الناصرة- “القدس العربي”: يوّثق باحثون وكتّاب عادة مسيرتهم وسيرتهم في كتب السيرة الذاتية، وبعضهم الآخر يعمل على توثيق سيرة ومنجزات أشخاص قدموا وساهموا وتطوعوا خاصة في المجال الثقافي والروحي والوطني العام. مثل هذه الكتابة عن الآخرين هي نوع من الانتصار لهذه الفكرة الأخلاقية الإنسانية وممارسة لقيمة الشكر والعرفان لمن يستحق فعلا، إضافة لكونها عملية توثيق لتجربة إنسانية فريدة كانت وستبقى ربما مفيدة للمجتمع بشكل أو آخر. هذه هي قصة فدوى يونس، مربية فلسطينية متقاعدة وناشطة نسوية وأهلية من بلدة عارة داخل أراضي 48، أمضت عقودا من حياتها في التربية والتعليم والثقافة والمجتمع، وبمناسبة صدور دراسة لها عن الموروث الغنائي العربي في شمال فلسطين التقتها “القدس العربي”. ولدت فدوى يونس عام 1949 لوالد تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت قبيل النكبة الفلسطينية، مما ترك أثرا مهما على روحها وشخصيتها وتعلّمها هي وشقيقاتها.
وتقول إن قريتها عارة كانت قرية صغيرة، منبهة أنها لا تعلم أي تاريخ ميلاد لها، لكنها تنقل عن والدتها قولها إنها ولدت في سنة الثلجة (1950)، وهي سنة شهدت فيها فلسطين والبلدان المجاورة عاصفة ثلجية كبيرة ونادرة صارت لدى كثيرين إشارة للتقويم. وتتابع: “القرية صغيرة لكنها على حافة شارع وادي عارة، وترك الشارع أثرا اقتصاديا وثقافيا على أهلها”. وتقول إن عرعرة قرية جارة لقريتها عارة، وهما قريتان شقيقتان لا يختلف سكان كل منهما عن بعضهما البعض، ويفصل بينهما شارع، وقد ولدت في أسرة مباركة الأبناء عمادها سبع بنات، وولد هو الطبيب البارز الراحل دكتور نظير يونس، وقد كان واحدا من أشهر أطباء جراحي القلب الفلسطينيين حتى توفي قبل سنوات كثيرة في جلطة قلبية.
لم يكن وقتها مألوفا أن تخرج البنت من القرية الفلسطينية للتعلم في مكان بعيد، لكن فدوى يونس كانت من البنات المحظوظات اللواتي خرجن عن القاعدة، وذلك بفضل والدها محمود عبد القادر يونس، الذي كان مثقفا وخريج الجامعة الأمريكية في بيروت (اقتصاد) هو وشقيقه محمد أفندي، الذي درس الحقوق وزميله المحامي الراحل حنا نقارة من حيفا “محامي الأرض والشعب”، في ثلاثينات القرن الماضي.
وتتابع: “رغم أن والدتي فرحة يونس كانت أميّة، لكنها مدرسة في تعليمنا وتثقيفنا وشجعت بناتها على التعلم، وفعلاً خرجت بعد الصف الثامن لمدرسة الفرنسيسكان في الناصرة عام 1963 وأنا بالكاد 14 سنة، وكان أهلي يدفعون 64 ليرة شهريا كقسط تعليم لأنها مدرسة داخلية وهذا مبلغ باهظ طبعا. سبقتني ابنة عمي بثينة يونس إلى هذه المدرسة، وهذا شجّعنا وخففّ الغربة عنا، وقبل ذلك تخرّجت ابنتا عمتي رسمية ووجيهة يونس من دار المعلمين في رام الله قبل النكبة، مما عزز تقاليد تعلّم البنات داخل العائلة”.
لم يعمل والدها في الاقتصاد ورفض العمل في التعليم، خاصة أنه يملك مساحات واسعة من الأراضي، وحتى أن ابنتي عمتها المذكورتين علمّتا في المدرسة دون راتب، تطّوعا، لأنه كان من غير اللائق أن تعمل بنات عائلة “إقطاعية” مقابل مكافأة مالية. وتستذكر فدوى يونس أنها تعرّفت على زميلات لها من كل القرى الفلسطينية ومن كل الأطياف في مدرسة الفرنسيسكان في الناصرة، خاصة أنها مدرسة راهبات ونظامها صارم والبنات فيها بـ “الحفظ والصون”.
“بعد تربية الوالدين أنا مدينة له بالعرفان في نمط الحياة والنظام الدقة والنشاط وتحمل الآخرين، خاصة أننا جئنا من بلدات وطوائف وخلفيات وبيئات متنوعة. ولي استمرارية هناك إذ تتعلم حفيدة يزن في الصف السابع اليوم في الفرنسيسكان”. وردا على سؤال توضح يونس أن معظم المعلّمات وقتها كن أجنبيات والبقية عربيات وبعضهن محليات. وتتابع: “عوملنا سواسية دون أي تمييز، وفي المدرسة تعلمّنا حبّ الموسيقى والغناء وكانت البنات يمثّلن حفلة زفاف، وكل منهن لها عادات وتقاليد ولهجة”. وتشير إلى أنها لم تنه الصف الثاني عشر “لأننا التحقنا بمشروع إعداد معلمات في دار المعلمين العرب في حيفا بسبب الطلب الكبير على المعلمات، لكنني عدت واستكملت شهادة التوجيهي ومثلي عشرات من طالبات مدرسة الفرنسيسكان”.
وردا على سؤال آخر تقول إنها ما زالت تحافظ على علاقات اجتماعية مع زميلاتها في المدرسة ودار المعلمّين خريجات فوج 1968، وقد بعثن لها التهاني بمناسبة صدور كتابها الجديد عن التراث الغنائي في البلاد. وتتابع، معتدة بالنفس: “باشرت في مهنة التعليم وأنا في مطلع عشرينيات عمري في التعليم المبكّر في مدرسة “السلام” الابتدائية، ولاحقا أمضيت 27 سنة في المدرسة الإعدادية المشتركة في بلدتي عارة /عرعرة، وشغلت منصب المديرة في السنوات الأخيرة من المسيرة التعليمية، وبالمجمل لي 33 سنة في حقل التربية والتعليم اهتممت خلالها بالبحث عن طرق تعليم إبداعية خارجة عن المألوف وقتذاك. وتوضح أنها تركت بصمات على المدرسة الإعدادية منها البرنامج السنوي “الطلائعيات”، وهو برنامج نسوي حيث كنت أدعو نساء مبدعات عربيات من مختلف أنحاء البلاد وأكرمّهن كي يكن قدوة للطالبات، ومنهن السيدة بدرية يونس التي وثقّت نتاجاتها في مجال التراث الغنائي. كما أسّست جوقة مدرسية وأنشدت أغاني السيدة الراحلة جامعة التراث الغنائي بدرية يونس
كذلك نشطت لسنوات في جمعية “نساء عارة وعرعرة الخيرية” لرعاية الطفولة المبكرة التي أسستها زميلتها نادرة يونس، ومن فعالياتها رحلات تثقيفية للتعرف على الوطن والمجتمع ورحلات ترفيهية وندوات مؤتمرات ونشاطات أخرى لتمكين النساء وحملات التواصل مع الأهل في الأرض المحتلة عام 1967. كما أدخلت مبادرة للرقص في المدرسة ليشارك في الرقص الصباحي الجميع بدءاً من مدير المدرسة ومعلميها، مؤكدة أن للرقص في الصباح قيمة ترفيهية وتربوية منعشة وغنية وبناء جو بيتي دافئ وتغيير تقاليد التعليم المتوارثة ودامت هذه الجمعية الخاصة بالرقص 22 سنة.
وفي هذا المضمار تضيف: “كذلك اهتممنا بفعاليات الزي الفلسطيني التراثي، ومن خلاله تعميم الوعي للتربية على الصحة والرشاقة، حيث كنا نستحضر فساتين العرس لسيدات تزوجن منذ سنوات لتذكيرهن بمقاساتهن الأولى قبل أن يتورطنّ بالسمنة مع توالي الأيام.
وتشير فدوى يونس إلى أنها وثقّت بلدتها بتسجيل تواريخ وتفاصيل ما كان يقع من أحداث، خاصة في مجال التراث على مشاربه المختلفة، منوهة أن الفضل في حفظ التراث الغنائي الشعبي يعود أولا للباحثة الراحلة بدرية يونس، وهي سيدة كفيفة من بلدها ساهمت كثيراً في حفظ الموروث الغنائي الشعبي وإثرائه. وتوضح فدوى يونس أن الباحثة الراحلة بدرية يونس المعروفة على ألسن الناس بـ “الست بدرية” قد ولدت في عارة 1915 ورحلت عام 2001 وفقدت بصرها في الرابعة من عمرها نتيجة ما يعرف بـ ” الرمد الحديبي”. وتضيف: “كنت أسمعها تقول إنها لا تتذكر من الألوان سوى الأحمر. تميزت بذكائها وبقدرتها على الحفظ، وبصوت حسن. كانت تعرف الناس من أصواتهم، ولم تعتزل الحياة الاجتماعية، بالعكس؛ فقد شاركتهم أفراحهم وأتراحهم بعدما كانت حفظت وألفّت الأغاني الشعبية وغنتها في المناسبات المتنوعة فغنّت للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وللقائد الراحل ياسر عرفات وللقدس وللثورة الفلسطينية عام 1936، والسد العالي وتحرير المرأة ونضال شعوب العالم الثالث وغنت للمغتربين في غربتهم، وهاجمت العملاء المخاتير المتعاونين مع السلطة الإسرائيلية”. وتوضح فدوى يونس أيضاً أن “الست بدرية” غنّت للعلم وللمناسبات الوطنية والدينية، فكان لها هيبة وحضور طاغ منبهة أنها اعتادت على ارتداء ملابس فاخرة نقشت عليها صورة عبد الناصر، كانت من أوائل من امتلكوا جهاز راديو في البلاد أعانها على عماها وقلة حيلها. وتضيف: “استدعتها الشرطة الإسرائيلية في تلك المرحلة عدة مرات للتحقيق معها بدعوى التحريض أو التماثل مع العدو، وهي في الواقع مؤرخة وثقت بيئتها بالقصائد العامية المغناة والأهازيج ولذا حرصت على إبراز دورها ومساهماتها ورد بعض الوفاء لها، خاصة أن نساء منطقة وادي عارة حفظن أغانيها التراثية وبفضلها نجت من الفناء”.
صدر لفدوى يونس الكتاب الأول “من الأغاني النسائية الشعبية وقول الست بدرية” عام 2001، تلاه الكتاب الثاني الصادر قبل نحو العام: “حادية الوادي.. من ميراث الأغاني الشعبية للست بدرية يونس”، وهو من إصدار “بيت الذاكرة والتراث للتوثيق والبحوث”. ويتضمن الكتاب الثاني مضامين غنية ومتنوعة وجريئة في الوصف والتعبير ويجد فيه القارئ أغاني المطر وأغاني رمضان، وهي من ذكريات الطفولة لحثّ المؤذن كي يؤّذن ويعلن نهاية الصوم أو “طاسة ورا طاسة بالبحر غطاسة”، وغيرها الكثير.
كانت تلتقي بها النساء وتسّجل، والكتاب الثاني هو ثمرة لقاءات مطولة لها مع الست بدرية، حيث كانت تسّجل وتراجع وتستعين ببعض نساء قريتها.
أهدت الباحثة فدوى يونس الكتاب “إلى الذين عقدوا للصلح رايات وبكرم أخلاقهم كانوا عونا لكل مظلوم ومحتاج، وإلى اللواتي أشعلن الحماسة والنخوة لدى الرجال الأبطال بأغانيهن وزغاريدهن فزادتهم بسالة وعطاء”. أما الإهداء في الكتاب الثاني فهو مخصص إلى كل من يعتز ويفخر بتراثه ويعيش حاضره على أساس ماضيه ليبني مستقبله. إلى الأزواج الذين قدمت الكثير لوطنهم. إلى عشاق الوطن. إلى عائلتي الصغيرة وزوجي وأولادي وابنتي الذين آمنوا بقيمة توثيقي للتراث وكانوا عونا لي”. وقدم الكتاب الثاني المؤرخ والباحث البروفيسور مصطفى كبها، ووضع النوتة الموسيقية للألحان الدكتور محمد موسى خلف، وراجع الكتاب الأول الدكتور شكري عراف، الباحث في التراث والتاريخ الفلسطيني، وله عدة إصدارت في هذا المجال، وسجل بصمات عريقة في الدراسات الإنسانية الفلسطينية.
أما عن هدفها من جمع وشرح وتحليل الأغاني الشعبية وتبويبها وتطبيقها ودراستها فتقول هو الحفاظ عليها من الاندثار ونشر وتسويق الأغاني لعدد أكبر من الناس لتعزيز المشاركة والتفاعل والشعور بالوحدة والانتماء للشعب والوطن. وتتابع: “اتبعت الباحثة المنهج الوظيفي الاجتماعي في شرح وتحليل الأغاني كما أوضحت البلاغة اللغوية في الأغنية الشعبية ومهام الأغاني الشعبية من مهمة اجتماعية أو نفسية وعاطفية وتثبيت العادات والتقاليد بين الناس والحفاظ على بقائها والمهمة المادية للأغنية الشعبية والمهمة الدينية أو العقائدية والمهمة التحفيزية والتشجيع والحث على الإقدام والكفاح. كما أوضحت 14 نوعا من مواضيع الغناء وتعريف بالشاعرة الشعبية الست بدرية التي أشرفت على الخامسة والثمانين من عمرها إلى أن ارتقت روحها إلى الرفيق الأعلى قبل عقدين ونيف”.
تحية تقدير الى السيدة فدوى يونس لنشاطها في الحفاظ على التراث الفلسطيني ….