باريس -«القدس العربي»: في خطوة هي الثانية من نوعها في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية والأولى من نوعها منذ عام 1962، أسقط النواب في الجمعية الوطنية الفرنسية هذا الأسبوع حكومة رئيس الوزراء ميشيل بارنييه بالتصويت على حجب الثقة عنها، ما يفتح الباب أمام مرحلة كبيرة من عدم اليقين السياسي.
فغداة تمرير الحكومة بالقوة لمشروع قانون تمويل الضمان الاجتماعي من خلال تفعيل رئيسها ميشيل بارنييه المادة 49.3 من الدستور التي تسمح للحكومة بتمرير نص دون إخضاعه لتصويت البرلمانيين، صوت النواب بأغلبية كبيرة، بمن فيهم نواب حزب “التجمع الوطني” وحلفاؤهم في اليمين المتطرف، صوتوا لصالح مذكرة حجب الثقة التي قدمها تحالف اليسار المنضوي تحت راية “الجبهة الشعبية الجديدة”، حيث حصلت على 331 صوتا، وهو ما يتجاوز بكثير الـ 288 اللازمة لاعتمادها.
وعليه، حطم ميشيل بارنييه رقما قياسيا من حيث قصر مدة البقاء في ماتينيون (مقر رئاسة الحكومة) إذ ظل رئيسا للوزراء لمدة ثلاثة أشهر فقط. كما أن حكومته التي أسقطت بعد أكثر من عشرة أسابيع من الإعلان عنها، باتت أول حكومة يتم حجب الثقة البرلمانية عنها منذ ستة عقود، تحديداً منذ عام 1962 حين تم حجب الثقة البرلمانية عن حكومة جورج بومبيدو، بعد أربع سنوات من ميلاد الجمهورية الخامسة. حينها، رد الجنرال ديغول، رئيس الجمهورية، على الفور بحل الجمعية الوطنية، ما أتاح له الحصول على أغلبية كبيرة لاحقا.
واليوم لن يكون بإمكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يفتقد للأغلبية البرلمانية، قانونياً إعادة حل الجمعية الوطنية قبل حزيران/يوميو 2025 – أي بعد عام على حلّه للبرلمان في الشهر نفسه من العام الجاري والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، ما أدى إلى عملية إعادة تركيب المشهد السياسي الفرنسي، متحوّلة إلى فوضى عارمة في بعض الأحيان.
تصدر حزب مارين لوبان اليميني المتطرف الجولة الأولى لهذه الانتخابات التشريعية، لكن تحالف أحزاب اليسار الذي تم تشكيله في ضوء هذه الانتخابات التشريعية تحت راية “الجبهة الشعبية الجديدة” قلب كل التوقعات وتصدر نتائج الجولة الثانية. لكن الحقيقة هي أن الجبهة الشعبية الجديدة لأحزاب اليسار وعلى الرغم من فوزها بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية، إلا أنها لم تحصل على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية (أي 289 مقعداً من أصل 577 مقعداً) حيث أفرزت هذه الانتخابات جمعية وطنية مشتتة ومنقسمة على ثلاث كتل برلمانية: الجبهة الشعبية الجديدة (193 مقعداً برلمانياً) والمعسكر الرئاسي لوسط اليمين (166 مقعداً) ثم اليمين المتطرف وحلفاؤه (142 مقعدا)، فيما حصل حزب “الجمهوريون” اليميني المحافظ (47 مقعداً).
هذا الأخير حزب “الجمهوريون” رغم فوزه بالقليل جدا من المقاعد البرلمانية، إلا أن الرئيس إيمانويل ماكرون اختار إحدى الشخصيات المخضرمة المنتمية إليه رئيسا للوزراء وكلفه بتشكيل الحكومة: ميشيل بارنييه. وذلك بعد أسابيع من التشاور والتردد والترقب.
بعد تهديدها بحجب الثقة عن أي رئيس للوزراء يتم تعينيه من اليسار بالإضافة إلى شخصيات يمينية مثل كزافييه برتران، أعطت مارين لوبان وحزبها الضوء الأخضر لتعيين ميشيل بارنييه مؤكدين أنهم سيمنحونه الوقت ويحكمون على حكومته من خلال “أفعالها”. وعلى مدى أشهره الثلاثة على رأس الحكومة، اضطرّ بارنييه للتنازل لحزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف بخصوص بعض النقاط، لكن نقطة الخلاف التي أدت إلى تصويت حزب مارين لوبان لحجب الثقة عنه كانت تمريره بالقوة لمشروع قانون الضمان الاجتماعي.
من حيث التوقيت والسياق، يُشكل حجب الثقة البرلمانية عن حكومة ميشيل بارنييه، وبالتالي إسقاطها، صداعاً جديداً للرئيس إيمانويل ماكرون، الذي سيتعين عليه الآن العثور على رئيس جديد للوزراء لا يكون عرضة لحجب الثقة عن حكومته في أول اختيار، ويكون قادراً على جمع أغلبية في الجمعية الوطنية تسمح له بتمرير إصلاحات الحكومة مشاريع قوانينها.
غداة التصويت التاريخي على حجب الثقة عن حكومة ميشيل بارنييه، وعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في كلمة متلفزة، استبعد فيها الاستقالة قبل انتهاء ولايته، بتعيين رئيس للوزراء في الأيام المقبلة يتولى تشكيل “حكومة مصلحة عامة، تمثل جميع القوى السياسية”.
واتهم ماكرون اليمين المتطرف واليسار الراديكالي بالاتحاد “في جبهة مناهضة للجمهورية” لإسقاط رئيس الوزراء، منتقدا “الرغبة في الفوضى” لدى أولئك الذين “لا يفكرون إلا في شيء واحد فقط، وهو الانتخابات الرئاسية”. وعبر عن أسفه لأن “نواب حزب مارين لوبان اختاروا التصويت على مذكرة حجب الثقة جاء فيها عكس برنامجهم وتهين ناخبي هذا الحزب”.
وبعد خطابه، باشر ماكرون مشاوراته مع رؤساء الكتل البرلمانية اليمينية، باستثناء حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف وحلفائه وحزب “فرنسا الأبية” اليساري الراديكالي والحزب الشيوعي من أجل اختيار “الاسم المناسب” لخلافة ميشيل بارنييه.
يتم، بحسب عدة مصادر، تداول أسماء عديدة لمنصب رئيس الوزراء.. ويبدو أن اسم سيباستيان ليكورنو، وزير الجيوش الحالي، البالغ من العمر 37 عاما، هو الذي يظهر في أغلب الأحيان في التبادلات بين إيمانويل ماكرون والمقربين منه. وًيعد الوزير الشاب، أحد رجالات “الماكرونية” (نسبة إلى ماكرون) الأقوياء، وسبق له أن تولى عدة حقائب وزارية، وهو الوزير الوحيد الذي ظل في الحكومة منذ وصول إيمانويل ماكرون إلى السلطة عام 2017. وهو عضو سابق في حزب “الجمهوريون” – الحزب الذي ينتمي إليه ميشيل بارنييه-، ويحافظ على علاقات جيدة مع أعضاء الحزب في الجمعية الوطنية.
الاسم الثاني الذي يتم تداوله أيضا لخلافة ميشيل بارنييه، هو فرانسوا بايرو، رئيس حزب “الاتحاد من أجل الديمقراطية” المنتمي إلى وسط اليمين، أبرز حلفاء الرئيس الفرنسي. ويحظى فرانسوا باحترام جزء كبير داخل الجمعية الوطنية، بما في ذلك من قبل حزب مارين لوبان “التجمع الوطني” اليمني المتطرف. وهو يدافع مثل مارين لوبان، عن إنشاء اقتراع نسبي للانتخابات التشريعية.
يتم أيضاً تداول أسماء شخصيات أخرى ولكن بدرجة أقل، بما في ذلك رئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق برنار كازنوف، والذي تم استقباله بالفعل في الإليزيه بعد حل الجمعية الوطنية في التاسع من حزيران/يونيو الماضي. كما يتم تداول اسم وزير الداخلية الحالي برونو روتايو. غير أن هذا الأخير، وهو الصديق المقرب لفيليب دو فيلييه، المعارض الشرس للزواج للجميع، يبدو مثيرا للانقسام، ما سيجعله غير قادر على جمع أغلبية في الجمعية الوطنية.