قد لا يبدو رهان الاختلاف موضوعا شعريا خالصا، لكنه يظل موضوعا إشكاليا يبحث عن توصيف وتأطير، في الأنطولوجيا، وفي مجرى إثارة الأسئلة، حيث البحث عن الخصوصية، وعن فكرة الفردنة، والانهمام بالكوجيتو المفقود عن «الذات المفكرة».
هذا التشاكل هو ما يجعل الشعراء أكثر تورطا بالبحث عن الاختلاف، توقا للحرية والاعتراف، فهم أكثر خبثا من الفلاسفة في مواجهة النسقيات الخبيئة والضاغطة في اللغة، إذ ينظر الفيلسوف للغة، بوصفها مجالا أو حتى جهازا للتفكير، والشاعر لا يرى فيها إلا بيتا للوجود والمكوث واللذة والمرادة وحتى الافتراس.
ما بين نقائض النظر والاستعمال في الشعر والفلسفة تعثر كثير من محاولات النقاد لتأطير اللعبة الشعرية بالأفكار، واصطناع مجاورات أليفة بين الشعراء والفلاسفة، لكنها كما يبدو تظل محكومة بنزعة الطرد والتعالي، التي كرّسها أفلاطون في مثاله، وهذا ما دفع الشعراء إلى البحث عن ملاذ خارج الفلسفة، حيث اللغة والفرجة، وحيث العلاقات الافتراضية، أو الإيهامية ما بين الشعر والمعرفة، أو الشعر والفلسفة، أو الشعر والتحليل النفسي، وعلى نحوٍ يوّسع مديات الاشتغال الاستعمالي والتداولي، ويمنح الناقد والقارئ هامشا لتجاوز ما هو فيللوجي، إلى ما هو أيديولجي أو سايكولوجي، أو أنطولوجي، بوصف هذا التجاوز هو جوهر التغيّر في الوظائف، أو في توسعة تداولها في البحث النقدي، أو حتى في مقاربة ما يؤَسس للشعر في المناهج والنظريات.
أزمة الشاعر العربي أكثر تمثيلا لأزمة المهيمنات النسقية، كما يسميها الغذامي في الثقافة العربية، فهي قرينة بأزمات تمثيله للفحولة والسلطة والقبيلة، وبتموضعه وحيدا وضائعا ومستلبا إزاء أنساق غامضة، مثل السياسة والأيديولوجيا العصاب، وهي وجودات غير مستقرة، وغير منضبطة، إذ تتعرض كثيرا لعوامل التعرية، بما فيها التعرية التي يتعرّض لها الجسد واللغة والفكر، حيث تتحول مغامرة الشاعر إلى صراع لا ملامح له، سوى ملامح الضحية، أو ملامح البطل، وهي ثنائية مضطربة دائما، ومحكومة بعوامل تلك الأنساق الغامضة، التي تملك قيادها السلطة والجماعة.
رعب التاريخ وحساسية التجاوز
قد يبدو الرهان على وظيفة الشاعر نوعا من الحماقة، ليس لأنه كائن نسقي، أو أن بحثه عن الاختلاف مرهون بقدرته على التجاوز، بل لأنه الكائن الأكثر ضعفا في إثارة الأسئلة، لاسيما تلك التي تخصّ السلطة، والتاريخ والمقدس والجسد والنص، إذ يرتبط ذلك الضعف برثاثة مواجهة التضليل والانحطاط، بما فيه التضليل الاستعاري، حيث مواجهة السلطة التي دأبت على أن تصنع تاريخا مزيفا للمنبر، لإيهام الآخرين بتصديق سردياته، فضلا عن ما تصنعه الجماعة من وعي عمومي، يجرّ الاتباع إلى التقليد والطاعة والمكوث في النسق القديم، حيث النص، والنقل والفقه، وحيث يتحول التأويل إلى لعبة في المروق، وفي ارتكاب المعصية والتزندق، ليجد الشاعر نفسه أمام خيارات الموت، أو السقوط في لعبة النقائض، مسكونا بالإغواء والخديعة والمناورة، والبحث عن الاستعاري الشائه، والمجاز الدافع للعبور نحو ما تكشفه الذات عن الاختلاف، الذي يعني كسر قاعدة الطاعة.
رعب التاريخ، هو رعب السلطة، ورعب التدوين والنقل، وربما رعب الأسماء، التي فرضت وجودها الأيقوني على منظومات التلقي والتداول، فمن الصعب جدا أن نتحدث عن تجاوز افتراضي للمتنبي والمعري وأبي تمام، وحتى أدونيس ونزار قباني والسياب والشابي، لأن هؤلاء كرسوا حضورا آخر للمقدّس في المخيال الشعري، مثلما صنعوا لنا قوة فائقة للنقل الشعري المقابل للنقل الفقهي، وأن فحولتهم الشعرية صنعت لهم مجدا لا يسقط بالتقادم، كما يقول القانون الجنائي، ربما لوجود عقد عصابية في التلقي، حيث يعيش الكائن الثقافي أوهامه، عبر وجوده «الاستمنائي» في نسق لاوعي الجماعة، أو في النقل بوصفه علامة لـ»الثابت» والمقدس والسلطة، وحيث سيبدو الاختلاف مع الآخر، والتجاوز إزاء تلك الموجودات، وكأنه ذهاب الى المتاهة والهزيمة، أو الى الفردنة الملعونة.
أنسنة الاختلاف تعني أنسنة الغابة، ليس باتجاه تحويلها إلى سيرك، أو إلى محمية طبيعية، بل تعني تحرير العقل الشعري من سطوة الحدود في البيان وفي العرفان، وفي إعادة تأهيل الحرية، لكي تكون صالحة للاستعمال، بما فيها حرية الاختلاف والتجاوز.
أنا لا أتحدث -هنا- عن هزائم الشاعر الشخصية إزاء الحكم النسقي، بل أتحدث عن ارتباك الشاعر إزاء الوجود ذاته، حيث تغوّل السلطة، والقانون، والجماعة، والثورة، وحيث رثاثة الجسد والذات والكينونة.
هذه الثنائيات الملتبسة جعلت الشاعر أكثر هوسا بفكرة الخلاص خارج لعبة الشعر، باحثا عن فردنته، عن وجوده إزاء عالم غارق في العمومية، وفي الحدود التي صنعها المقدس، وفرضتها السلطة، وكرّستها الجماعة، بمن فيهم جماعة التلقي في القاعات، والمسكونون بقصيدة القضية واللذة والهزيمة.
الاختلاف هو القناع الفاضح للتجاوز، لكنه ظل الأقل شجاعة في الإشهار، وفي البحث عن قصيدة تطمئن لعريها، وبقدر ما أن النقد الأدبي العربي استنبط أحكاما متعسفة أحيانا للصناعة الشعرية، فإن النقد الثقافي بدا وكأنه نقدٌ ثأري، أراد أن يُخرج الشاعر من لعبة الاطمئنان إلى لعبة مجاورة الغابة، حيث تزدحم حوله الأنساق المتوحشة التي تضم في كثافتها عيوب الذات المشوهة، وعِلل التاريخ، ورعب العصاب، وأحسب أن هذا ما أعطى للناقد السعودي عبد الله الغذامي، هامشا لاستثمار أفكار ليتش، حول النقد الثقافي، ليبدو أكثر ثأرية في التعاطي مع قيم وصور مهيمنة فرضت صورها واستعاراتها على لاوعي الشاعر العربي، بدءا من الفحل الشعري المتنبي، وليس انتهاء بالفحولة الأكثر مهارة لأدونيس ونزار قباني.
محاولة في أنسنة الاختلاف
أنسنة الاختلاف تعني أنسنة الغابة، ليس باتجاه تحويلها إلى سيرك، أو إلى محمية طبيعية، بل تعني تحرير العقل الشعري من سطوة الحدود في البيان وفي العرفان، وفي إعادة تأهيل الحرية، لكي تكون صالحة للاستعمال، بما فيها حرية الاختلاف والتجاوز، وطبعا هذا الافتراض يرهن وجوده بإعادة تأهيل السلطة العربية، لأن الحاكم العربي الجنرال والطاغية و»الحاكم بأمر الله» يتوهم بأنه يعرف بالشعر أكثر من الأصمعي، ومن الجرجاني وجابر عصفور وفاضل ثامر. علاقة التأهيل الملتبسة بين حرية الشاعر والسلطة والحاكم ليست حديثا في التجريد، بل هي جوهر «البرهان» الذي طالب به محمد عابد الجابري، وهو يمارس طقوسه في نقد العقل العربي، إذ تعني الحرية في هذا السياق جوهر البرهان، وهي القوة التي تملك أهلية التغيير، والفاعلية التي يمكنها إعادة تأهيل المفاهيم التي تخصّ كل علائق الشاعر بالوجود والفلسفة والحرية والجسد والآخر.
مفهوم الاختلاف قد يكون قريبا من أطروحات ما بعد الحداثة، لكنه يظل فاعلا معرفيا، له اشتغالاته وقطائعه في الفكر واللغة، وفي الشعر، ليس على مستوى الإشهار البياني، بل على مستوى تغيير أنماط الكتابة، وتجديد أدوات الشاعر، وتقاناته، ومرجعياته المعرفية، إذ لم يعد الشعر بعيدا عن المعرفة، ولا عن الأفكار التي تمنح الشاعر قوة للدفاع عن فردانيته، وعن رغبته في أن يكون صاحب الكوجيتو الشعري «أنا أكتب القصيدة إذن أنا موجود» والوجود هنا فعل تاريخ وأنطولوجي، وحتى برهاني بحمولته المعرفية والسياسية. كما أن مطرودية الشاعر من فضاء السياسة، بمعناها الأيديولوجي لم تعد مقبولة، ليس للمجاهرة بالاختلاف الأيديولوجي، بل بالاعتراف بوجود الشاعر حرا بدون فحولات قهرية، وبدون أنساق عصابية، إذ يكون هو الكائن والمواطن والشهواني، الذي يملك حق الإغواء والمراودة والتموضع الحر داخل اللغة، ليس على طريقة رامبو لينتف لحية فيكتور هوغو تحت يافطة الاختلاف، وليس على طريقة بودلير الذي جاهر بسأمه من المدينة، بل على طريقته الخالصة بوصفه الكائن الحر الذي يتماهى مع جوهر الفكرة الفلسفية للاختلاف، وحيث تكون القصيدة أكثر سطوعا في تمثيل الإنسان الذي يرى العالم واضحا بعيدا عن أقنعة السلطة والمقدس والجماعة.
٭ كاتب عراقي
ورد فيما نشره (علي حسن الفواز) تحت العنوان (فردانية الشاعر ورهان الاختلاف) «أنا أكتب القصيدة إذن أنا موجود» وكذلك ( بل على طريقته الخالصة بوصفه الكائن الحر الذي يتماهى مع جوهر الفكرة الفلسفية للاختلاف، وحيث تكون القصيدة أكثر سطوعا في تمثيل الإنسان الذي يرى العالم واضحا بعيدا عن أقنعة السلطة والمقدس والجماعة.)
ما فات (علي حسن فواز)، رغم أنه من وادي الرافدين،
على الأقل من وجهة نظري، هو أن مناهج تعليم دول كيانات سايكس وبيكو (الحداثة) تعتمد، مفهوم اللغة، عند أهل التوراة (العهد القديم) من كتاب الإنجيل، وهو يختلف عن مفهوم اللغة عند الثنائي:
– أبو الأسود الدوؤلي،
– الخليل بن أحمد الفراهيدي،
الذين استلم أمر (علي بن أبي طالب)، من أجل إكمال شكل الحرف، أو الكلمة، أو الجملة،
من أجل جمع كل ألسنة العرب من القراءات للغة القرآن وإسلام الشهادتين،
حيث الحكمة شيء، والفلسفة شيء آخر، وليس لها علاقة بموضوع أن الفلسفة تعني حب الحكمة، فما معنى الحب هنا، أصلاً؟!
فخرج كلاهما بتصميم عبقري، أساسه مفهوم كما تُنطق تُكتب، هذا التصميم العبقري، مهّد لتمثيل كل ألسنة أهل قارة آسيا وقارة أفريقيا، هذا من جانب،
ثم الاختلاف، هو الأصل، في طريقة الفهم، بسبب اختلاف بيئة عائلة كل إنسان، عن عائلة إنسان آخر داخل نفس المجتمع، وبالنتيجة ردّة الفعل، في طريقة التعبير، تختلف بالنتيجة،
ثم اللغة وسيلة للحوار، من أجل رفع أي سوء فهم، للوصول إلى إتفاق ما، بين منتج فلان، مع منتج علان، لإيجاد أرضية التعاون والتكامل والتبادل التجاري في أي سوق،
المنافسة في السوق، ليس صراع أو حرب، عند أي إنسان عاقل، يفهم معنى التجارة أو التسويق،
فبدأ عصر التدوين اللغوي، وبعد ذلك بدأ عصر الترجمة بين اللغات من خلال بيت الحكمة، بعد أن اكتمل مفهوم الدولة، من خلال صك العملة وتكوين الدواوين، من خلال مفهوم الأوقاف الإسلامية، كأس الإنتاج الإقتصادي،
فموظف الدولة، هو لخدمة الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة،
حيث لا يحتاج إلى هيبة، أو خُمس، لتغطية مصاريف جيش (المهدي المنتظر) أو (المسيح المنتظر) حسب فلسفة عقلية تدوين لغة التوراة والانجيل، بعد السبي البابلي في وادي الرافدين.??
??????