فرانسوا بايرو… تتمة المغامرة

لنعد بداية إلى ما قبل حوالي عشرين عاما، حينها كانت قاعة «لا موتواليتيه» في قلب الدائرة الخامسة في باريس تعج بعدد غفير من كوادر حزب «الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية»، قطب يمين الوسط الفرنسي البارز آنذاك، منهم من تولى مناصب وزارية في حكومات جاك شيراك سابقا.
كنت حاضرا في معظم جلسات المؤتمر. كان بايرو يتحدث عن ثوابت: «لا يسار، لا يمين، وسط، وسط فقط، وسط». في سياق خطاب لا يتوانى عن تذييله بمجموعة من مقتطفات التراث الأدبي الإغريقي – اللاتيني – مجال اختصاصه أصلا كأستاذ – مثل قولة «أنتيغون»، شخصية سوفوكليس الشهيرة: «لم أولد لكي أشارك الحرب، بل لكي أشارك الحب».
دام المؤتمر ثماني ساعات، تعاقب خلالها على المنصة أعضاء بارزون في الحزب، وآخرون أقل بروزا يطمحون إلى البروز.. الجمهور كان منهكا، خاصة الشباب المهتمون بالشأن السياسي وغير المهتمين في المقابل بالمبارزات والرغبات المتعاقبة في الظهور، ممن هم دون ثقافة وسعة خبرة الرئيس.. لهذا كان لا بد من فترات استراحة، استراحة طبيعية لأجساد مرهقة، لكن أيضا من ثوابت سياسية بعيدة كل البعد عن المراجعة التجديدية للعقيدة الفكرية، ثوابت مكائد «القروش» الساعين إلى ضمان موقع لهم في الاستحقاقات الجهوية المقبلة.

الدائرة الخامسة التي اختارها بايرو لعقد مؤتمره قبل عشرين عاما، صورة وفية للرجل المثقف والمحتفل دوما بعظماء التاريخ الفرنسي، مثل الملك هنري الرابع

في المدخل الخارجي وجدت بايرو يتحدث مع مجموعة إلى جانبي، ثم غادر المجموعة فأمال وجهه تجاهي فسألني عما أفعل؟ وأخبرني أن زوجته تتعلم اللغة العربية وبأنه داعم لتعليم لغات أقل تمثيلا في مدارس الجمهورية مثل اللغة العربية التي تحتم مكانتها عكس ذلك، ثم سألني عن دراساتي ثم واصلنا الحديث عن خبرته السابقة في وزارة التعليم وإعجابه بفيكتور هوغو.. ثم تراسلنا عدة مرات وكتب لي ردا على رسالة قلت له فيها «أفضل التعليم والصحافة على السياسة»، «بطريقة أو بأخرى سنلتقي بالتأكيد». لم أعرف هل قصد هنا لقاء جديدا بيننا، أم لقاء بينه وبين الفرنسيين.. التقيت فعلا بمن سميته «فرانسوا» سنوات قصيرة بعد هذه المراسلة، حينما كان يقود حملته الانتخابية، وأعجبني يومها كيف أنه ابتعد فجأة عن فريقه أثناء جولة له داخل المدينة، ودخل مقهى وخرج منه وهو يحمل على كتفه طاولة يحتاج إليها لمؤتمر صحافي ..
الدائرة الخامسة في باريس دائرة الفكر بامتياز، إنها دائرة الحي اللاتيني الذي كتب عنه توفيق الحكيم، دائرة السوربون ومدرسة الأساتذة العليا، دائرة مقبرة العظماء وحديقة اللوكسمبورغ، تلك الدائرة الباريسية التي اختارها بايرو لعقد مؤتمره قبل عشرين عاما، صورة وفية لشخص الرجل المثقف وشخصية محتفلة دوما بعظماء التاريخ الفرنسي، مثل الملك هنري الرابع الذي كرّس له كتبا.
لبايرو أيضا خلفية أخرى أعطته وجها آخر، خلفية ابن فقد والده المزارع مبكرا فأسندت إليه مهمة تولي المزرعة، وهو يحضر في الوقت نفسه دراساته الأدبية العليا التي ستتوج بحصوله على شهادة التبريز في الآداب الكلاسيكية.. خلفية أكسبته الواقعية، الشرط العملي لكل توجه براغماتي. وجد بايرو في تعيينه رئيسا للوزراء تكريسا، وهو تعيين ناله بايرو بعد مساومات ماراثونية سجلت تسليم أيمانويل ماكرون بواقع خلاف بين الرجلين يدور منذ سنوات حول تصورين مختلفين للوسط الفرنسي، أحدهما لا يزال مترسخا في ثوابت اليمين الليبرالي، خاصة في نقطة إعطاء مساحة أكبر للمنتخبين المحليين في صياغة المشهد السياسي الفرنسي، خاصة الحكومات، ثانيهما مستوعب للأحزاب بغية استبدالها بتحالفات.
لكن التصور الثاني هو المحتوم الآن، ولا أعتقد أن الخلاف بين الرجلين جوهري إلى الحد الذي ترويه وسائل الإعلام في فرنسا.. لكن العائق الموضوعي باق ونعرفه جميعا، وهو غياب أكثرية برلمانية، ما يحتم على بايرو، البرلماني المحنك، أن يدبر الأمر بحنكته.. أكثر من أي وقت مضى تصح هنا مقولة للتوحيدي «الإنسان أشكل عليه الإنسان»، التوحيدي الذي كان قد طلبني بايرو في يومه الباريسي المشهود أن أعرفه به في أقل من دقيقة قبل أن يتوغل في سيارته (لأنه «يعرفه أقل من فيكتور هوغو» قال لي متهكما، «وما أكثر طيف الأحزاب والتحالفات انعكاسا لمعضلة الإنسانية التي برع صاحب المتاع والمؤانسة في إثباتها».
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الناقد الثقافي:

    بالمناسبة، حين تستمع إلى محمد أركون وهو يردد مقولة أبي حيان التوحيدي «لقد أشكل الإنسان على الإنسان» ترتسم على محيّاه ابتسامة إعجاب بهذه المقولة التي تلخّص صلب مشروعه. وإذا كانت مهمة الحداثة مناقشة الإنسان بوصفه موضوعا، فإن منطلقات أركون «ما بعد الحداثية» تضع الإنسان على مشارط النقد والتشريح بوصفه «إشكالية» على النحو الذي بدأتْه فلسفات الاختلاف، والتي درست الجنون والعقاب والسجون ضمن المفاهيم الفلسفية الحديثة وأشهرها تلك التي تطوّرت في عمل ميشيل فوكو، «الأركيولوجيا»..
    التوحيدي بعبارته المركزة هذه قد اختصر علينا ما يعاني منه البشر في كل العصور، وبخاصة في هذا العصر، إذ يجعلنا ندرك مأساة الانسان الحقيقية، إما في حروب أو كوارث طبيعية أو مجاعات وزلازل وبراكين وأعاصير وغيرها، أو صراع على البقاء والوجود والتسلط مع نظيره الانسان وتستخدم به كل أنواع الأسلحة الفتاكة التدميرية، سواء كانت جسمية أم نفسية أم اجتماعية، وبذلك لازم الخوف والقلق حياته، فهو يعيش في خوف دائم على واقعه وما يراه ومن قلق على مستقبل يراه كليل حالك لانطوائه على مجهول أياً كان هذا المجهول !!
    تحية لبيير لوي وعيد ميلاد سعيدا

اشترك في قائمتنا البريدية