غسان‭ ‬كنفاني‭ ‬وتمثيلات‭ ‬أدب‭ ‬الشتات‭:  ‬ المنظور‭ ‬والتحول

يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الأدب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬بدأ‭ ‬يتلمس‭ ‬إشكالية‭ ‬الشّتات‭ ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬اصطدم‭ ‬فيها‭ ‬وعي‭ ‬الإنسان‭ ‬الفلسطيني‭ ‬بالنكبة،‭ ‬التي‭ ‬تطلبت‭ ‬منه‭ ‬اختبار‭ ‬فعل‭ ‬الارتحال‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬طابعه‭ ‬جمعيا،‭ ‬فجاءت‭ ‬روايات‭ ‬الكتابة‭ ‬الأولى‭ ‬للأسلاف‭ ‬أو‭ ‬آباء‭ ‬الرواية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬معبرة‭ ‬عن‭ ‬لحظة‭ ‬الشّتات‭ ‬بتكوينه‭ ‬الخام‭ ‬والمبدئي،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يتكون‭ ‬الإدراك‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬قد‭ ‬تمتد‭ ‬في‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬إنما‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مؤقتة،‭ ‬أو‭ ‬طارئة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تجهض،‭ ‬وأن‭ ‬تنتهي‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬عبر‭ ‬الفعل‭ ‬والإرادة،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬ثمة‭ ‬أمل‭ ‬ما‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬قدر‭ ‬محتوم‭. ‬

ولعل‭ ‬هذا‭ ‬يظهر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاشتغال‭ ‬النصي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬فعل‭ ‬التأمل‭ ‬للأثر‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬البعيد،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬إشكالياته‭ ‬في‭ ‬السياقات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونياليّة‭ ‬ضمن‭ ‬مستوى‭ ‬الهوية،‭ ‬واللغة،‭ ‬والتنازع‭ ‬الوجودي،‭ ‬باستثناء‭ ‬فقط‭ ‬تقديم‭ ‬مبدأ‭ ‬المقاومة‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المستويات،‭ ‬وإن‭ ‬امتثلت‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬لبعض‭ ‬القضايا‭ ‬الأقل‭ ‬جوهرية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمنعنا‭ ‬من‭ ‬التسليم‭ ‬بأن‭ ‬التكوين‭ ‬الخطابي‭ ‬السردي‭ ‬بدا‭ ‬متنافرا‭ ‬مع‭ ‬الأعمال‭ ‬اللاحقة‭ ‬التي‭ ‬نتجت‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬أو‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬تحقق‭ ‬النكبة،‭ ‬وتتمثل‭ ‬بتولد‭ ‬قناعات‭ ‬بأن‭ ‬العودة‭ ‬باتت‭ ‬صعبة،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬تراجع‭ ‬المشروع‭ ‬التحرري‭ ‬الوطني‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬المقاومة،‭ ‬واستبداله‭ ‬بنهج‭ ‬السلام‭ ‬الذي‭ ‬أتاح‭ ‬عودة‭ ‬قطاعات‭ ‬محدودة‭ ‬من‭ ‬القيادات،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬قابعا‭ ‬في‭ ‬المخيمات‭ ‬يراقب‭ ‬تفكك‭ ‬الثوابت‭ ‬الوطنية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬العودة،‭ ‬والقدس‭ ‬نتيجة‭ ‬مغامرة‭ ‬اتفاقية‭ ‬أوسلو‭.   ‬لا‭ ‬شدك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السياقات‭ ‬شرعت‭ ‬تلقي‭ ‬ظلالها‭ ‬على‭ ‬الإنشاء‭ ‬السردي،‭ ‬والأيديولوجي‭ ‬للرواية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬البدء‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬المشتت‭ ‬والأمكنة‭ ‬البديلة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الكتابات‭ ‬الأولى،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬روايات‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني‭ ‬تمحورت‭ ‬حول‭ ‬الخروج‭ ‬بما‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬ومأساة،‭ ‬فغسان‭ ‬كنفاني‭ ‬بوصفه‭ ‬كاتبا‭ ‬مهجّرا،‭ ‬وقع‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬الملامح‭ ‬لأزمة‭ ‬الارتحال،‭ ‬بوصفها‭ ‬حالة‭ ‬تنمّ‭ ‬عن‭ ‬الاقتلاع‭ ‬المفاجئ‭ ‬واليائس،‭ ‬فاستطاع‭ ‬أن‭ ‬يقيم‭ ‬وضعية‭ ‬مضادة‭ ‬للشتات‭ ‬عبر‭ ‬محاولة‭ ‬خلق‭ ‬تمثيلات‭ ‬إنشائية‭ ‬معاكسة‭ ‬تتصل‭ ‬برفض‭ ‬هذا‭ ‬الناتج،‭ ‬مع‭ ‬الاستناد‭ ‬إلى‭ ‬خطابات‭ ‬المقاومة‭ ‬التي‭ ‬تعلي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬النضال،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬الكتابات‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬بعد‭ ‬أوسلو،‭ ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يميزها‭ – ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الثيمات‭ ‬والتوجهات‭- ‬هذا‭ ‬الشروع‭ ‬نحو‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬قيم‭ ‬الاندماج‭ ‬والتكيف،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬روايات‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني‭ ‬تناقض‭ ‬هذا‭ ‬النهج،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬‭ ‬أم‭ ‬سعد‮»‬،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬عبر‭ ‬شخصية‭ ‬‮«‬أم‭ ‬سعد‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬المخيم‭ ‬فضاء‭ ‬لرؤية‭ ‬الشتات،‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬معاني‭ ‬اللجوء‭ ‬مجسدة‭. ‬ففي‭ ‬مفتتح‭ ‬الرّواية‭ ‬تحضر‭ ‬أم‭ ‬سعد‭ ‬معها‭ ‬‮«‬عرق‭ ‬دالية‮»‬‭ ‬كي‭ ‬تزرعه‭ ‬في‭ ‬المخيم‭. ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬السّردي‭ ‬الرمزي‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬تقويض‭ ‬إشكالية‭ ‬الاقتلاع،‭ ‬إذ‭ ‬تبقى‭ ‬قيمة‭ ‬العودة‭ ‬للوطن‭ ‬حاضرة،‭ ‬بوصفها‭ ‬أملا‭ ‬قريب‭ ‬التحقق،‭ ‬فأمل‭ ‬العودة‭ ‬يبدو‭ ‬معقولا،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬قائما‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬القريب،‭ ‬وهكذا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬عين‭ ‬الروائي‭ ‬تبقى‭ ‬موجهة‭ ‬نحو‭ ‬المقاومة،‭ ‬والاحتفاء‭ ‬بها،‭ ‬ويتجلى‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬توصيف‭ ‬الأفراد‭ ‬الذين‭ ‬يرتدون‭ ‬الكاكي‭ ‬المدججين‭ ‬بالسلاح،‭ ‬ما‭ ‬يعد‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬نفي‭ ‬الإهانة،‭ ‬والفقر‭ ‬نتيجة‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭. ‬ولعل‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬أبي‭ ‬سعد‮»‬‭ ‬تختزل‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬البارودة‭ ‬مثل‭ ‬الحصبة،‭ ‬تعدي‮»‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬خيمة‭ ‬الفدائي‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬خيمة‭ ‬اللاجئ،‭ ‬والمستسلم،‭ ‬وهنا‭ ‬نستحضر‭ ‬مقولة‭ ‬أم‭ ‬سعد‭ ‬‮«‬خيمة‭ ‬عن‭ ‬خيمة‭ ‬تفرق‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬تعني‭ ‬خيمة‭ ‬ابنها‭ ‬الفدائي‭ ‬الذي‭ ‬تتوق‭ ‬للذهاب‭ ‬معه‭ ‬للنضال‭ .‬

عين‭ ‬الروائي‭ ‬تبقى‭ ‬موجهة‭ ‬نحو‭ ‬المقاومة،‭ ‬والاحتفاء‭ ‬بها،‭ ‬ويتجلى‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬توصيف‭ ‬الأفراد‭ ‬الذين‭ ‬يرتدون‭ ‬الكاكي‭ ‬المدججين‭ ‬بالسلاح،‭ ‬ما‭ ‬يعد‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬نفي‭ ‬الإهانة،‭ ‬والفقر‭ ‬نتيجة‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬فلسطين

‭ ‬إن‭ ‬المخيم‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬‮«‬أم‭ ‬سعد‮»‬‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬حبس،‭ ‬فكل‭ ‬شيء‭ ‬خارج‭ ‬فلسطين‭ ‬يغدو‭ ‬سجنا‭ ‬كبيرا،‭ ‬ولا‭ ‬سيّما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬الاستسلام،‭ ‬فالشّتات‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬تجسيد‭ ‬متحقق‭ ‬لفقدان‭ ‬الحرية،‭ ‬والتسليم‭ ‬بالهزيمة،‭ ‬وهنا‭ ‬نكتنه‭ ‬مفهوما‭ ‬معقدا‭ ‬لمعنى‭ ‬الشّتات،‭ ‬فالكثير‭ ‬من‭ ‬المشتتين‭ ‬سوف‭ ‬يستشعرون‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬الذي‭ ‬التقطه‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬ولكن‭ ‬بدون‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬تداعيات‭ ‬الشّتات‭ ‬على‭ ‬الشخصية‭ ‬الفلسطينيّة،‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬المعاصر‭ ‬الذي‭ ‬غدا‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدا،‭ ‬وتحديدا‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬عقود‭. ‬لقد‭ ‬طرأ‭ ‬تحول‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬حيث‭ ‬شرع‭ ‬النهج‭ ‬الواقعي‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬حاجة‭ ‬للنظر‭ ‬إلى‭ ‬التصالح‭ ‬مع‭ ‬الأوطان‭ ‬الجديدة،‭ ‬مع‭ ‬التأكيد‭ ‬في‭ ‬الأدبيات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التنازل‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬العودة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نرصده‭ ‬في‭ ‬روايات‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬تكتب‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‭ ‬بوصفها‭ ‬مكانا‭ ‬يُزار‭ ‬عبر‭ ‬جواز‭ ‬سفر‭ ‬غربي،‭ ‬مع‭ ‬توقير‭ ‬وطن‭ ‬الشتات،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬بلدا‭ ‬غربيا‭ ‬يحترم‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وينطوي‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الرفاه‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬المخيمات،‭ ‬وبهذا‭ ‬فإن‭ ‬ثمة‭ ‬منظورا‭ ‬ثنائيا،‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الاستقرار‭ ‬لهذا‭ ‬النهج،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬المهجرين‭ ‬في‭ ‬المخيمات‭ ‬داخل‭ ‬رقعة‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬ينتهجون‭ ‬نهج‭ ‬نبذ‭ ‬الأوطان‭ ‬البديلة،‭ ‬والتعلق‭ ‬بحلم‭ ‬العودة‭. 

في‭ ‬أحد‭ ‬الحوارات‭ ‬السردية‭ ‬لكنفاني‭ ‬نقرأ‭ ‬مستوى‭ ‬من‭ ‬التعبير‭ ‬اللفظي‭ ‬المعني‭ ‬بمقاومة‭ ‬الشّتات،‭ ‬وأمل‭ ‬العودة،‭ ‬فهنالك‭ ‬لغة‭ ‬جديدة‭ ‬وحالة‭ ‬اصطلاحية‭ ‬يتطلبها‭ ‬الشّتات؛‭ ‬ولهذا‭ ‬نجد‭ ‬مفردة‭ ‬‮«‬سيرجع‮»‬‭ ‬بديلا‭ ‬عن‭ ‬‮«‬سيذهب‮»‬،‭ ‬فالمنفى‭ ‬يعيد‭ ‬تشكل‭ ‬اللغة،‭ ‬ووعينا‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬في‭ ‬الطارئ،‭ ‬ونتوق‭ ‬للعودة‭: ‬‮«‬ولاحظت‭ ‬بنفسي‭. ‬كيف‭ ‬قالت‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬سيرجع‮»‬‭ ‬ولم‭ ‬تقل‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬سيذهب‮»‬‭ ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أفكر‭ ‬كثيرا،‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬سعد‭ ‬قد‭ ‬علمتني‭ ‬طويلا‭ ‬كيف‭ ‬يجترح‭ ‬المنفى‭ ‬مفرداته،‭ ‬كيف‭ ‬ينزلها‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬كما‭ ‬تنزل‭ ‬شيفرة‭ ‬المحراث‭ ‬في‭ ‬الأرض‮»‬‭.  ‬لا‭ ‬ريب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أم‭ ‬سعد‮»‬‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬ترفض‭ ‬المخيم،‭ ‬واللجوء،‭ ‬وترغب‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬ذهب‭ ‬ابنها‭ ‬سعد؛‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬كي‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الوحل‭ ‬الذي‭ ‬علقت‭ ‬فيه،‭ ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬مفردة‭ ‬‮«‬الوحل‮»‬‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬‮«‬أم‭ ‬سعد‮»‬‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬اليومية‭ ‬بوصفها‭ ‬خطابا‭ ‬دنيويا،‭ ‬ولاسيّما‭ ‬عند‭ ‬سقوط‭ ‬المطر،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬تحتفي‭ ‬بدلالة‭ ‬واضحة‭ ‬تنهض‭ ‬على‭ ‬تجسيد‭ ‬حياة‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬الشّتات،‭ ‬عبر‭ ‬نبذه،‭ ‬وإلصاق‭ ‬متتاليات‭ ‬من‭ ‬التمثيلات‭ ‬السلبية‭ ‬تجاهه،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬يبدو‭ ‬ـ‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ – ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬المنظور‭ ‬القريب،‭ ‬أي‭ ‬المتوقع‭ ‬انتهاؤه،‭ ‬كما‭ ‬يتضح‭  ‬عبر‭ ‬قراءة‭ ‬أسلوبية‭ ‬مركزية،‭ ‬تنهض‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬الأمل‭ ‬بالعودة‭ ‬التي‭ ‬تتكرر‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني‭. ‬وهذا‭ ‬يحضر‭ ‬بموازاة‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬التدوين،‭ ‬وكتابة‭ ‬المعاناة،‭ ‬وتجسيدها‭ ‬لتكون‭ ‬مروية؛‭ ‬ولهذا‭ ‬تطلب‭ ‬أم‭ ‬سعد‭ ‬تدوين‭ ‬ما‭ ‬تشعر‭ ‬به،‭ ‬وما‭ ‬تحسه‭. ‬وفي‭ ‬السياق‭ ‬عينه‭ ‬نتلمس‭ ‬ذلك‭ ‬الإحساس‭ ‬الجمعي‭ ‬بالمعاناة‭ ‬والتضامن‭ ‬والتعاطف،‭ ‬وهو‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬مميزات‭ ‬وملامح‭ ‬خطاب‭ ‬الشّتات‭ ‬سرديا‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬مفاهيم‭ ‬الخطاب‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالي‭. 

‮«‬ماذا‭ ‬أقول‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬عمي؟‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬أحسست‭ ‬بأنني‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬النهاية‭… ‬ما‭ ‬النفع؟‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬حتى‭ ‬أراها‭. ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أموت‭ ‬هنا،‭ ‬في‭ ‬الوحل‭ ‬ووسخ‭ ‬المطابخ‭ .. ‬هل‭ ‬تفهم‭ ‬ذلك‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬عمي؟‭ ‬أنت‭ ‬تعرف‭ ‬كيف‭ ‬تكتب‭ ‬الأشياء،‭ ‬أنا‭ ‬لم‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬عمري،‭ ‬ولكننا‭ ‬نحس‭ ‬مثل‭ ‬بعضنا،‭ ‬يا‭ ‬ربي‮»‬‭.‬

ومما‭ ‬يعدّ‭ ‬مستوى‭ ‬متقدما‭ ‬من‭ ‬رصد‭ ‬حالة‭ ‬الشّتات‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الأسلاف،‭ ‬ما‭ ‬ينتج‭ ‬من‭ ‬تنازع‭ ‬بين‭ ‬مفهوم‭ ‬هوية‭ ‬طارئة‭ ‬على‭ ‬المكان‭ ‬المضيف،‭ ‬ذلك‭ ‬الحامل‭ ‬لهوية‭ ‬السّكان‭ ‬الأصليين‭ ‬أي‭ ‬المواطنين،‭ ‬أو‭ ‬أصحاب‭ ‬البلاد،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬تواجهه‭ ‬أم‭ ‬سعد‭ ‬أثناء‭ ‬عملها‭ ‬في‭ ‬تنظيف‭ ‬عمارة‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬حيث‭ ‬تجد‭ ‬امرأة‭ ‬لبنانية‭ ‬تزاحمها‭ ‬على‭ ‬غسل‭ ‬الأدراج‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬البنايات،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬يعد‭ ‬نمطا‭ ‬من‭ ‬التجلي‭ ‬لظاهرة‭ ‬التنازع‭ ‬المعيشي‭ (‬النموذج‭ ‬الاقتصادي‭) ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تهديد‭ ‬اللاجئ‭ ‬للمواطنين‭ ‬الأصليين‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أحقيتهم‭ ‬بالعمل،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتضح‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الخجل،‭ ‬ولهذا‭ ‬تبكي‭ ‬أم‭ ‬سعد‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬المخيم،‭ ‬ولكنها‭ ‬تفاجأ‭ ‬حين‭ ‬تعلم‭ ‬بأنها‭ ‬لبنانية‭:‬

‮«‬‭ ‬ومنين‭ ‬الأخت‭ ‬بلا‭ ‬صغرة؟

أنا‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭.‬

فلسطينيّة؟

لأ‭ ‬لبنانية‭ ‬من‭ ‬الجنوب‭.‬

ومسحت‭ ‬أم‭ ‬سعد‭ ‬راحتيها‭ ‬المبللتين‭ ‬بالماء‭ ‬بردائها،‭ ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬تنزل‭ ‬كميها‭ ‬المشمرين،‭ ‬وتنظر‭ ‬حولها‭. ‬ثم‭ ‬قالت‭: ‬يختي،‭ ‬والله‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف،‭ ‬ولم‭ ‬يقولوا‭ ‬لي‭.. ‬خذي‭ ‬اشطفي‭ ‬بقية‭ ‬الدرج،‭ ‬الله‭ ‬يقطع‭ ‬هالبناية‭ ‬وصحابها‮»‬‭. ‬

في‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬لغسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬ونعني‭ ‬‮«‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬لكم‮»‬‭ ‬نعرّج‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬الشّتات‭ ‬بوصفها‭ ‬فعل‭ ‬إجراء‭ ‬مؤقت‭ ‬للحياة،‭ ‬فليس‭ ‬هنالك‭ ‬من‭ ‬راغب‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬شمل‭ ‬عائلته‭ ‬التي‭ ‬تشتت،‭ ‬فالحياة‭ ‬تضيع‭ ‬بضياع‭ ‬يافا‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬‮«‬حامد‮»‬‭ – ‬إحدى‭ ‬شخصيات‭ ‬الرّواية‭- ‬كما‭ ‬هي‭ ‬‮«‬مريم‮»‬‭ ‬التي‭ ‬فضلت‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬‮«‬زكريا‮»‬،‭ ‬وهنا‭ ‬نرى‭ ‬أبعادا‭ ‬دلالية‭ ‬تتصل‭ ‬بالوفاء،‭ ‬كما‭ ‬رفض‭ ‬الخيانة،‭ ‬والدعوة‭ ‬للمقاومة،‭ ‬فحامد‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬للقاء‭ ‬أمه‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬نموذج‭ ‬لتقويض‭ ‬شتاته،‭ ‬إذ‭ ‬يعود‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬لاستعادة‭ ‬لحظة‭ ‬النفي‭ ‬والتشريد،‭ ‬وركوب‭ ‬الزوارق،‭ ‬ولهذا‭ ‬فقد‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬زواج‭ ‬أخته‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ (‬العار‭) ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬عرف‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يعود،‭ ‬وهنا‭ ‬نقرأ‭ ‬نبوءة،‭ ‬وإدانة‭ ‬للمنظور‭ ‬المستقبلي‭ ‬القائم‭ ‬عن‭ ‬فكرة‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬المقاومة‭ ‬كما‭ ‬نعاينها‭ ‬الآن،‭ ‬وهكذا‭ ‬نستنتج‭ ‬بأن‭ ‬المقاومة‭ ‬هي‭ ‬نهج‭ ‬الكتابات‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تتعلق‭ ‬بالشّتات،‭ ‬وهي‭ ‬ذات‭ ‬ملامح‭ ‬وحساسية‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬بعد‭ ‬عقود‭: ‬‮«‬عندها‭ ‬عرف‭ ‬فقط‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يعود،‭ ‬وبعيدا‭ ‬وراءه‭ ‬غابت‭ ‬غزة‭ ‬في‭ ‬ليلها‭ ‬العادي،‭ ‬غابت‭ ‬مدرسته،‭ ‬ثم‭ ‬غاب‭ ‬بيته،‭ ‬وانطوى‭ ‬الشاطئ‭ ‬الفضي‭ ‬متراجعا‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬الظلام‮»‬‭. ‬

مما‭ ‬لا‭ ‬يرقى‭ ‬إليه‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني‭ ‬في‭ ‬رواياته‭ ‬عامة،‭ ‬يدرك‭ ‬ما‭ ‬للشتات‭ ‬من‭ ‬تداعيات‭ ‬خطيرة‭ ‬على‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينيّة،‭ ‬والنضال،‭ ‬ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬مصائر‭ ‬شخصياته‭ ‬في‭ ‬الشّتات‭ ‬يحكمها‭ ‬منظور‭ ‬كئيب،‭ ‬مرفوض،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الشّتات‭ ‬محكوم‭ ‬بالموت،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬مصائر‭ ‬شخصيات‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬رجال‭ ‬في‭ ‬الشمس‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬اكتمال‭ ‬منهجي‭ ‬لتحقق‭ ‬الشّتات،‭ ‬فهو‭ ‬مرفوض،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬يجهض‭ ‬في‭ ‬مهده،‭ ‬وأي‭ ‬محاولات‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬نموذج‭ ‬حياتي‭ ‬بديل،‭ ‬لا‭ ‬يحتكم‭ ‬لوجهة‭ ‬فلسطين‭ ‬فإن‭ ‬مصيره‭ ‬سيكون‭ ‬الفناء،‭ ‬وهنا‭ ‬نقع‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬أيديولوجية‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬التكوينات‭ ‬المؤسسة‭ ‬للمروية‭ ‬الشّتاتية‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬غسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬وهي‭ ‬تصلح‭ ‬لأن‭ ‬تعيد‭ ‬فهم‭ ‬خطاب‭ ‬الشتات،‭ ‬وتحوله‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المعاصرة‭ ‬التي‭ ‬بدت‭ ‬واقعة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬بيني‭ ‬قوامها‭ ‬تلك‭ ‬النزعة‭ ‬للرفض‭ ‬والمقاومة،‭ ‬والتشبث‭ ‬بحق‭ ‬العودة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬تتسم‭ ‬بواقعية‭ ‬السياقات‭ ‬التي‭ ‬وجد‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬أنفسهم‭ ‬فيها،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬أوطان‭ ‬بديلة‭ ‬طال‭ ‬بقاؤهم‭ ‬فيها،‭ ‬ونتج‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬إشكاليات‭ ‬جديدة‭ ‬تختبرها‭ ‬الأجيال‭ ‬المعاصرة‭ ‬التي‭ ‬هيمن‭ ‬عليها‭ ‬فعل‭ ‬التذكر،‭ ‬وتخصيص‭ ‬متن‭ ‬سردي‭ ‬كبير‭ ‬لهذه‭ ‬الأوطان،‭ ‬مع‭ ‬تراجع‭ ‬واضح‭ ‬لصيغ‭ ‬المقاومة‭ ‬الشرسة‭ ‬‮«‬الصريحة‮»‬‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الحكائي،‭ ‬واللغوي،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬حزامة‭ ‬حبايب،‭ ‬وسامية‭ ‬عيسى،‭ ‬وربعي‭ ‬المدهون،‭ ‬وسليم‭ ‬البيك،‭ ‬وسوزان‭ ‬أبو‭ ‬الهوى،‭ ‬وغيرهم‭ ‬الكثير‭. ‬

٭‭ ‬كاتب‭ ‬فلسطيني‭ ‬أردني‭ 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية