فرنسا مرضٌ جزائري

حجم الخط
14

وجدَ نحو 25 جزائريا يقيمون في بريطانيا أنفسهم في فخٍّ غريب ومفاجئ بمطار شارل ديغول في باريس. تستمر مأساة هذه المجموعة المكونة من عائلات وأطفال دون الخامسة ورجال فوق السبعين، منذ أكثر من شهر. لكنها بدأت في الأيام الماضية تتحوّل إلى ملف سياسي مزعج.
كان من المفروض أن يسافر هؤلاء الناس من لندن إلى الجزائر عبر باريس. لكن في منتصف الطريق تغيّر شيء ما فجأة في الجزائر استدعى منعهم إكمال رحلتهم. قالت السلطات الجزائرية إنها قررت تعليق دخولهم بسبب تفشي السلالة الجديدة من فيروس كورونا المنسوبة إلى بريطانيا والمنتشرة، بالمناسبة، في كل العالم وليس بريطانيا وحدها.
طلبت السلطات الجزائرية، عبر شركة الطيران الحكومية والبعثة الدبلوماسية في باريس، من مواطنيها العودة إلى لندن لكنهم رفضوا، كلٌّ لظروف تخصه، فبدأ حوار طرشان سرعان ما انقطع. ثم أخذت القضية بُعدا إعلاميا وسياسيا وانتهى بها المطاف في محاكم باريس بعد أن تولاها محامون فرنسيون. هذه المشكلة هي نتيجة حتمية لمسار أعرج من بدايته. الخطأ الأكبر يبدأ من السياسة التي تتبعها السلطات الجزائرية والمتمثلة في إغلاق البلاد في وجه الجزائريين المقيمين في الخارج، منذ أكثر من سنة، إلَّا وفق شروط غامضة لا يفهمها أحد. هذه الشروط الغامضة والظروف الأكثر غموضا تتطلب ألَّا يغادر الجزائريون بلادهم إلا وفق متطلبات معينة منها الإقامة في الخارج أو بعقد عمل. وتتطلب ألّا يدخل الجزائريون إلى بلادهم إلا لظروف إنسانية منها وفاة أحد الأقارب من الدرجة الأولى أو المرض الشديد.
إذا كان تعليق خروج الجزائريين بغير سبب وجيه مفهوما، لأنه يمنع تراكم العالقين في الخارج بعد أن تحوَّلوا إلى عبء ثقيل، فمنع الجزائريين المغتربين من الدخول إلى أرض الوطن، ضرب من اللامسؤولية وانعدام الحسّ الإنساني.
في مقابل الظلم الذي يتعرض له الجزائريون المغتربون، يدخل الأجانب إلى الجزائر بكل أريحية وراحة بال من كل أنحاء العالم.
عندما يتعلق الأمر بدخول الجزائريين، وفق الشروط الغامضة والعرجاء، اهتدت السلطات إلى ضرورة توجيه أيّ جزائري مغترب، أينما كان، يُمنح إذنَ (تأشيرة) دخول لبلاده، إلى باريس ومنها إلى الجزائر.
لماذا باريس؟ الجواب عند المسؤول صاحب هذا القرار الأخرق.

بعد كل هذه السنوات وكل التغييرات الاجتماعية والسياسية والذهنية في الجزائر وغير الجزائر، لا زال هؤلاء يختزلون العالم كله في فرنسا

حدّثني أصدقاء يقيمون في دولة خليجية أن السلطات الجزائرية، وكشرط لمنحهم إذنَ الدخول، ألزمتهم بأن يكون ذلك عبر باريس. مع العلم أن ما لا يقل عن رحلتين تتوجهان أسبوعيا من عاصمة وجود هؤلاء الناس نحو الجزائر معبأة بمسافرين من جنسيات متعددة، خصوصا الآسيويين. ومع العلم أن الرحلة بين أي عاصمة في الخليج نحو الجزائر تساوي زمنيا مثيلتها إلى باريس أو قد تقل بعض الشيء. أما الرحلات الجوية بين الجزائر وفرنسا عموما، باريس على وجه الخصوص، فقصة في حد ذاتها مفتوحة زمنيا وتستحق أن تؤلَّف حولها كتب وروايات. حتى في الظروف العادية، تتميز الرحلات الجوية بين الجزائر وفرنسا بعدم اليقين والأصوات المرتفعة والغضب والسخط والطوابير الطويلة غير المبرَّرة. وعندما يحل فصل الصيف تبدأ قصص وكوابيس المغتربين العائدين لقضاء إجازاتهم السنوية في أرض الوطن. من النادر أن تمر رحلة أحدهم ذهابا وإيابا من دون قلق واضطرابات وخوف من ضياع الحجز أو أيّ مشكلة مرافقة للسفر. يكفي أن يزور أحد مطار الجزائر العاصمة أو أحد مطارات باريس خلال الصيف، بالذات في فترة الذروة في تموز (يوليو) وآب (أغسطس) ويتأمل مكاتب تسجيل الرحلات المتجهة إلى الجزائر أو العكس، ليدرك حجم المعاناة التي يكابدها كل المعنيين بالرحلات، مسافرون وموظفو طيران على السواء. والحال من حاله مستمر منذ عقود بلا انقطاع وليس وليد وباء كورونا. ومع تفشي كورونا، وبسبب ارتباك السياسات وغياب المعلومات، اضطر الجزائريون المقيمون في باريس الراغبون في السفر إلى بلادهم للنوم عند مداخل المطار. وشهدت مكاتب التسجيل وصالات السفر صراخا وفوضى يُندى لها الجبين.
كيف يقرر عاقل، وسط كل المصاعب المرتبطة بالسفر بين الجزائر وفرنسا وجائحة عالمية غير مسبوقة، توجيه كل حالات عودة الجزائريين إلى باريس؟
المسؤول عن هذا القرار العبثي يجب أن يحاسَب. فعلاوة على المشاكل التي زادها على وضع لا يُحتمَل أصلا، قدّم صاحب القرار بقراره خدمة للاقتصاد الفرنسي وللمطارات الفرنسية. إذا كان كل مسافر جزائري اشترى أثناء عبوره قنينة ماء وشطيرة فطائر فقط، علينا أن نتوقع أن رقم المداخيل لا يُستهان به. ناهيك عن الجباية المفروضة على حركة الطائرات والمسافرين وغير ذلك من الخدمات التي تتطلبها الرحلة. فوق كل الحسابات الآنية، يكشف القرار عن أزمة يعانيها المسؤولون الجزائريون. بعد كل هذه السنوات وكل التغييرات الاجتماعية والسياسية والذهنية في الجزائر وغير الجزائر، لا زال هؤلاء يختزلون العالم كله في فرنسا. ولا زالوا يفكرون بعقلية الستينيات من القرن الماضي عندما كانت الجالية الجزائرية في الخارج مرادفا لفرنسا ومصانعها السامَّة ومراقدها البائسة والموحشة.
سيحفظ التاريخ الطريقة الفريدة التي أدارت بها السلطات الجزائرية أزمة كورونا. سيحفظ أن هذه الطريقة البائسة أوجدت شعبين لبلد واحد، شعب الداخل وشعب الخارج. بدلا من الاختفاء وراء الحلول السهلة والانفراد بكونها الوحيدة التي تمنع شعبها من زيارة وطنه، كان أحرى بهذه السلطات أن تشدد إجراءات العودة وتفرض شروطا قاسية على مَن يُصرّ على السفر قبولها وتحمّل تبعاتها وتكاليفها. يحق أيضا التساؤل متى يتعلم المسؤولون الجزائريون أن تغيير وضع معيّن، يتطلب مراعاة بعض الظروف الإنسانية. نقرأ باستمرار عن حكومات تقوم بتحديث شروط السفر منها وإليها وفق تطور الوضعية الوبائية، لكن لم نقرأ يوما أن قرارا دخل حيز التنفيذ لحظة صدوره والناس بين مطارين. هناك دائما هامش من يومين أو ثلاثة يتيح للناس ترتيب أوضاعهم وفقا للمتغيرات الجديدة.
في انتظار صدور حكم قضائي في وقت متأخر من يوم أمس الإثنين، تتواصل مأساة العالقين في مطار شارل ديغول، رغم أن الحلول موجودة بقليل من الليونة والسمو فوق العناد، خصوصا أنهم أثبتوا خلوهم من الفيروس. وبينما هم جياعٌ محطمون على كراسي صالة الترانزيت، يمر قربهم جزائريون من طينة أخرى وأجانب نحو بوابات الركوب. والوجهة… الجزائر العاصمة.

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ماغون:

    النظرية الوجودية لروما أيام الإمراطورية الرومانية عملت بها باريس ولا زالت ضد بلدان شمال إفريقيا كما بلدان إفريقية أخرى.

  2. يقول Ahmed HANAFI اسبانيا:

    تحية للكاتب العزيز الذي يتابع هموم اهلنا في المهجر ويتقاسم معلوماته الغزيرة مع قراءه.
    لم أكن أعلم أن سلطات الجزاير جعلت من المرور عبر فرنسا شرطا لدخول البلاد د، وهي تتحدث دون توقف عن الاستعمار وأضراره ومخلفاته وضرورة الاعتذار والتعويض و … و .. .
    أما قصة العالقين في مطار باريس التي وصلت إلى القضاء الفرنسي، فقد تعرف انفراجا اليوم او غدا. ذلك أن وزير خارجية الجزاير بدأ زيارة لاوربا قصد الدفاع عن مصالح الوطن والمواطنين.
    عفوا، لقد بلغ إلى علمي للتو، أن السيد الوزير الح على ضرورة إجراء استفتاء لتقرير المصير في الصحراء.
    ومن شر البلية ما يضحك.
    شكرا للكاتب المحترم.

  3. يقول Sayad:

    اقترح على هؤلاء المسافرين النزول في فنادق على حساب السفارة الجزائرية لكنه رفضوا
    السبب الوجيه للاتجاه الى فرنسا لان معظم المغتربين الجزائريين في فرنسا، بسيطة !
    استراليا نيوزلندا كلهم منعوا دخول رعاياهم من الخارج رغم خلوهم من الفيروس حتى اشعار اخر.

    1. يقول Laraba:

      ليس صحيح أن أستراليا منعت مواطنوها من الدخول أو نيوزلندا. بريطانيا اغلقت ابوابها لكنها سمحت للبريطانيين بالدخول شرط الفحص والحجر أسبوعان من مالهم. غير هذا لا يوجد حكومة فعلت بشعبها ما فعلت الحكومة الجزائرية من ظلم وقهر انشالله رب العالمين ينتقم منهم في الدنيا قبل الأخرة.

    2. يقول الكروي داود النرويج:

      إن شاء الله Laraba

  4. يقول صالح/ الجزائر:

    السفارة الجزائرية بباريس أعلنت في بيان لها: “بعد اكتشاف حالة من السلالة المتحورة لفيروس كورونا بالجزائر يوم 25 فبراير 2021 تم اعلام الأشخاص المعنيين والبالغ عددهم 27 من طرف وكالة الخطوط الجوية الجزائرية في لندن بإلغاء تذاكرهم الخاصة برحلة باريس-الجزائر العاصمة” ، “ورغم هذا الاشعار الا انهم اصروا على التنقل الى باريس يومي 27 و 28 فبراير 2021 “، “قنصل الجزائر في كريتاي (فرنسا) كان قد التقى عديد المرات رفقة ممثل الخطوط الجوية الجزائرية منذ 02 مارس 2021 بأعضاء من هذه المجموعة ليتحدث معهم حول وضعيتهم و ضرورة العودة الى مكان اقامتهم في انتظار اعادة فتح الحدود”.

    إلا أنه “امام هذا الوضع، فإن الشركة الوطنية للطيران قد أبدت استعدادها للتكفل بتذاكر العودة نحو مقرات الإقامة ودفع تكاليف فحص بي سي آر (PCR) وتعويض تذاكرهم لندن-باريس مع التكفل بفائض أغراضهم ، كما التزمت بالتكفل بتكاليف الفندق حتى يتم تنظيم عودتهم “، و”على الرغم من الاقتراحات المقدمة بضمان عودتهم نحو مقرات إقامتهم (بريطانيا) فضل المعنيون البقاء في المنطقة الدولية”، “شركة الخطوط الجوية الجزائرية تكفلت خلال 15 يوما بتكاليف الإطعام وامور أخرى على امل أن يحتكم المسافرون المقيمون ببريطانيا إلى العقل وتفهم مجهودات الدولة الجزائرية لمكافحة العدوى” .

    1. يقول أمين جديدي:

      كأنك يا صالح تتكلم عن سفارة سويسرا وشركة جوية عالمية خارقة بدقتها وانظباطها. يا رجل هل صدقت أن هؤلاء الناس يريدون العذاب لأنفسهم وأولادهم بالبقاء في المطار كل هذه اليام.
      روايتك هي رواية السلطاة الجزائرية وصراحة لا ثقة فيها ولا احد يصدقها.

    2. يقول صالح/ الجزائر:

      الجزائر تُسير من الجزائر العاصمة وليس لا من لندنستان ولا من باريس … ، ثم هل “المأساة” ، في مطار شارل ديغول ، أقل سوءا وأفضل حالا من العودة إلى البيوت في بريطانيا إلى حين ؟ . الجزائر بلد واحد ، وشعب واحد يتواجد في الداخل في الخارج ، لكن المتواجدون خارج الحدود يعدون بمئات الآلاف ولا ينحصرون في 25 فردا يبحثون عن الإشهار بالابتزاز . لا ننسى أن الجائحة ، الأصلية والمتحورة ، جاءتنا من الخارج عبر مغتربينا . الجزائر مرت بشهر مارس ، “شهر الشهداء” الأبطال ، رحمهم الله ، من طينة : المصطفى بن بولعيد ، الذي استشهد في ليلة 22 إلى 23 مارس 1956 ، العربي بن مهيدي، الذي استُشهد في ليلة الثالث من مارس سنة 1957، والعقيدين سي الحواس وسي عميروش ، اللذين كتبت لهما الشهادة يوم 29 مارس 1959 ، والذين قدموا أرواحهم فداء في سبيل الوطن .

    3. يقول صالح/ الجزائر:

      يا سي أمين جديدي
      أنت حر في تصديق من وما تريد ، كما أنني حر في تصديق رواية السلطات الجزائرية .

    4. يقول هيثم:

      يا سي صالح: لماذا هذا الدفاع المستميت عن مثل هذه القرارات الخرقاء التي لا يقبلها عاقل ؟ الكاتب يتحدث عن مأساة مهاجرين عالقين في المطار الفرنسي منذ ما يزيد عن شهر ينامون ويتناولون طعامهم في ظروف مأساوية و منهم أطفال رضع و شيوخ مسنون و قد وردت أخبارهم في وسائل الإعلام الفرنسي التي استجوبت بعضهم. عادة عندما تتخذ السلطات قرارات الإغلاق تسمح لمثل هذه الحالات بمهلة قصيرة قبل تنفيذ قراراتها، مهلة تعلن توقيتا للتنفيذ يتيح إتمام سفرهم و وصولهم إلى و جهتهم النهائية. و في الحالة التي تتخوف السلطات من إصابتهم بعضا أو كلا بالوباء من حقها أن تحرص على وضعهم في الحجر الصحي بمجرد وصولهم. أما أن تتركهم يعانون في وضع مأساوي فهو أمر يثبت بوضوح انعدام الكفاءة وسوء التدبير لدى المسؤولين الذين التي اتخذوا هذا القرار و الذين رفضوا التراجع عنه.

  5. يقول عادل:

    اغرب بلد في العالم ، ظلم واستبداد وعناد ، ليس لهؤلاء البشر علاقة بالشعب..

  6. يقول عمر-الجزائر:

    الشعب الجزائري كله يعلم أن من يحكم الجزائر هي باريس،وخاصة بعد تمرير مهزلة إنتخابات 12/12 التي قاطعها 92% من الشعب الجزائري …لمن يريد التأكد فاليتابع نشاطات السفير الفرنسي في الجزائر واستقباله للوزراء ورؤساء الأحزاب السياسية والجمعيات التابعة للعصابة العسكرية الحاكمة.

  7. يقول AZADHIH:

    تحياتي لكم
    هذه هي الحقيقة بيعنها

    1. يقول سميرة كامبردح:

      أنا مغتربة في بريطانيا، ورأيت الطريقة التي تعاملت بها الحكومة البريطانية مع رعاياها العاقين في الخرج. الحكومة الجزائية كانت أرحم بكثير. الجزائريون عامة والمغتربون خاصة لا يفعلون شيئا لبلدهم ومعظمهم ينتقد بلده وينتظر ان تقدم له الحكومة كل شىء مجانا.

اشترك في قائمتنا البريدية