فرنسا بين العلوم السياسية والعلوم التجريبية

إذا كان عنصر المفاجأة يعتبر من المحددات الأساسية للتواصل، ويتم تدريسه في كليات الاتصالات، فقد أصبح أيضا مادة تطبق على السياسة ومنذ عهد بعيد. «الانفتاح»، مفهوم كرسه قادة أكثر من دولة ولأكثر من غرض (الرئيس أنور السادات مثلا، وإن كان بمعنى اقتصادي، لكن الاقتصاد سياسة أيضا) – ولم يخل المشهد السياسي الفرنسي من «حزمة» استراتيجيات كتب لها التاريخ أن تمتاز بخاصية التكتيكات الآنية، أكثر من التخطيطات على المدى البعيد.
كانت فترة «الانفتاح» السياسي الفرنسي، التي دشنها فرنسوا ميتران، والتي اشتهرت لاحقا كمصطلح في قواميس العلوم السياسية في جامعاتنا، قاعدة انطلاق لإعادة هيكلة الأغلبيات الحاكمة الهشة، أو التي بحاجة إلى تماسك يتناغم مع التوجهات المرسخة في أيديولوجيات الأحزاب، وتوسيع الكتل الحزبية الطبيعية. توسيع الكتل السياسية الحزبية الطبيعية، هذا ما قام به فرنسوا ميتران، عندما نظر للانفتاح باتجاه اليسار (انفتاح اليسار الاشتراكي نحو اليسار الشيوعي) تحت مسمى ما سيصطلح عليه لاحقا بـ»اتحاد اليسارات» وقد كان ميشيل روكار من أبرز منظريه. وسيكتسي «اتحاد اليسارات» هذا وجوها مختلفة أبرزها «اليسار التعددي» الذي سيصبح ليونيل جوسابان من أهم أقطابه خلال مرحلة «التعايش» التي شهدت فوز الاشتراكيين في الانتخابات البرلمانية، إبان ولاية جاك شيراك، وقد حمل اليسار التعددي حينها خاصية إدخال أحزاب البيئة «الإيكولوجيين» إلى حضيرة المشهد السياسي الفرنسي. ثم تغيرت براديغما التجمعات اليسارية، لتتخذ الشكل الذي عرف به حالياً، والذي خلق سابقة في تاريخ اليسار بعد تجربة المشاركة الحكومية الشيوعية القصيرة في زمن ميتران. أجل.. فقد بات جان لوك ميلانشون مهندسا لاتحاد جديد، وقد حمل مسمى «الاتحاد «أيضا: الاتحاد الشعبي الإيكولوجي الاجتماعي الجديد (NUPES) لم يدخل التجمع كلمة «اشتراكي» في تسميته، وكأن باكورة «تفسخ في بيت الأمة» كانت مرتقبة على أساس أن السيناتور الاشتراكي الأسبق المحنك ميلانشون، قد حسب حسابه لاستنساخ الانفصال الذي كرسه هو مع حزبه الأصلي الحاضن لمسيرته السياسية الطويلة وهذا ما حدث فعلا.
ولئن كان «الانفتاح على اليسار» ضارب الجذور في البوتقة اليسارية، فقد تمت التجربة أيضا يمينا في ولاية نيكولا ساركوزي، ولو استثنينا «اقتناص» ساركوزي أحد أبرز الوجوه الاشتراكية في الأعوام العشرين الأخيرة، هو الطبيب والناشط الإنساني وزير الصحة والخارجية الأسبق برنارد كوشنير، فلا يمكن اعتبار التجربة ناجحة باعتراف كوشنير نفسه، الذي كتب رسالة استقالة بعيد تعيينه. «اقتناص»، قد تكون هذه الكلمة العربية الأنسب لترجمة مثيلة في المعنى فرنسياdébauchage ، أي انتزاع أقطاب حزبية من تشكيلاتها السياسية الأصلية للمساهمة في تدعيم الأكثريات الحاكمة. في هذا السياق، تعتبر رشيدة داتي واجهة هذه الممارسة في حكومة ايمانويل ماكرون الجديدة، وريثة تكتيك الانفتاح. لن نتحدث هنا عن «انفتاح» بالمعنى الكلاسيكي الذي يستدعي انفتاحا من توجه سياسي «تقليدي» إلى توجه سياسي تقليدي آخر، بعبارة أخرى من تيار إلى تيار ٱخر يطابق الطيف الحزبي المرسخ في أدبيات العلوم السياسية، أي اليميني واليساري.
حزب «النهضة’ الفرنسي طمس الحدود بين التوجهين وادعى تمثيلهما في الوقت نفسه، بل جعل من «الوقت نفسه» هذا عقيدة. الانفتاح لم يعد انفتاحا إذن.. صار ممارسة ذات طبيعة أخرى، لكن الخشية كبيرة في أن ترسخ التجربة ما أنذر به أصلا خلو البرلمان الفرنسي من أكثرية مطلقة، بعد إعادة انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون، طبيعة المشهد السياسي الفرنسي ثنائية الأقطاب الذي لا يسير على المنوال ذاته «التحالفي» الذي يعتبر حجر زاوية نظيره الألماني. لقد أدخل ماكرون العلوم السياسية الفرنسية في حقل العلوم التجريبية، بدعوى أن الحاجة أم الاختراع، لكن التنافر الغالب على التناغم يبدو مكرسا لاستحالة تحول طبيعة التداول إلى تحالفات لا تكون توليفات.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد اليعقابي:

    وصلت سياسة “في الوقت نفسه” الماكرونية الى انشاء ما يمكن تسميته بالماكرولوبينية macrolepenisme . يبقى السؤال: من سيمثل هذا الاتجاه في الانتخابات المقبلة؟ الاصل ام نسخة عنه. واعتقد ان الناخب سيفضل الأصل

اشترك في قائمتنا البريدية