فشل البديل العلماني في إزاحة خصمهِ الإسلامي عن السلطة في العراق

حجم الخط
0

قرنٌ سياسيٌّ حافلٌ بالتحولاتِ الفكريّة، مرَّ على العراق، إبان تأسيسِ دولتهِ الذاويةِ في أتونِ الانقلاباتِ السياسية، ولغايةِ اللحظةِ الراهنةِ بالاصطراع، كان نصيبُ الأيديولوجيـا العلمانية في خضم تلك المسارات الوجودية للأنظمة السياسيّة يَعْبرُ معدّلات النجاح المئوية على نظيرتها الأيديولوجيا الإسلامية. لذا سارتْ البلاد بهيكلها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ضمنَ مناخٍ كان وليد اللحظة العلمانية التي اِنبثقت من أيامِ «ليبرالية كامل الجادرجي» مروراً بالشيوعية العراقية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، واستمراراً للصراع الدائر بين أذرعِ العلمنةِ السياسية (من شيوعيّين وقوميّين وبعثيّين) منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولغايةِ إعلانِ صدّام حسين، فلسفتهِ السلطوية القائمة على ثنائيةِ «القبيلةِ والدين». لربما يتساءل البعض عن أي علمانيةٍ يعنيها كاتبُ السطور، ليسبغها على مافياتٍ سياسيةٍ كـ «سلطة الحرس القومي والبعثِ معاً»؟ لاسيما أنّ أولى أبجدياتِ العلمنة، هي الإيمان بالديمقراطية، باعتبارها السندان الذي تتكسرُ عليه مطارق الديكتاتوريات، وما الأخيرة سوى هويةٍ عقائديةٍ للمافيتين الحاكمتين أعلاه.

هزائم علمانيـة متواليـة

قصديةُ وضع القوميّين والبعثيّين في خانة العلمانية العراقية، جاءت على خلفياتِ الاعتقاد السياسي لكليهما بقوانين ساهمتْ في استدامة المناخ المدني العراقي، كقانون الأحوال الشخصية، وتحجيم دور السلطة الدينيّة، وضمور السلطة العشائرية قِبال القانون المدني الذي أخذ مساراتهِ التطبيقية بُعيد سلطة 14 تموز-يوليو العام (1958م). ولا نعدم المدنية الحياتية القائمة طيلة سنيِّ العهد الملكي (1921- 1958م) الذي يُعدُ ربيع الليبراليّة في العراق.
إذاً، نحنُ أمام مناخٍ علمانيٍّ ساهمَ في تكوينِ سلوكياتٍ مجتمعيةٍ متمدِّنة، وطغى بكل مكامنهِ المؤدلجة على الأغنيةِ والقصيدةِ وسائرِ الفنونِ والحياةِ العامة، بما ينيفُ عن نصفِ قرّن. أي ما يزيدُ عن خمسةِ عقودٍ لم تسعف المسار العلماني في تثبيتِ وجودهِ في الحاضر العراقي الجديد (2005-2021م) خصوصاً بعد سقوط الالتزام الأخلاقي في بعديهِ السياسي والقيَّمي، لقوى الإسلام السياسي المتنفذة، التي باتت تتقافزُ مؤخراً على أكثرِ من هويةٍ مدنيةٍ لديمومةِ وجودهِا السلطوي وبالآلياتِ الديمقراطية المتمثلةِ في الانتخابات، في حين تُثقل قوى العلمنة السياسية والفكرية بهزائمٍ متوالية، أمام الإسلاميّين الذين أثبت أداؤهم السياسي والخدمي فشلهُ لمراتٍ عديدة. فيا ترى أين يكمنُ الخلل في هزائم العلمانيـة؟

الجُرح العقائدي المستفــز

ولماذا لا يستطيع البديل العلماني، بكل أرشيفهِ وتاريخهِ السياسي، إزاحةِ خصمهِ الإسلامي عن السلطةِ المُمسكِ بها منذ سنين؟ يستثمرُ الإسلاميّون العراقيّون، بكل دهاءٍ خلفيةِ الصراع العقائدي بين المرجعيّات الدينيّة «الروحيّة» وقوى العلمنة السياسيّة العراقيّة، الكامن في معادلة «التحرر والمحافظة» «المرأة والشريعة» «الدين واللا دين» «الماديات والغيبويات»..إلخ. حيث قادتْ هذه المعادلة إلى نقشِ جروحٍ عقائديـة في ذاكرةِ المؤسسةِ الدينيّة (أعني هنا المؤسسة الشيعية في النجف الأشرف) لم تستطع التقلبات الزمانية والوجودية للأنظمةِ السياسيّة على محوها أو استشفائها، لاسيما في الصراع المرير بين مرجعيّةِ السيد محسن الحكيم (1970م) وحكومة عبدالكريم قاسم (1958-1963م) وخلفيات الواقع السياسي آنذاك ممثلاً في الحزب الشيوعي العراقي (رافع لواء التحرر والقوانين المدنية).
إذ كمُنَ أولى الصِدام العقائدي بين قوى سلطة 14 تموز- يوليو والمرجعية الدينيّة، في إقرار قانون الأحوال الشخصيّة (قانونٌ شرعهُ البرلمان في العهد الملكي لكنهُ لم يُقر لطبيعةِ العلاقة الإيجابية بين النظامِ والمؤسسة الدينية حينها). ولا نخفي إقرار قوانين أخرى أرَّقَـتْ مناخ العلاقة بين الطرفين، من ضمنها قانون الإصلاح الزراعي، الذي مثلَ ضربةً للإقطاع الاقتصادي الحليف لمرجعيّةِ النجف.
توالي الصراع (العلماني – الديني) تجلى بوضوحٍ إبانَ طائفيّةِ الحكمِ العارفي الأول، والعهد البعثي الثاني الذي تمخضَ عن قتلِ المرجع الديني البارز محمد باقر الصدر(أعدم في نيسان- إبريل 1980) ومنع السلطات وقتها الطائفة الشيعية من ممارسةِ شعائرها الدينية، ناهيك عن شجون الحرب ومجازر التسعينيات المنصرمة. هكذا حكوماتٍ حُسِبَتْ على العلمنةِ والتمدنِ السياسي، وخلقتْ مناخاً مدنيّاً للبلاد، مُدَعَمَاً بقوانينٍ مثبتة دستورياً، جعلتْ الحِراك الديني بشقيهِ الفقهي والسياسي، لا يرى العلمانيةَ إلا بعدساتِ المظلومية العقائدية من الشيوعيّين، وبمنظارِ المجازرِ الدمويّة من البعثيّين.
وليست الحركات الليبراليّة بمعزلٍ عن ذلك الاتهام، إذ تحالف الزعيم السياسي إياد علاوي في المواسم الانتخابية للأعوام (2005-2010-2014) مع بيئاتٍ مجتمعيّة ذات أمزجةٍ سياسيةٍ بعثية، وانضمام مختلف الشخصيات العلمانية تحت يافطة «القائمة العراقية» و«التيار المدني» جعلتْ المؤسسة الدينية تنظرُ لمجملِ القوى العلمانيّة من عدسةِ جرحها العقائدي المستفز في كلِّ لحظة.
هذا التوتر الأيديولوجي ما بين المؤسسةِ الدينية والعلمانية العراقيّة، استثمرته قوى الإسلام السياسي أيما اِستثمار، وهو أحد أبرز أدواتها في البقاءِ داخل السلطة، إذ عملتْ الأخيرة على بناءِ شبكةِ تحالفٍ عقائدي، يُلبي رغبةَ المؤسسةِ الدينيّةِ في تثبيتِ قوانينِ الشريعةِ دستورياً، وإناطة الرعاية الحكومية للشعائر الطقوسية على مدارِ17 عاماً، فضلاً عن امتيازاتٍ كانت معدومةً طيـلةَ العهـودِ السـابقة.
هذا التحالف العقائدي، استعدى المناخ المدني العراقي، وجعل التطرف الديني واللا ديني، سيّد الميدان السياسي والاجتماعي ما بين العلمانيّين والإسلاميّين، على الرغم من فشلِ التجربة السياسيّة للأحزابِ الإسلامية، لم يشرع العلمانيون إلى تبديدِ مخاوفِ المؤسسةِ الدينيّة، وبث رسائل اطمئنان تردم الفجوة العميقة بين الطرفين؛ فالإيغالُ الطائفي المتطرف من الساسةِ الإسلاميّين (شيعة وسُنة) وهو إيغالٌ كادَ أن يقضي على الهويةِ الوطنية، بعدما قضى على مناخِ التمدُّن السياسي والاجتماعي، دفعَ الضدَّ النوعي إلى ممارسةِ خطاباتٍ تشهيرية ودعمِ نشاطاتٍ مدنية، استشعرَ العقلُ الفقهي، أنها محاولاتٌ للنيلِ من المقدسِ الديني، واسترجاعٌ لحاكميةِ العقلِّ السابق، الذي من الممكن أن يُهدد المكاسب الدينيّة في عراق ما بعد2003.

الحاجةِ المعنويةِ والماديّة

أضحى العقلُ الجمعي في العراق، رهينةَ المقدسِ الديني، والغالبية الاجتماعية تعيشُ في صراعي الحاجةِ المعنويةِ والماديّة، وأثبتت التجاربُ أنها تقدم الأولى على الثانيّة، ومع كلِّ موجةِ نفورٍ ديني، تعود نتائجها بالإيجابِ على قوى الإسلام السياسي، حينما تكسبُ بين حينٍ وآخر، ودَّ المؤسسةِ الدينيةِ عقائدياً على الأقل، وتعاودُ طرح نفسها حارسةً لعقائدِ الناس مع قذفِ العلمَنتين السياسيةِ والفكرية، بتهمِ «الإباحية» و«الانحلال» و«الضلال» وهي تهمٌ وشبهاتٌ لم تستطع الأخيرة دفعها عنها، نتيجة سلوكيات الكثير من نخبها وأفرادها، التي تعزز تلك الاتهامات في ذهنيـةِ الناخب المؤطرة بالخلفيـةِ العقـديـةِ المُحافظة.
بات اليوم غالبيـة العراقيّين، بلا هويـةٍ سياسية، لاسيما في محافظات «الوسط والجنوب» التي ندَّدت وتُندِّد بكل مآلاتِ السلطة التي قادها المحافظون الدينيـون، في وقتٍ تفشلُ قوى العلمنة السياسيّة في استثمارِ كل هذا الحنقِ الجماهيريِ على خصومها. وما زالت تعتقـد أنّ هذه الجماهير ستقلبُ الرِهانَ السياسي لصالحها انتخابيـاً، بيـدَ أنها لا تعرف أنّ هذا الإحباطِ المجتمعي يتمُ معالجتهُ وتعبئتـهُ طائفيـاً واستثمارهُ عاطفيـاً في كلِّ موسمٍ عقائديٍّ من السنةِ الهجريـة، لتعاود حليمة عادتها القديمة عبرَ صناديقِ الاقتراع.

أكاديمي عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية