فرنسا وألمانيا الإبادة وأشياء أخرى

ليس من المألوف ولا من السهل على القوى الاستعمارية، قديما أو حديثا، أن تعترف بالفظائع التي ارتكبتها في حق الشعوب، وتطلب منها الصفح والغفران، أو تقدم لها اعتذارات على جرائمها. فهي تدرك تمام الإدراك ما يترتب على ذلك من آثار قانونية وملاحقات قضائية، ومطالب بدفع تعويضات مالية مجزية، قد تمتد لسنوات، أو عقود من الزمن. لكننا فوجئنا في أواخر مايو الماضي بخطوتين أقدمت عليهما كل من فرنسا وألمانيا. اعترفت فرنسا بالمسؤولية عن التطهير العرقي، الذي تعرضت له أقلية التوتسي في رواندا عام 1994. واعترفت ألمانيا بارتكاب جنودها ومستوطنيها أعمال قتل وحشية في جنوب غربي افريقيا الألمانية، أو ما أصبح يعرف اليوم بدولة ناميبيا بين عامي 1904 و1908. أقر البلدان بأن ما حصل كان إبادة جماعية. فما الذي دفعهما إلى ذلك؟ صحوة ضمير متأخرة للتخلص من أثقال الماضي؟ أم محاولة للتصالح من أجل المصالح؟
بالنسبة لألمانيا، جاء الاعتراف بقتل عشرات الآلاف من أفراد قبيلتين ناميبيتين مقرونا بالتزام بتقديم مليار ومئة مليون يورو لمشاريع التنمية في ناميبيا على مدى ثلاثين عاما المقبلة، لكن برلين حرصت على تسميتها «مساعدة طوعية» وليس تعويضات. ووعدت باعتذار رسمي وخطاب مصالحة سيلقيه الرئيس فرانك شتاينماير أمام ممثلي الشعب الناميبي في البرلمان، في زيارة لم يحدد موعدها بعد.
أما فرنسا ذات التاريخ الاستعماري الطويل في القارة الافريقية، فلم تقدم اعتذارا ولا تعويضا ولا حتى طلبا للصفح، بل اكتفى رئيسها إيمانويل ماكرون بإكليل من الزهور وكلمات «مؤثرة» ألقاها أمام النصب التذكاري لضحايا الإبادة العرقية في العاصمة الرواندية كيغالي. يريد الرئيس ماكرون طي صفحة الماضي الاستعماري لبلاده، والانطلاق نحو آفاق جديدة. وذهب إلى حدود لم يسبقه إليها رئيس فرنسي قبله، عندما وصف استعمار الجزائر بأنه «جريمة ضد الإنسانية». لكنه يكتفي بالاعتراف المجاني وخطوات رمزية ومحسوبة بدقة من حين لآخر. وعلى هذا المنوال نسج زيارته الأخيرة لرواندا. قال ماكرون بعبارات واضحة: «فرنسا تتحمل مسؤولية سياسية في رواندا، ومن واجبها الإقرار بمساهمتها في المعاناة التي لحقت بالشعب الرواندي». ولدى سؤاله عن رغبة الناجين في اعتذار صريح، أجاب: «لا أعتقد أن مصطلح الاعتذار هو المصطلح المناسب، هذا الاعتراف هو ما يمكنني تقديمه». وهذا الاعتراف اعتبره الرئيس الرواندي بول كاغامي خطوة تنم عن «شجاعة هائلة» كما اعتبر كلماته «أكثر قيمة من أي اعتذار»! لم تكن رواندا مستعمرة فرنسية، بل ألمانية، ثم بلجيكية إلى منتصف 1962. لكنها ظلت، على مدى نحو ثلاثة عقود، تتهم فرنسا بالتواطؤ مع نظام الهوتو، وتطالبها بالاعتراف والاعتذار عن تورطها في الإبادة، بسبب علاقاتها الوثيقة مع نظام الديكتاتور جوفينال هابياريمانا رئيس رواندا آنذاك، الذي أدى مقتله في حادث إسقاط طائرته في السادس من إبريل 1994 إلى مجازر مروعة ارتكبت على مدى مئة يوم أمام مرأى العالم. وفي ذروة هذه المجازر التي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص، قررت فرنسا التدخل بحجة تنفيذ «عملية إنسانية» تحت اسم «عملية التركواز» لكنها اتُهمت بغضها الطرف عن مرتكبي المجازر من القوات الحكومية والميليشيات التابعة لها، والسماح لقادتها بالفرار إلى الخارج.
وخلص تقرير فرنسي صدر عام 2019 إلى أن فرنسا تتحمل مسؤوليات «جسيمة ومروعة» بسبب «تعامي» الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران عن المؤشرات، التي سبقت حملة الإبادة، لكن الباحثين والمؤرخين الذين ساهموا في كتابة التقرير، لم يجدوا دليلاً على تواطؤ مباشر لفرنسا في الإبادة. وعلى خلاف ذلك، قال تقرير آخر أعدته شركة محاماة أمريكية، بطلب من الحكومة الرواندية، إن فرنسا كانت على علم بالتحضير لجرائم الإبادة، لكنها استمرت مع ذلك في تقديم الدعم لحكومة الرئيس جوفينال هابياريمانا، التي سيطر عليها متطرفون من عرقية الهوتو. تريد فرنسا ماكرون طي هذه الصفحة من الماضي الأليم، والانتقال إلى المستقبل، وهذا ما قاله عضو البرلمان الفرنسي هيرفي بيرفيل، الذي رافق ماكرون في زيارته إلى رواندا: «عبر الاعتراف بأخطاء الماضي، فإننا نستطيع التحضير لمستقلبنا هناك». وهو أيضا ما عبر عنه الرئيس الرواندي بقوله، إن زيارة ماكرون «تتعلق بالمستقبل وليس الماضي» ما يعني أن الاعترافات ليست سوى تفاهم مشترك بين حكومتين أو صفقة سياسية تتوقف بموجبها الحكومة الرواندية عن إثارة مسؤولية فرنسا عن المذابح، مقابل دعم فرنسي لرواندا وتطبيع للعلاقات بين البلدين. لم يكن إذن أمام فرنسا وألمانيا سوى الاعتراف بماضيهما الاستعماري، لكنهما رفضتا دفع التعويضات المستحقة لأهالي الضحايا، وجبر الضرر، كما تنص على ذلك القوانين الدولية وتقارير مجلس حقوق الإنسان. فهما تعلمان أن القبول بمبدأ التعويض سيجر عليهما مطالبات بمليارات الدولارات من مستعمرات أخرى. وهو ما تخشاه أيضا دول أوروبية أخرى مثل بلجيكا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا. لكن اعترافا بدون جبر الضرر هو اعتراف أجوف، منقوص وغير مكتمل أخلاقيا. لأن أهالي الضحايا المتضررين بشكل مباشر لن يستفيدوا شيئا من اعتراف، تم التفاوض بشأنه بين الحكومات خلف أبواب مغلقة. وهذا ما أكد عليه ممثلو ضحايا الإبادة في ناميبيا، الذين رأوا تناقضا وعنصرية في الطريقة التي تعاملت بها ألمانيا معهم مقارنة بتعاملها مع ممثلي ضحايا المحرقة اليهودية. أولا بترددها لفترة طويلة في الاعتراف بمسؤوليتها عن الإبادة، وثانيا بالنزر اليسير الذي أعلنت عن تقديمه. في حين أنها سارعت إلى دفع تعويضات باهظة للناجين من المحرقة ولإسرائيل، ولاتزال تدفع حتى الآن. فضلا عن إحيائها ذكرى الهولوكوست كل سنة منذ عام 1996 لترسيخ ما يعرف بثقافة التذكر ومحاربة ثقافة الإنكار، بينما تتجاهل أو تتعامل بخفة مع الجرائم والفظائع التي ارتُكبت في حق شعوب أخرى.

لم يكن أمام فرنسا وألمانيا سوى الاعتراف بماضيهما الاستعماري، لكنهما رفضتا دفع التعويضات المستحقة لأهالي الضحايا

تريد فرنسا وألمانيا إنهاء السجال الطويل حول جرائم الإبادة الجماعية في رواندا وناميبيا، وطي صفحة الماضي من أجل فتح صفحة جديدة ظاهرها الصلح والمصالحة، وباطنها الحفاظ على النفوذ والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية في قارة شاءت أقدارها أن تكون في الماضي كعكة تقاسمتها القوى الاستعمارية الأوروبية، وأن تكون اليوم ساحة تنافس اقتصادي محموم بين هذه القوى القديمة وقوى جديدة، تتمدد بهدوء وثبات وتعزز وجودها كما تفعل الصين وروسيا. لكن الكثير من الأصوات في رواندا وناميبيا ومستعمرات أفريقية سابقة، مازالت تعلو مطالبة بمصالحة حقيقية قائمة على احترام الشعوب وتعويضها لا إهانتها عبر عقد صفقات مع حكومات لم تحسن التفاوض على حقوق شعوبها، كما تفعل الدول الغربية نفسها التي تصر على تعويضات فلكية عندما يتعلق الأمر بهجمات تستهدف مواطنيها، والأمثلة على ذلك كثيرة من الماضي القريب.
إعلامي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية