يمكن القول بأن الأدب الفلسطيني بدأ يتلمس إشكالية الشّتات منذ اللحظة التي اصطدم فيها وعي الإنسان الفلسطيني بالنكبة، التي تطلبت منه اختبار فعل الارتحال الذي كان في طابعه جمعيا، فجاءت روايات الكتابة الأولى للأسلاف أو آباء الرواية الفلسطينية، معبرة عن لحظة الشّتات بتكوينه الخام والمبدئي، إذ لم يتكون الإدراك بأن هذه التجربة قد تمتد في الزمان والمكان، إنما كان ينظر لها على أنها مؤقتة، أو طارئة يمكن أن تجهض، وأن تنتهي في يوم ما عبر الفعل والإرادة، أي أنه ثمة أمل ما بأن هذا الحدث لن يكون جزءا من قدر محتوم.
ولعل هذا يظهر من خلال الاشتغال النصي الذي كان بعيدا عن فعل التأمل للأثر على المستوى البعيد، ولا سيما من حيث إشكالياته في السياقات ما بعد الكولونياليّة ضمن مستوى الهوية، واللغة، والتنازع الوجودي، باستثناء فقط تقديم مبدأ المقاومة على غير ذلك من المستويات، وإن امتثلت تلك الأعمال لبعض القضايا الأقل جوهرية، غير أن هذا لا يمنعنا من التسليم بأن التكوين الخطابي السردي بدا متنافرا مع الأعمال اللاحقة التي نتجت بعد سنوات أو عقود من تحقق النكبة، وتتمثل بتولد قناعات بأن العودة باتت صعبة، ولا سيما في ظل تراجع المشروع التحرري الوطني القائم على المقاومة، واستبداله بنهج السلام الذي أتاح عودة قطاعات محدودة من القيادات، في حين أن معظم الشعب الفلسطيني ما زال قابعا في المخيمات يراقب تفكك الثوابت الوطنية القائمة على حق العودة، والقدس نتيجة مغامرة اتفاقية أوسلو. لا شدك في أن هذه السياقات شرعت تلقي ظلالها على الإنشاء السردي، والأيديولوجي للرواية الفلسطينية المعاصرة، وبالتحديد من حيث البدء في قراءة العلاقة بين الإنسان المشتت والأمكنة البديلة، غير أن الكتابات الأولى، ولا سيما روايات غسان كنفاني تمحورت حول الخروج بما ينطوي عليه من ألم ومأساة، فغسان كنفاني بوصفه كاتبا مهجّرا، وقع على بعض تلك الملامح لأزمة الارتحال، بوصفها حالة تنمّ عن الاقتلاع المفاجئ واليائس، فاستطاع أن يقيم وضعية مضادة للشتات عبر محاولة خلق تمثيلات إنشائية معاكسة تتصل برفض هذا الناتج، مع الاستناد إلى خطابات المقاومة التي تعلي من شأن النضال، على عكس الكتابات التي نشأت بعد أوسلو، ومن أهم ما يميزها – على مستوى الثيمات والتوجهات- هذا الشروع نحو البحث عن قيم الاندماج والتكيف، في حين أن روايات غسان كنفاني تناقض هذا النهج، ومن ذلك رواية « أم سعد»، ولاسيّما عبر شخصية «أم سعد» التي تتخذ من المخيم فضاء لرؤية الشتات، حيث نرى من خلالها معاني اللجوء مجسدة. ففي مفتتح الرّواية تحضر أم سعد معها «عرق دالية» كي تزرعه في المخيم. هذا النهج السّردي الرمزي يحيل إلى تقويض إشكالية الاقتلاع، إذ تبقى قيمة العودة للوطن حاضرة، بوصفها أملا قريب التحقق، فأمل العودة يبدو معقولا، أو أنه ما زال قائما في الوعي القريب، وهكذا نجد أن عين الروائي تبقى موجهة نحو المقاومة، والاحتفاء بها، ويتجلى هذا في توصيف الأفراد الذين يرتدون الكاكي المدججين بالسلاح، ما يعد نوعا من نفي الإهانة، والفقر نتيجة الخروج من فلسطين. ولعل عبارة «أبي سعد» تختزل هذا المنظور حيث يقول: «البارودة مثل الحصبة، تعدي»، في حين أن خيمة الفدائي تختلف عن خيمة اللاجئ، والمستسلم، وهنا نستحضر مقولة أم سعد «خيمة عن خيمة تفرق»، وهي تعني خيمة ابنها الفدائي الذي تتوق للذهاب معه للنضال .
عين الروائي تبقى موجهة نحو المقاومة، والاحتفاء بها، ويتجلى هذا في توصيف الأفراد الذين يرتدون الكاكي المدججين بالسلاح، ما يعد نوعا من نفي الإهانة، والفقر نتيجة الخروج من فلسطين
إن المخيم من منظور «أم سعد» لا شيء سوى حبس، فكل شيء خارج فلسطين يغدو سجنا كبيرا، ولا سيّما إذا كان يعني الاستسلام، فالشّتات لم يكن سوى تجسيد متحقق لفقدان الحرية، والتسليم بالهزيمة، وهنا نكتنه مفهوما معقدا لمعنى الشّتات، فالكثير من المشتتين سوف يستشعرون هذا الإحساس الذي التقطه غسان كنفاني، ولكن بدون البحث في تداعيات الشّتات على الشخصية الفلسطينيّة، في سياقها المعاصر الذي غدا أكثر تعقيدا، وتحديدا بعد مرور أكثر من سبعة عقود. لقد طرأ تحول على هذا المفهوم، حيث شرع النهج الواقعي في إدراك أن ثمة حاجة للنظر إلى التصالح مع الأوطان الجديدة، مع التأكيد في الأدبيات الفلسطينية على عدم التنازل عن حق العودة، وهذا ما نرصده في روايات الأجيال الجديدة التي تكتب عن فلسطين بوصفها مكانا يُزار عبر جواز سفر غربي، مع توقير وطن الشتات، ولا سيما إذا كان بلدا غربيا يحترم حقوق الإنسان، وينطوي على قدر من الرفاه على عكس المخيمات، وبهذا فإن ثمة منظورا ثنائيا، هو نوع من الاستقرار لهذا النهج، في حين أن الفلسطينيين المهجرين في المخيمات داخل رقعة العالم العربي ينتهجون نهج نبذ الأوطان البديلة، والتعلق بحلم العودة.
في أحد الحوارات السردية لكنفاني نقرأ مستوى من التعبير اللفظي المعني بمقاومة الشّتات، وأمل العودة، فهنالك لغة جديدة وحالة اصطلاحية يتطلبها الشّتات؛ ولهذا نجد مفردة «سيرجع» بديلا عن «سيذهب»، فالمنفى يعيد تشكل اللغة، ووعينا بمعنى أن نكون في الطارئ، ونتوق للعودة: «ولاحظت بنفسي. كيف قالت إنه «سيرجع» ولم تقل أنه «سيذهب» ولكنني لم أفكر كثيرا، كانت أم سعد قد علمتني طويلا كيف يجترح المنفى مفرداته، كيف ينزلها في حياته كما تنزل شيفرة المحراث في الأرض». لا ريب في أن «أم سعد» ما زالت ترفض المخيم، واللجوء، وترغب في العودة إلى حيث ذهب ابنها سعد؛ أي إلى فلسطين كي ترغب في التخلص من هذا الوحل الذي علقت فيه، ومع أن مفردة «الوحل» تعبر عن معاناة «أم سعد» في حياتها اليومية بوصفها خطابا دنيويا، ولاسيّما عند سقوط المطر، غير أنها تحتفي بدلالة واضحة تنهض على تجسيد حياة الفلسطيني في الشّتات، عبر نبذه، وإلصاق متتاليات من التمثيلات السلبية تجاهه، غير أن هذا يبدو ـ في الوعي – أقرب إلى المنظور القريب، أي المتوقع انتهاؤه، كما يتضح عبر قراءة أسلوبية مركزية، تنهض على قوة الأمل بالعودة التي تتكرر في أكثر من موقع من روايات غسان كنفاني. وهذا يحضر بموازاة الرغبة في التدوين، وكتابة المعاناة، وتجسيدها لتكون مروية؛ ولهذا تطلب أم سعد تدوين ما تشعر به، وما تحسه. وفي السياق عينه نتلمس ذلك الإحساس الجمعي بالمعاناة والتضامن والتعاطف، وهو أحد أهم مميزات وملامح خطاب الشّتات سرديا انطلاقا من مفاهيم الخطاب ما بعد الكولونيالي.
«ماذا أقول يا ابن عمي؟ في الليل أحسست بأنني قريبة من النهاية… ما النفع؟ أريد أن أعيش حتى أراها. لا أريد أن أموت هنا، في الوحل ووسخ المطابخ .. هل تفهم ذلك يا ابن عمي؟ أنت تعرف كيف تكتب الأشياء، أنا لم أذهب إلى مدرسة في عمري، ولكننا نحس مثل بعضنا، يا ربي».
ومما يعدّ مستوى متقدما من رصد حالة الشّتات في كتابة الأسلاف، ما ينتج من تنازع بين مفهوم هوية طارئة على المكان المضيف، ذلك الحامل لهوية السّكان الأصليين أي المواطنين، أو أصحاب البلاد، ومن ذلك ما تواجهه أم سعد أثناء عملها في تنظيف عمارة في لبنان، حيث تجد امرأة لبنانية تزاحمها على غسل الأدراج في إحدى البنايات، ولعل هذا يعد نمطا من التجلي لظاهرة التنازع المعيشي (النموذج الاقتصادي) من حيث تهديد اللاجئ للمواطنين الأصليين من حيث أحقيتهم بالعمل، وهو ما يتضح من موقف المرأة التي تعكس هذا الإحساس بشيء من الخجل، ولهذا تبكي أم سعد حيث كانت تعتقد أن هذه المرأة من المخيم، ولكنها تفاجأ حين تعلم بأنها لبنانية:
« ومنين الأخت بلا صغرة؟
أنا من الجنوب.
فلسطينيّة؟
لأ لبنانية من الجنوب.
ومسحت أم سعد راحتيها المبللتين بالماء بردائها، ثم أخذت تنزل كميها المشمرين، وتنظر حولها. ثم قالت: يختي، والله لم أكن أعرف، ولم يقولوا لي.. خذي اشطفي بقية الدرج، الله يقطع هالبناية وصحابها».
في رواية أخرى لغسان كنفاني، ونعني «ما تبقى لكم» نعرّج على حالة الشّتات بوصفها فعل إجراء مؤقت للحياة، فليس هنالك من راغب في الزواج قبل أن يجمع شمل عائلته التي تشتت، فالحياة تضيع بضياع يافا من وجهة نظر «حامد» – إحدى شخصيات الرّواية- كما هي «مريم» التي فضلت الزواج من «زكريا»، وهنا نرى أبعادا دلالية تتصل بالوفاء، كما رفض الخيانة، والدعوة للمقاومة، فحامد الذي يسعى للقاء أمه في الأردن، يبحث عن نموذج لتقويض شتاته، إذ يعود مرة أخرى لاستعادة لحظة النفي والتشريد، وركوب الزوارق، ولهذا فقد وافق على زواج أخته من ذلك (العار) من منطلق أنه قد عرف أنه لن يعود، وهنا نقرأ نبوءة، وإدانة للمنظور المستقبلي القائم عن فكرة التخلي عن المقاومة كما نعاينها الآن، وهكذا نستنتج بأن المقاومة هي نهج الكتابات الأولى التي تتعلق بالشّتات، وهي ذات ملامح وحساسية مختلفة عن تلك الأعمال التي كتبت بعد عقود: «عندها عرف فقط أنه لن يعود، وبعيدا وراءه غابت غزة في ليلها العادي، غابت مدرسته، ثم غاب بيته، وانطوى الشاطئ الفضي متراجعا إلى قلب الظلام».
مما لا يرقى إليه شك في أن غسان كنفاني في رواياته عامة، يدرك ما للشتات من تداعيات خطيرة على القضية الفلسطينيّة، والنضال، ولهذا فإن مصائر شخصياته في الشّتات يحكمها منظور كئيب، مرفوض، بل إن الطريق إلى الشّتات محكوم بالموت، كما كان من مصائر شخصيات رواية «رجال في الشمس» حيث لا اكتمال منهجي لتحقق الشّتات، فهو مرفوض، ويجب أن يجهض في مهده، وأي محاولات للبحث عن نموذج حياتي بديل، لا يحتكم لوجهة فلسطين فإن مصيره سيكون الفناء، وهنا نقع على قيمة أيديولوجية عميقة في التكوينات المؤسسة للمروية الشّتاتية من منظور غسان كنفاني، وهي تصلح لأن تعيد فهم خطاب الشتات، وتحوله في الرواية الفلسطينية المعاصرة التي بدت واقعة في مجال بيني قوامها تلك النزعة للرفض والمقاومة، والتشبث بحق العودة، بالإضافة إلى كتابة تتسم بواقعية السياقات التي وجد الفلسطينيون أنفسهم فيها، وبالتحديد في أوطان بديلة طال بقاؤهم فيها، ونتج عن ذلك إشكاليات جديدة تختبرها الأجيال المعاصرة التي هيمن عليها فعل التذكر، وتخصيص متن سردي كبير لهذه الأوطان، مع تراجع واضح لصيغ المقاومة الشرسة «الصريحة» على المستوى الحكائي، واللغوي، كما في كتابات حزامة حبايب، وسامية عيسى، وربعي المدهون، وسليم البيك، وسوزان أبو الهوى، وغيرهم الكثير.
٭ كاتب فلسطيني أردني