهابية موجودة في الغرب أصلا، وتتّخذ أسماء مختلفة.

وقد تصدّى المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد يومها لتلك الحملة، التي شارك فيها عدد من المثقفين، بينهم: جوديث ميلر وصاموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس وستيفن إمرسون وباري روبن، وشارك فيها عدد من المثقفين والأكاديميين «الإسرائيليين» الذين ركّزوا على «خطر الإسلام» وحاولوا إلصاق ممارسات العنف والاستبداد والإرهاب به.
إن هذه المواقف تشكّل تجاوزا على القيم والمبادئ الإنسانية، وعلى العقلانية النقدية التساؤلية، التي يُعرف بها المثقفون عادة، فالمثقف ينبغي أن يكون أكثر حساسية من غيره إزاء الظلم والعنف والانتقام، وإلا فإنه سيوظّف وسيلته الإبداعية المعرفية في غير محلّها، في حين يقتضي العقل والأخلاق والثقافة الانحياز إلى العدل والضمير والمشتركات والقيم الإنسانية. ومثلما قرع البيان الثقافي الأمريكي طبول الحرب، بل وأضفى شرعية عليها، تلك التي وجدت مبرّرات لها في اجتياح أفغانستان عام 2001 وغزو العراق عام 2003، يحاول بعض المثقفين الغربيين اليوم، باسم «العدالة العمياء» و»الحرب الوقائية» تبرير استمرار الجرائم في غزّة، بما يشجّع روح الثأر والكيدية وكراهية الآخر.
إن المثقفين العرب، بتعاملهم مع أقرانهم المثقفين الغربيين، يميّزون بين مفهوم الغرب السياسي والغرب الثقافي، فالأول قائم على المصالح والأيديولوجيات والنظم التي لا تمثّل بالضرورة قيم الحضارة الحديثة، في حين أن أجزاء من الغرب الثقافي تنحاز إلى قضايا الشعوب والحريّات، وبالصدارة منها القضية الفلسطينية، ويتجسّد ذلك عمليا بالتضامن مع غزّة وأهلها، خصوصا بالدعوة إلى وقف القتال فورا، والتوجّه صوب حلّ يضمن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وبناء دولته الوطنية وعاصمتها القدس الشريف. وإذْ يتقاسم المثقفون العرب والغربيون الإيمان بالقيم الإنسانية والمبادئ العليا المشتركة، فإنما لأنهم مثقفون أولا، يؤمنون بقيم السلام والتسامح والجمال والمساواة والعدل، وثانيا، لأنهم ينحازون لصالح الإنسان ضدّ التعصّب والعنصريّة والحرب والقبح والظلم.
نعم، ثمة شعور قوي لدى المثقفين العرب، بأن ثمة فجوة كبيرة بينهم وبين العديد من المثقفين الغربيين، الذين يتبنّون نظريا القيم الإنسانية المشتركة، والواقع العملي، إذْ كيف يمكن لمثقّف مناصرة الجلاد والمعتدي على حساب حقوق الضحية المُعتَدى عليها والمحتلة أرضها؟ وكيف يمكن لمثقّف حرّ أن يلوذ بالصمت حين يتعلّق الأمر بفلسطين، والجرائم المتكرّرة بحقّها؟ إن مثل هذا السلوك يعكس التناقض الصارخ بين الفكر والواقع، بما يمسّ صميم رسالة المثقّف وجوهر ثقافته، لاسيّما حين يجري الخلط المتعمّد بين المقاومة والإرهاب، فهل يمكن وصف المقاومات الوطنية في أوروبا للنازية والنازيين بأنها حركات إرهابية، مثلما يوصف المقاومون الفلسطينيون؟ إنه سؤال برسم المثقفين الغربيين الأحرار. وغزّة هي العنوان.

أكاديمي وكاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية