منذ أيام وجدت على تويتر بعض المصريين يهنئون الآخرين بمناسبة السنة القبطية الجديدة، التي تبدأ بشهر توت. أخذني توت أو تحوت إلى المثل الذي سمعناه في مصر كثيرا « توت يخلي الحر يموت» شهر توت يأتي في سبتمبر/أيلول من كل عام. فالشهور القبطية تتوازى مع الشهور الإفرنجية لا تختلف عنها إلا في سبعة أو ستة أيام أقل لذلك يضاف إليها آخر العام ما يسمي بالنسيئ، وهو هذه السبعة أيام ليعود التقويم القبطي يمشي مع التقويم الغريغوري. تذكرت أننا سمعنا في طفولتنا كثيرا من الأمثلة مع الشهور القبطية التي بدت دائما مرتبطة بالمناخ والزراعة في مصر.
فعن شهر كيهك يقال ما لا يُنسي وهو «كياك صباحك مساك تفطر وتدور على عشاك» كنت أسمعها والناس سعداء بها كثيرا حين يصادف شهر رمضان العربي شهر كيهك بما يعني أن ساعات الصيام قليلة، والصيام غير مضني لا بالعطش ولا بالجوع. كذلك شهر طوبة التالي لكيهك ـ يقول المصريون دائما كياك – معروف بالمثل الشائع «طوبة يخلي العجوزة كركوبة» والحقيقة أنني كنت في طفولتي أرى جدتي تكاد تدخل في بعضها في شهر طوبة وتردد المثل. أمثلة كثيرة عن الشهور القبطية منها أيضا «برمهات روح الغيط وهات» تٌقال تعبيرا عن موسم الحصاد، و«بشنس يكنس الغيط كنس» للتعبير عن انتهاء الموسم الزراعي واستراحة للأرض قليلا من أجل موسم جديد.. وهكذا.
كنت أتصور أنه لو حدثت مناقشات ستكون حول سؤال وهل هذه الأمثال سارية المفعول الآن بعد أن تغيرت التربة الزراعية، وتم البناء على نصفها تقريبا منذ السبعينيات الماضية وحتى الآن، وأصبح استيراد المحاصيل أكثر من حصادها، وبعد أن تم ردم مساحات شاسعة من بحيرات مثل، مريوط والمنزلة وإدكو وغيرها، فاختل التوازن البيئي وزاد الاحتباس الحراري، عما هو موجود في كل الدنيا، فالخلل البيئي في مصر جعله أكبر، حتي أن الشتاء صار حلما قصيرا، لقد انتبه البعض إلى ذلك لكن بسرعة.
توت أو تحوت هو إله الحكمة عند المصريين القدماء، وهو من علمهم القراءة والحساب، لذلك تبدأ الدراسة في كل الدنيا مع سبتمبر. هذا بلا شك طبيعي بعد انقضاء الصيف، لكن الأساطير المصرية الجميلة، تجعل انتهاء الصيف بيد توت معلمهم القراءة والحساب. السؤال الأهم الذي قفز هو سؤال الهوية، سؤال لماذا نسميها سنة قبطية وليست فرعونية؟ هذه سنة 6262 الفرعونية و1737 القبطية فلماذا نقول قبطية؟ التاريخ يوضح كيف أن التقويم الفرعوني كان موجودا لكن في العصر البطلمي، ثم الروماني حاول من احتلوا مصر التغيير فيه. ورغم أنه في هذه القرون حدث تماذج بين الآلهة الفرعونية والآلهة اليونانية، فصار تحوت أو توت هو هيرميس اليوناني، إلا أن مسألة طمس التاريخ المصري القديم كانت معركة هوية، ومن ثم قامت كنيسة الإسكندرية الأرثوذكسية باعتماد التقويم المصري القديم في عصر دقلديانوس الإمبراطور الروماني، وجعلوا سنة توليه حكم روما بداية التقويم القبطي، احتجاجا على ما ارتكبه من جرائم في حق المواطنين المؤمنين بالمسيحية، حتي سُمي عصره بعصر الشهداء.
لم يختلف التقويم الجديد مع التقويم الفرعوني المهجور، ولكن لأن وراءه كانت كنيسة الإسكندرية التي رأت في الأمر معركة هوية سُمي بالتقويم القبطي. أسماء الشهور كلها تقريبا أسماء آلهة فرعونية، اعتمدوها باعتبار المصرية القديمة هي الهوية في مواجهة الغزو الروماني. رأت الكنيسة أن العودة للفرعونية هو تأصيل للهوية. وهنا يقفز سؤال، هل لم يكن في مصر القديمة غير المصريين؟ كان هناك غيرهم وبالذات من اليهود الذين طردوا من فلسطين، ووجدوا ملاذا في مناطق بعيدة مثل أسوان.
الهوية إذن هي ثقافة الشعب المصري، وأي شعب، ورغم كل أشكال الاحتلال، بقي الملمح الأساسي في مصر، هو أنها بلد العالم كله يأتي إليها فيذوب فيها ويتمصر، أو كما قال جمال حمدان، مصر أنبوبة ماصة وليست طادرة.
هل شكلوا عبئا على المصريين؟ لا.. كانوا قليلين جدا، وعاشوا الحياة المصرية، حتى أنه نادرا ما يذكرهم أحد. هل كان هناك غيرهم؟ حدثت غزوات من ليبيا ومن آسيا، في ما عرف بالهكسوس، لكن هؤلاء جميعا لم يتركوا أثرا سلبيا على الهوية المصرية، ولا تذكر كتب التاريخ أحدا بقي منهم، ولا بد أن هناك من بقي، لكن الحياة المصرية أخذته إلى أحضانها وروحها. حين ضعفت قوة مصر القديمة وتناوب عليها الغزاة من الفرس إلى اليونان إلى الرومان، إلى العرب والمسلمين، بكل تجلياتهم، امتزجت ثقافاتهم بالثقافة المصرية القديمة. ورغم تغير اللغة بين الناس، واختفاء اللغة المصرية القديمة، إلا أن ذلك لا يعني أن المصريين صاروا يحملون هوية أخرى. العكس هو ما جرى. كل هؤلاء الفاتحين والغزاة تحولوا إلى الهوية المصرية، تركوا خلفهم، أو جلبوا معهم عادات وتقاليد صارت مصرية، وكأنها نبتت في مصر. من يقف أمام منطقة أثرية يونانية، مثل منطقة عامود السواري في الإسكندرية لا يشعر بأنها تخص اليونان. من يمشي في شارع المعز بين المساجد والأسبلة لا يشعر أنها تخص الفاطميين أو المماليك. عليها ما يشير إلى من بناها، لكنها صارت مصرية يرى المصريون أنهم أصحابها، كما يرون أنهم أصحاب الآثار الفرعونية، وينسون كل جرائم أولئك الحكام، فما بقي من ثقافة امتزج بالروح المصرية.
الهوية إذن هي ثقافة الشعب المصري، وأي شعب، ورغم كل أشكال الاحتلال، بقي الملمح الأساسي في مصر، هو أنها بلد العالم كله يأتي إليها فيذوب فيها ويتمصر، أو كما قال جمال حمدان، مصر أنبوبة ماصة وليست طادرة. أسطورة بناء الإسكندرية مثلا دليل حي على ذلك، فحين أراد الإسكندر الأكبر من المهندس دينوقراطس، الذي لقب بالبارع في الهندسة، أن يوضح له على الأرض رسم المدينة، لم يجد دينوقراطيس الحجر الجيري الأبيض، الذي سيرسم به على الأرض فرسمها بالقمح، فظهرت في السماء طيور ونزلت تأكل القمح فتشاءم الإسكندر، لكن رجاله قالوا له هذه علامة على مدينة سيأتي إليها كل الغرباء من كل الدنيا وصارت كذلك. لم يكن ذلك لأنها على البحر المتوسط فقط، لكنها روح المكان المصرية، فالإسكندرية الجديدة تصل ما بين جزيرتين مصريتين قديمتين هما فاروس وراكودة، إذا تجاوزنا بعض سنوات الانغلاق في العصر الإسلامي في مصر، فسنجد أنها مع محمد علي باشا وأبنائه عادت لتكون أم الدنيا، والبلد التي يأتي إليها كل الغرباء.
كان المصريون يعانون من التخلف بعد قهر قرون طويلة، فجاء الغرباء وبدأت النهضة بهم في كل شيء، خاصة الثقافة والسينما والمسرح والصحافة، إلخ، ولحق بهم المصريون ورجال المجتمع الأهلي أكثر مما لحقت بهم الدولة، بل كانت الدولة تشجع على ذلك. طبعا هناك من يرى تسمية التقويم بالقبطي افتئاتا على التقويم الفرعوني، لكن ببساطة كما قلت لأن كنيسة الاسكندرية هي التي قررت الحفاظ على الهوية، ولا معنى لنزع هذه الصفة عنها لأنها كانت لتثبيت الروح المصرية. طبعا جرى ما جرى على الهوية المصرية، منذ سبعينيات القرن الماضي، حين صارت الوهابية والسلفية المتشددة هما فرسا الرهان للحكم والحكام، وهذا حديث معروف، لكن المهم كيف انتبه الكثيرن لسؤال الهوية من مجرد تهنئة بالسنة القبطية أو الفرعونية. ليس في الأمر حنين إلى تلك العصور بقدر ما هو بحث عن هوية تم تشويهها، وأمل في أن تصبح مصر أم الدنيا من جديد.
٭ روائي مصري
سؤال الهوية لم يكن مطروحا قبل الحكم العسكري الدموي وهيمنة التيار الشيوعي على عقل مصر وثقافتها. كانت مصر المسلمة تمثل رحابة الإسلام وقدرته على استيعاب الماضي وهضم الحاضر، والتسامح مع كل ما ينفع الناس في الأرض. ولكن الفكر الاستعماري الشرير، طرح فكرة العرقيات والطائفيات والقبليات بعد أن نجح في تفكيك الدولة الإسلامية وتحويلها إلى كانتونات كبيرة وصغيرة يأكل بعضها بعضا، ويمزق بعضها بعضا، القوميات تتصادم والعرقيات تتقاتل، والطائفيات تنمو وتتمدد بمعونات وحمايات خارجية. الكنيسة الآن لها وضع الدولة ذات السفارات والوجود الذي يعمل له الآخرون من العساكر الدمويين ألف حساب قبل أي خطوة يخطونها؟هل يستطيع بلحة مثلا أن يهدم كنيسة كما هدم عشرات المساجد بحجة البناء المخالف؟ كلا، في محور االمحمودبة دار حول الكنبية المخالفة، ووواصل العمل؟ الهوية تعني اسقاط الإسلام من التاريخ المصري للأسف!
مصر بلد عربي رضي من رضي وابي من أبي واللي مايعجبه يشرب من البحر حتى يروي