تضعنا رواية «غواية ظل» للكاتب المصري محمد عطية محمود، بداية من عنوانها في عطائه الدلالي الحر المنفتح على دلالات عديدة، وغير المشدود لتأسيس رؤية قرائية شبه نهائية، يتمّ اختيارها بعد عملية القراءة، داخل إطار معرفي يرتبط بسلطة النموذج الذي يختزنه الإنسان ويكوّنه لامرأة ما، يشكل حضورا دائما، ويصبح ذا سلطة تؤثر في الخيارات الحياتية المتاحة، والتوجهات المطروحة. وربما يكون له تأثير في الوقوف المتيبس عند حدود هذا الظل أو النموذج، مما يفضي في النهاية إلى مساحة من الثبات، لا يستطيع الإنسان أن يتخطاها، إلى تكوين علاقات جديدة سليمة، لأن هذا النموذج الأنثوي الذي تصنعه الذات وتشكله، أو تعيد تشكيله على فترات متباعدة، أو في منعطفات خاصة، له قدرة دائمة على التجلي والحضور من خلال عمل الذاكرة التي تؤسس لملامحه استمرارية لافتة.
والنموذج أو الظل – وهو نموذج أنثوي – يشير إلى حضور مطبق، يلقي بظلاله على مقاربة الحياة، والتحرك في إطارها، وهذا ينتج له قدسية خاصة وهالة من الاختلاف في الحضور، فتقوم الذات بالبحث عن ملامحه، وإسدال هذه الملامح، وجعلها مقياسا وأساسا لكل امرأة أخرى، وتصبح هذه المرأة أو النموذج أو المثال حاجزا مانعا للاقتراب، وتمارس دورها بتكرار حضورها في تفكيك أي ارتباط يطلّ برأسه.
هناك إشارات في النص الروائي تشير إلى أن معرفة حلمي (البطل) بشخصية أمل – النموذج أو المثال – لا تنبني على معرفة حقيقية، أو تستلزم الإشارة إلى اكتساب وفقد حقيقيين، بل تقوم على معرفة تهويمية، لا تلتفت إلى الصفات البشرية التي أشارت إليها توأمها (زهرة) -الظل- في سردها وكشفها المتلاحق عن صفاتها بعد رحيلها.
بناء الرواية واستعادة الماضي
جاءت الرواية في إطار السرد المتوازي بين صوتين من خلال ضمير المتكلم، حيث يقوم كل صوت منهما بسرد ما يتعلق بحياته الآنية في وجود ذاكرة منفتحة على الماضي. ومن خلال هذا البناء المتوازي بين الصوتين تتجلى مساحة التشكيل الخاص بكل شخصية، في انفتاح على ماض مملوء بالهزائم المتعددة والمتكررة، وكأن الرواية تقدم محاولة للانتصار على هذا الماضي مع كل قسيم. الأول (حلمي) الذي لا يخلو اسمه من قصدية، والأخير (زهرة) التي تأتي في الرواية وكأنها ظل لنموذج أمل التي تشكل مثالا لحدود المتخيل لدى حلمي بعد وفاتها، وبعد فشل مشروعهما قبل عشرين عاما، ويحدث التمازج والانشداه بينهما- أي حلمي وزهرة- نتيجة للتشابه الشكلي، وتبدأ في ظل ذلك محاولة للتعافي والانتصار على الماضي بكل إخفاقاته.
فالسرد الروائي من خلال الصوتين يصبح خطابا للفهم والإدراك والمساءلة والتفسير، وذلك من خلال العودة إلى حوادث مفصلية، مثل حدث الزواج أو الفشل فيه لدى كل شخصية من الشخصيتين، في التحامهما بالماضي من خلال فعل الذاكرة. وتقديم الحوادث على النحو السردي، ووفق هذا التوزّع الانفصالي في ظل حضور تقارب آني جعل هذه الحوادث تتجلى بسمات خاصة، فهي لا تطلّ كاملة أو واضحة تمام الوضوح في دفقة سردية واحدة، ولكنها تتوزع من خلال التقطير السردي طبقا لطبيعة الذاكرة في كشفها عن الماضي، وطبقا لمثيرها الآني في الاشتعال والتجدد والحضور.
فالحوادث المقدمة في النص الروائي مع كل قسيم ليست مقصودة لذاتها، ولا تقدم بشكل استقصائي كامل، هي فقط بؤر مشتعلة، تطل للقيام بوظيفة داخل البناء السردي، انطلاقا من التوجيه الفني المستمر لحركة الشخصية وخياراتها النهائية. وربما يجدي الوقوف عند مجموعة من الأحداث المنضوية بشكل ذري خاص داخل الخطاب الروائي، مثل حدث اغتراب زهرة في السودان في مرافقة الأب، أو حدث اغترابها أثناء الدراسة الجامعية في أسوان.
إن بنية الرواية القائمة على السرد التتابعي المتوازي بين صوتين مع الانشداد إلى الماضي بذاكرة منفتحة، لم يقف أثرها فقط عند حدود تقديم الشخصية أو الحدث، ولكن كان لها أثر كبير في انفتاح الرواية على المراجعة، ومحاولة استعادة الماضي، والانتقال في ظل هذه الاستعادة من الهزيمة إلى الانتصار. فالرواية تتجلى في إطار فكرة المراجعة لكل المنعطفات والخيارات التي مرت بها كل شخصية. وهذه المراجعة لا تتمّ إلا من خلال لحظة آنية، يكفل لها السرد أو التوجيه السردي كل مكونات اللحظة الماضية، لكن وفق وعي جديد ينبني على المرور بتجارب وهزائم عديدة.
فكل شخصية من الشخصيتين في ظلّ وجود نزال سابق مع الحياة والواقع، كل شخصية في إطارها الانفصالي المونولوجي، وهزائمها المتكررة، تبحث عن إجابات لتساؤلات ارتباطها بالعالم والوجود، فالرواية في نسقيها السرديين محاولة لفهم الاشتباكات والحظوظ الجائرة. تقول الرواية على لسان زهرة بعد حلم من أحلام التوحد والفناء مع حلمي: (لكن الخوف من مجهول الذي بدأ يتسرّب إلى داخلي ويقبضني جعلني أتردد في إعادة تفاصيل الحلم على ذاتي لا على حلمي فقط.. الخوف الذي جعلني أتردد ألف مرة أن أبوح بما في الواقع، فكيف أبوح بأحلامي، وقد تغيّرت تماما بدخول حلمي إلى عالمي).
الجزء الأول يوجهنا نحو البديل المتحقق في زهرة، مع ما يصاحب ذلك من دهشة في البداية، فوجودها بالتماثل الشكلي مع النموذج القديم، يعطي عملية الاستعادة مشروعيتها. وتبدأ بعد ذلك – لإحداث إحلال بين النموذج القديم والظل الآني (أمل وزهرة) – عمليات الإدراك التدريجي للمغايرة، والوعي بحقيقة كلتيهما، والوعي بدور الذات وطبيعتها في خلق وتشكيل النموذج الأساسي انطلاقا من عدم المعرفة القائمة على التجربة. أما الجزء الثاني من الرواية من خلال السرد المتوازي فيدخلنا إلى مشروعية الاستعادة، ومشروعية الانتصار، في تلمّس وجود الحلم، وانبعاث الروح من جديد، يكشف عن ذلك المحاولات اللاهثة من كل قسيم لتفسير الحال الجديدة التي آل إليها بعد التوافق الروحي.
أما في الجزء الأخير فتتجلى مساحة من الانكماش لحدود الحلم والانبعاث التلقائي للروح، وذلك من خلال حضور الزمن والمسافة، فكلاهما يشكل معادل صحو وانشداد للواقع. ومن ثمّ تتأسس وتكتمل في هذا الجزء جزئيات أبرقت عنها الرواية في الجزء الثاني، مثل حضور العقل، والمسئولية الأخلاقية تجاه حلمي الصغير الذي كشفت الرواية عن كونه ابنا لأمل، فيطل في النص الروائي – بالنسبة لزهرة – وكأنه بديل لحلمي الكبير، بالإضافة إلى مسئوليتها عن أمل ابنتها الصغيرة التي أعطتها اسم توأمها الراحلة.
النموذج والظل
في هذه الرواية هناك توجيه سردي، يتمثل في جزئية التوأم، لأن هذه الفكرة مثلت وجودا أساسيا تولد في إطاره كل الأفكار الأخرى في النص الروائي، فوجود هذا الترابط الخاص بين النموذج والظل – بالرغم من الفارق الزمني والتكويني – جعل اللحظة الآنية – نتيجة للمشابهة – إعادة سير وتصحيح وتجلّ للحظة سابقة، مرت بها الشخصيتان الساردتان وفق زمان وسياق مختلفين، وجعل محاولة القدرة على الانفلات من الماضي والتغلب عليه مطروحة، وولّد مشروعية النزوع لبداية جديدة.
النموذج أو المثال تصنعه الذات وفق المتخيل غير المبني على معرفة تجريبية، وقد شكلّت الرواية من خلال هذا التوجيه السردي طريقا لمحاولة استحضار المتخيل وبروزه من جديد، من خلال النموذج/ الأصل (أمل) الذي لم تفصح الرواية عن آليات تشكله بشكل مباشر، والظل/الشبيه (زهرة)، حيث يكشف النص الروائي عن مساحات من التشابه بينهما، تقول الرواية على لسان حلمي في فصلها الأول الذي يؤسس للانشداه بسبب التشابه: (هل إلى هذه الدرجة تتناسخ الملامح؟ بل وتظل منطبعة في المخيلة التي تعاقبت عليها آلاف الوجوه من مئات الجنسيات، كنت أبحث فيها عن ملامح أمل).
وإذا كان النموذج أو المثال أو الأصل يخلق ظلا متمثلا في أنثى شبيهة، فإنه مع الرجل المتأثر به وخالقه يظل طيفا يتبعه، فيكون ـ في منطق النص الروائي – حاميا له من السقوط والاستسلام للجسد، باستثناء علاقته بإنجي بعد عودته إلى مصر التي قارب على الاستجابة لنداء الجسد، ولكن زهرة/ الظل أنقذته من هذ السقوط.
وقد تجلّى الحضور اللافت للشخصية في غيابها الجسدي بالموت (أمل) في شكل أسئلة دائمة الحضور، وفي شكل قلق دائم التكرار، فشخصية أمل غالبا ما تكون محور حديث بينهما، حتى لو لم يكن حديثا فعليا، بل يمكن أن يكون حديثا مختزنا مخفيا داخل كل منهما. كشف ذلك الحضور عن نفسه في تساؤل زهرة المتكرر بشكل لافت (هل هو يريدني كزهرة أم يريدني كأمل؟)، أو في قولها (ربما ساورني الشك في كونه يراني (أمل).. وأي أمل؟)، أو في قولها التقريري (ويخزني شعور غريب بالغيرة من أمل).
وبعيدا عن الأسماء التي تحمل طاقة وظيفية لإكمال عناصر الكون الروائي، مثل رشيدة، وجلال، ومختار، وحسام شقيق التوأم، تلحّ الأسماء الأخرى بحضورها في النص الروائي بوصفها استمرارا وتكرارا لحدث الوجود، فدائما هناك أصل أو مثال، يقابله ظلّ أو صورة، ذلك الظل أو تلك الصورة التي يمكن أن تكون نموذجا أو مثالا لصورة أو لظل آخر لا نراه.
فالنموذج أو الظل أو المثال، سواء أكان ذكوريا أو أنثويا متحقق في أطر كثيرة في النص الروائي، من خلال ثنائيات، مثل حلمي وأمل وهي طبقة سردية لم يتمّ الكشف عنها بشكل مباشر. ويتمدد هذا النسق التكراري للأسماء من خلال وجود أسماء شبيهة مرشحة لإيجاد استمرار لافت لطبيعة الوجود في تشكيله الدائم لكل من المثال/الأصل والظل/الصورة. ففي الرواية هناك استعادة حدث ماض من خلال حدث آني، واستعادة امرأة من خلال حضور امرأة آنية تشابهها تماما، فيحدث نوع من المراجعة والتقييم للمرور السابق بالتجربة، في ظل جدل الواقع والمتخيل، وفي ظل وجود حالة من الصراع الدائم بين الإنسان في تشكيله لنماذجه وآماله، وطبيعة الوجود التي لا تسمح بتحقيق هذه الآمال والنماذج بشكل نهائي، فدائما يكون هناك شيء ناقص، شبيه في تجليه الأخير بطبيعة الوجود الإنساني المحدد سلفا بالنهاية الحتمية.
محمد عطية محمود: «غواية ظل»
بيت الحكمة، القاهرة 2024
240 صفحة.