تمتاز المجموعة القصصية «علاها الغبار» للقاص الجزائري علي ميموني، الصادرة عن دار إدليس، بأنها ضمن المجاميع التي يمكن أن نطلق عليها المتوالية القصصية، ولكنها هنا اختلفت في الشكل وتطابقت في الجوهر والعكس صحيح. فالقصص كلها تقع تحت يافطة العنوان الذي أصبح هو الاشتغال الكامل للمجموعة، وهي الجملة القصصية التي تتكرر في المجموعة وفي جميع القصص الأربعة عشرة التي تضمها المجموعة، ووصل عدد حضورها إلى أكثر من 19 مرّة، منها واحدة بصيغة الجمع وأخرى بصيغة المفرد.
هذه المجموعة التي حملت أرقاما للقصص وليس عناوين تشي بأن العنوان هو اليافطة وهو المجرة وهو الغاية والمركز الذي تدور حوله القصص. فالغبار هنا لا يعني المعنى الملموس والمحسوس في الذاكرة، بقدر ما هو عملية تأويل وصناعة أثر مركب ليكون الاشتغال هنا عبارة عن عملية إماطة الأثر للكشف عن الهوية المراد توضيح مساراتها وانتماءاتها، لذلك كان ما علاه الغبار يختلف من قصة إلى أخرى. منها:
«المصافحة عقد الرجال» والرجولة «علاها الغبار».. «ذهب المفكر وما زلنا ضد التفكير فأصبحنا كالدّواب بين البشر من أمثالنا، ألا ترون قريتنا كيف صار حالها؟ كأنها دفنت و»علاها الغبار».. «فالمال أهمّ بالنسبة لكم! والله لأنّها تجارة خاسر البائع فيها وتعيس المشتري، أما الزواج الحال الطيب قد «علاه الغبار».. في الماضي كان الجار للجار، ولكن بسببكم قدسية الجيرة «علاها الغبار».. في كل بلدان العالم للأستاذ مكانته العظيمة، إلا هنا يبدو أن مهنتنا في هذه البلاد قد «علاها الغبار».. «بالنسبة له الأبوة «علاها الغبار» حين دفن جارك منصور». أمي الغالية، حين «يعلو الغبار» شرف الأنثى يجب أن لا تعيش..». وهي الجملة التي تأتي قفلة في أغلبها كنهاية القصة التي يريدها أن تكون مرة معالجة للنص والفكرة، ومرة تعطي تحليلاً للواقع الاجتماعي ومرة يريدها أن تكون سؤالا فلسفيا، أو إشارة إلى صراع الوجود.
الزمن والمكان واشتغال الحوار:
إن القصص في أغلبها تدور في الفلك الاجتماعي، وأنها تعتمد على ماهية الحماية التي تهدي الفكرة الموصلة إلى النهاية التي يريد التعبئة لها. فالقصص تعتمد إذن في اشتغالها السردي على التسلسل الزمني، حيث النص يتبع تسلسلا زمنيا خطيا يبدأ من لحظة تأمل الراوي الذي يكون هو أنا المتكلم، مرورا بما يحيط حول الشخصيات حتى ينتهي بالمكان الذي يعبر عن الوحدة الكلية للقصة/ وهذه تحتاج إلى التعاقب الزمني مرة أو التسلسل العمودي للزمن والأفقي للمكان في الوقت نفسه. كون القاص يحاول توظيف عاملي الزمن أولا ومن ثم المكان فالزمن مرتبط بالعنوان ومتغيرات الحياة التي انطلقت منها أفكار القصص والمكان حيث التوزيع العام للشخصيات التي تناقش فحوى العنوان؟ فالزمان هو المحرك والمكان هو الرمز، حيث تعدد ملامحه بين المكتبة والغرفة والمدينة وحتى الشارع، أو حتى جلسة النقاش التي تنتهي دائما في القصص في جزء من حوار عام يتم فيه تكرار المتوالية المرتبطة بجملة المركزية (علاها الغبار) وفي هذه كلها تكون الأماكن هي الملاذ الزمني، من خلال بث إشارات ضمنية سواء كانت حوارا ضمنيا، أو حوارا مونولوجيا، أو حوارا بين شخصيات ترتبط بالراوي من جهة، أو ترتبط بالشخصيات من جهة أخرى. فالحوار يأخذ البعد التحليلي للقصة أو مركزية القصة، مثلما يتفاعل مع المحيط الخارجي الذي يهدف إلى المشاركة في الفاعلية المركزية. بمعنى إن الحوار الداخلي يأتي معبرا عن تأملات الراوي وصراعاته. والخارجي يأتي بهدف دفع النقاش إلى الأمام، حيث يتحول إلى حوار رمزي حول القيم الأدبية والاجتماعية، وبالنتيجة فإن القاص ينتج قصصه وفق المستويين الإخباري والتصويري حتى يصل إلى المستوى التحليلي ومن ثم (قفلة) القصة التي تكون ما بين المستويين القصدي والتأويلي، حيث يمكن للمتلقي أن يمسك تضاريس الغاية التي جاءت من أجلها القصة. بالحوار هنا يأتي على أنه صوت الشخصيات فضلاً عن كونه المعبر عن الحالة المركزية التي تطوف حولها (أفكار) القصص. وكل هذا يرتبط ارتباطا وثيقا بعنصري الزمان أولا والمكان ثانيا لإنتاج أحداث يريدها لا تدخل في الوعظ ولا تخرج من بوابة الرأي فتبدو الأحداث معاصرة، مع إشارات ضمنية إلى التغيرات الثقافية والاجتماعية التي شهدها المجتمع. وهو كما جعل أسلوبه السردي يتميز بأسلوبه يمازج بين الواقعية الحياتية والتأمل التحليلي لهذا الواقع الذي يريده أن يقترب من المستوى الفلسفي، حيث يسعى دائما لاستكشاف قضايا مجتمعية وإنسانية عميقة، مثل الغربة النفسية، وتراجع القيم، والبحث عن الذات في عالم سريع التحولات وكثير المتغيرات.
بمعنى أن المكان في نصوصه ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو عنصر أساسي في السرد. المدن والبيئة الجزائرية تظهر كجزء من الهوية، سواء بتوصيفها المادي، أو بإبراز أبعادها الثقافية والاجتماعية.
المستويات السردية واللغة
المجموعة المرقمة قصصها تبدأ المستوى الإخباري في الاستهلال. وهو المستوى الذي يفعل الجوانب الأخرى ويعطي أهمية لفاعلية السرد من جهة وفاعلية المضمون الحكائي من جهة ثانية. فالاستهلال منطقة التفاعل الأولى، وهو الكاشف عن فعاليات الجانب الاجتماعي وما تعطيه فاعلية العنوان الرئيس، خاصة ما يتعلق بالمكان، سواء كان زنزانة أو مكتبة أو مدينة كما ذكرنا. ففي استهلال القصة رقم واحد يتبين المكان: «جالس في غرفتي أفكّر في ما يجب أن أفعل، باشر اليأس التّسلّل لروحي، جمعت عددا من مؤلفاتي – زنزانة 1.1، أكره سيارتي».
في حين كان استهلال القصة الثانية: «تعلّقت منذ زمن قديم بالصّحراء مع أنّي لم أزرها قطّ، بالأخصّ مدينة تندوف». أما استهلال القصة الرابعة « غريبة حقّا هذه القرية التي أعيش ضمن جغرافيّتها، ستستغرب استغرابي أكثر لجمال هذا الجوّ». وكان استهلال القصة رقم 12: «اليوم نعيش الأحداث المعتادة نفسها، كما يحدث بالأمس وسيحدث نفسه غدا، سمير يحمل سكّينه ويقف في الزّاوية نفسها التي لا يمكنك دخول الحيّ أو خروجه إلا بمرورك عليها». وهكذا فإنه استهلال استعلام ويكون الاشتغال التدوين يعتلى أساس ما يعطيه الاستهلال من فاعلية مقبلة لمحور الفكرة ومحرك الحكاية. إن هذه الاشتغال على المستويات السردية يتطلب لغة تقود الأسلوب، ولهذا نجد أن القصص تجمع بين لغة وصفية دقيقة ولغة تأملية فكرية، مما يعزز الشعور بالحميمية لدى القارئ ويولد حالة من التفكير عند المتلقي، رغم ان المنطقة التأويلية تبدو واضحة منذ منتصف القصة. فاللغة لا تخرج من كونها لغة قصة، لا تخرج الى الشاعرية الوصفية، ولا تدخل في العمق النفسي، فهي تبقى في حالة المراوحة في التصوير الخارجي الوصفي: «بسبب أنها قرية نائية، إن أكثر ما كان يثير فرحة الصّغار الرّكض وخيالاتهم تعتقد أن ظلالهم تلاحقهم فينشرون بذلك البهجة بروح كل من يراهم». وهو يركز في الكثير من الحالات على تحليل الوقائع من أجل الربط بين منطقة الغبار ومنطقة التأويل وكأنه في حالة مقارنة: «هل تعلم قبل ظهور التّكنولوجيا كيف كانت الحياة دون هواتف!». إن هذه المستويات بحاجةٍ إلى تنوع الثيمات والمواضيع التي حفلت بها المجموعة، سواء تلك التي جاءت على شكل اغتراب ثقافي من خلال شعور الراوي/ البطل بالعزلة وسط تراجع القيم الأدبية والمجتمعية، أو محاولته لإحياء القيم المدفونة: رمز «علاها الغبار» ما يعني اندثار القيم الأصيلة والكتب القيمة وسط الهيمنة السطحية، أو التقدير المفقود للعلاقة بين الثقافة والوعي الذي يمثله الكتاب ومحاول الراوي انتقاد المجتمع.
الملامح الأسلوبية
يتضح في القصص أن ميموني بين البساطة الظاهرة والعمق الباطن، بمعنى أن قصصه بسيطة بأحداثها، أو أنها مألوفة، لكنه في الاشتغال السردي أرادها أن تحمل أبعادا رمزية ودلالات فلسفية عميقة، فالمستوى الفلسفي يتوضح من خلال السؤال الذي يبثه على لسان الشخصيات أو الراوي، وهو سؤال قطع واتصال أيضا. وهو سؤال التأمل لما حوله هو كقاص وإنسان، وهو ما جعل القصص بمتوالياتها الرقمية تعكس تأملات عميقة في الحياة والمجتمع، ويستخدم الرموز بكثافة لتوصيل أفكاره، لذلك تبدو شخصياته غالبا ما تكون واقعية، لكنها تحمل في داخلها صراعات وجودية، تتصل بالاغتراب الداخلي المتزامن مع الاغتراب الثقافي والاجتماعي، ولذا نراه يتّجه إلى النقد الثقافي من خلال تسليط الضوء على فقدان المجتمع الجزائري والعربي للاهتمام بالقيم الحقيقية. وشعور أبطاله بالانفصال عن المحيط، سواء بسبب تغير القيم أو فقدان الصلة بالذات. وهو ما جعله يتجه صوب الدعوة المستمرة لإعادة التفكير في الموروث الثقافي والاجتماعي. إن الاشتغال جمح في بعض الأحيان إلى ولوج الواقعية السحرية ليتخلص من المباشرة من خلال محاولة إدخال عنصر مفاجئ، أو غير متوقع في الأحداث، من خلال شعور غريب بين المكان والشخصية، رغم أن التأكيد يشير إلى أنه يريد قصصه أن تُنتج من منظورٍ يوازن بين التجربة الذاتية والواقع الاجتماعي، لجعل نصوصه تعكس هموم الإنسان الجزائري، ولهذا فإن الاشتغال الظاهر بدت فيه القصص ليست مدفوعة بأحداث درامية كبيرة، بل بفكرةٍ محوريةٍ تستمد قوّتها من بساطة السرد. والحكاية سيطرت على الفكرة، التي جعلت بدورها القارئ يبحث عن تأويلاته الخاصة، لكن هذه البساطة أو الحكاية العادية هي التي جعلت القارئ ينخرط في عملية تحليل وتأمل بدل التركيز على الحبكة التقليدية. وفي النهاية فإن قصص «علاها الغبار» تنتمي إلى أدب القصة القصيرة، وإن تناولت موضوعات متنوّعة تعكس قضايا المجتمع والقيم التي تركها السلف، أو التي يعيشها الخلف وتُظهر اهتمام ميموني بجمع العادات المندثرة، وهي تعكس أيضاً حسّه النقدي تجاه التحوّلات الثقافية والأدبية في المجتمع الجزائري الحديث.
كاتب عراقي